الطاعة المقدسة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004
إن البر بالأبوين لا يعني أبدا أن يمحو احدهما شخصية الابن أو الابنة, أو أن يتسلط تسلطا تاما على حياته, فلا يخطو خطوة في أي اتجاه إلا بإذنه وقبوله, ولا يعني أن يتخذ أحد الأبوين القرارات المصيرية دونه خاصة إذا كان الابن راشدا وقادرا على إدارة حياته.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة في منتصف
العشرينيات من عمري ونحن ثلاثة أبناء أنا الكبرى بينهم وقد نشأنا بين أبوين
متعلمين تعليما جامعيا، لكن كانت الكلمة الأولى والأخيرة بالنسبة لجميع شئون
حياتنا هي لوالدتي, وقضينا زهرة سنوات حياتنا في الدول العربية, ولذلك حصلت
على الثانوية العامة من إحدى دول الخليج, وعدت بعدها إلى مصر, حيث التحقت
بإحدى كليات القمة بجامعة الإسكندرية, والحمد لله رب العالمين فقد أنهيت دراستي
بالجامعة دون أي مشاكل, وفي العام الأخير من الكلية تقدم لي العديد من الشباب
للزواج مني, إلا أن أمي كانت ترفضهم لأسباب تراها هي, إلى أن تقدم لي منذ نحو
عام ونصف العام شاب من الوجه البحري لا صلة لنا به ولا نعرفه ولا يعرفنا .. ولكن
والدتي رأت فيه أنه الشاب المناسب لي من جميع الوجوه المادية والاجتماعية
والأدبية .. لكن هذا الشاب الممتاز من وجهة نظر والدتي ليس من أبناء
الإسكندرية, ولذلك فقد اشترطت عليه الإقامة بالإسكندرية, فوافق أهله برغم أنه
وحيدهم, وذلك رغبة منهم في سعادته, ودون دخول في تفاصيل كثيرة فقد تسارعت
خطوات الزواج.. حتى تم زفافنا في الأسبوع الأخير من سبتمبر سنة 2002 في شقة
بالإيجار على أطراف مدينة الإسكندرية, و برغم حدوث بعض المشاكل البسيطة في
الطريق إلا أنها مرت جميعها بسلام .. لكن والدتي صنعت منها سجلا اسودا لأهل
زوجي.
وبعد انتقالي لمنزل
الزوجية ومعايشتي لزوجي وجدته إنسانا فاضلا يحبني ويقدرني ويغير علي من كل شيء
.. ووجدت معه كل معاني الحب والسعادة والهناء.
ومع بداية زواجنا
بدأ زوجي يطلب مني أن أراعي بعض الأمور كأن أغطي رأسي حيث كنت لا أضع أي غطاء على
رأسي, كما أنني كنت أرتدي البنطلون.. فطلب مني عدم ارتدائه, وأضع المساحيق
على وجهي فطلب مني عدم وضع المساحيق على وجهي خارج المنزل لأنني كما يقول أجمل
بدونها, ورحبت أنا بكل ذلك واقتنعت به وبأحقية زوجي في طلبه مني, إلا أنني
فوجئت بوالدتي الحبيبة تثور علي أنا وزوجي وتطلب مني عدم طاعته بدعوى أنه بذلك سوف
يلغي شخصيتي! واحترت ماذا أفعل؟ وحلا لهذا الإشكال كنت أرتدي أمام زوجي ما يرضيه
عني.. وبعد انتهاء إجازته وسفره إلى عمله وعودتي لمنزل والدي أرتدي ما يرضي
والدتي.
وبعد نحو عشرة شهور
من الزواج لاحظت أن زوجي يتعب كثيرا عند نزول الأجازة .. حيث يحضر إلى
الإسكندرية وبعد يوم أو يومين نسافر معا إلى أهله في مدينتهم لنمضي معهم جزءا من
الأجازة, ولذلك اقترح علي زوجي أن ننقل إقامتنا من الإسكندرية إلى مدينتهم حتى
يشعر ببعض الاستقرار والراحة خلال أجازته.. فقلت له إنني مقتنعة تماما بحقه في
ذلك, ولكن عليه أن يعرض الموضوع على والدتي لكي توافق على هذا الاقتراح,
وذهبنا إلى والدتي لعرض الأمر عليها .. وبمجرد سماعها للفكرة تكهرب الجو وثارت
علينا ثورة عارمة .. وتوعدتنا بالويل والثبور وعظائم الأمور إن تم ذلك النقل,
وقالت بصيغة الأمر النهائي .. إما أن نظل في الإسكندرية وإما أن يتم الطلاق بيني
وبين زوجي, وحجتها في ذلك أمران:
الأول: إن أثاث
منزلي أفخم من أن ينقل إلى الأقاليم, علما بأنني عندما زرت بعض زملاء زوجي
وأصدقائه وجدت عند بعضهم أثاثا أفخر من أثاث منزلي.
الثاني: إنه لا
يوجد في الأقاليم مدارس أجنبية.. وهي تريد أن يتعلم أبنائي في مدارس أجنبية,
علما بأنه لا يوجد عندنا من تعلم في مدارس أجنبية كما أن مدينة زوجي بها مدارس
خاصة.
وأنا الآن حائرة
بين الطرفين والدتي وزوجي, فكيف أوفق بين الرغبتين المتعارضتين؟ وكيف أحافظ على
حياتي الزوجية من أجل زوجي وطفلي الوليد ونفسي؟
إن والدتي تتوعدني بغضب الله علي إن
خالفتها .. وهي تقول لي بمنتهى البساطة إن الحل الأمثل لمشكلتي هو طلاقي, كأن
الطلاق أمر غاية في السهولة واليسر على المرأة وأيضا بكل بساطة تقول لي الآن ..
إنها سوف تطلقني .. وبعد انتهاء العدة .. سوف تزوجني ممن هو أفضل من زوجي
مادمت أطيعها.. لأن طاعة الأم أمر مقدس عند الله! فهل خراب البيوت والطلاق أمر
هين لهذه الدرجة؟ .. إنني لا أتخيل الحياة مع رجل آخر غير زوجي, كما لا أتخيل
الحياة لحظة واحدة دون ابني فلذة كبدي .. فماذا أفعل؟
ولكاتبة هذه
الرسالة أقول:
تمسكي يا سيدتي
بزوجك وحياتك الزوجية ودافعي عنها حتى الرمق الأخير, لكي يسعد طفلك بحياة آمنه
مستقرة بين أبوين متفاهمين متحابين.. أما إغراءات والدتك لك بالطلاق ووعودها
المسمومة بأن تزوجك ممن هو أفضل من زوجك الحالي ووالد طفلك, وبشراها لك بتأكيد
ذلك كمكافأة من السماء لك لأنك قد أطعت أمك ودمرت حياتك الزوجية ومزقت طفلك الوليد
بين أبويه, حيث إن طاعة الأم أمر مقدس.. فكل ذلك ليس سوى ابتزاز عاطفي لك لكي
تخضعي نهائيا لإرادتها وترفضي الانتقال مع زوجك إلى مدينته, ولو تطلب الأمر هدم
حياتك الزوجية رغم سعادتك بها, والحق أني أعجب لأم لا تشجع ابنتها على طاعة
زوجها الذي تحبه ويحسن معاملتها, وتطالبها بالطلاق منه لأنه قد فكر مجرد تفكير
في نقل مقر إقامته بعيدا عن مدينة الأم.
إن كل إنسان مسئول
عن حياته واختياراته, وأنت زوجة وأم وتملكين إرادتك وحياتك, ومن واجبك أن
تلحقي بزوجك حيث يقيم, والطاعة المقدسة التي تشير إليها والدتك لكي تظل ممسكة
بقياد حياتك وتوجهه كيف تشاء, لا تنسحب على ما يتعارض مع الشرع والدين والحكمة
والمصالح المشروعة للبشر, فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, وزوجك أحق بطاعتك
له في هذا المطلب العادل المشروع, وهو الانتقال إلى مدينته.
يا سيدتي إن البر
بالأبوين لا يعني أبدا أن يمحو احدهما شخصية الابن أو الابنة, أو أن يتسلط تسلطا
تاما على حياته, فلا يخطو خطوة في أي اتجاه إلا بإذنه وقبوله, ولا يعني أن
يتخذ أحد الأبوين القرارات المصيرية دونه خاصة إذا كان الابن راشدا وقادرا على
إدارة حياته.. والإنسان يحتاج دائما إلى مشورة المخلصين من حوله في أمره, وليس
هناك من هما أحرص على مصالح الابن من أبويه, لهذا فإن مشورتهما في أمور حياة
المرء لها الأولوية القصوى, ولكن بشرط أن يكون الناصح متجردا من الهوى, وتكون
النصيحة خالصة لوجه الله وليست من نوع نصائح الطاعة المقدسة!
· نشرت
في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2004
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر