الضوء المبهر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

 الضوء المبهر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

الضوء المبهر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999


أنا شابة أبلغ من العمر 28 عاما نشأت فى أسرة ميسورة الحال وتولى تربيتى وتنشئتى ثلاث شخصيات الأولى والدي بدراسته الدينية المستفيضة ، والثانية والدتي المتعلمة المثقفة بعقلها الراجح وبساطتها .. أما معلمي الثالث فهو(بريد الجمعة) فلقد فتحت عيناي على بابك الجميل الذى أدمنته ولم تكن قراءتي له قراءة سطحية وإنما قراءة عميقة أتعلم خلالها من أخطاء الأخرين الذين يكتبون لك وأتعلم من ردودك عليهم .وكنت ومازلت أحتفظ بالكثير من الرسائل الجميلة التى نشرت فى بريد الجمعة أما لأنها رائعة ولا تنسى وأما لأنها صادفت هوى فى نفسى ، منها رسائل  " رحلة القطار" و" تحت المائدة "و" أرض الأحلام "و" الملابس المتهدلة "و" الفندق "وغيرها الكثير

ولقد قوم (بريد الجمعة) من سلوكى كثيرا فتخليت بإرادتى عن العناد ومناطحة أبى وأمى فى كل أمر وأبتعدت عن التعقيد وكل من شأنه أثارة القلق والمتاعب حولى ، وسارت حياتى هادئة وأصبحت الأثيرة عند أبى وأمى بالرغم من أنى الإبنة الوسطى ، وأسبغ الله من فضله على الكثيرفكنت دائما من المتفوقين والتحقت بكلية الصيدلة ومضت بى السنون وفى السنة النهائية فاجأتنى حالة من الخوف المستمر لم أجد لها تفسيرا فوجدتنى لا أقوى على دخول لجان الأمتحان وبصعوبة بالغة ذهبت الى الكلية وأديت الإمتحانات ونجحت وأنا لا أصدق أنى قد أجتزتها وفى هذه الأثناء التمست العلاج النفسى من الخوف الغامض وبدلا من ان يعالجنى الطبيب وقع فى غرامى على عكس المتوقع فى هذه الحالات ،فتركته وأيقنت أنه لا مخرج لى من هذه الأزمة إلا باللجوء لله واستعنت بالصبر والصلاة على هذا الخوف الغريب وكنت أعلم أنه إبتلاء من الله لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وبعد تخرجى عملت فى صيدلية قريبة من المنزل والدى يملكها صيدلى كان له أكبر أثر فى حياتى فحدثته عما أعانيه من هذا الخوف الغريب بعد ما لمست تدينه وقربه من الله وأيد تفسيرى له بأنه ابتلاء من الله  ليختبر به ايمان عباده الأحباء وأمرنى ان أتذكر هذه المرحلة من عمرى جيدا ولا انسى ما مررت به من عذاب بسبب هذا الخوف حتى يكون دافعا لى لأن أضع الله أمامى دائما وقبل أى خطوة أخطواها وقبل أى كلمة انطق بها .. وقال لى أيضا أن الذهب لابد أن يصهر لكى يصبح سبيكة وكذلك العباد الصالحون الذين يريد لهم الله مرتبة معينة لابد أن يصهروا بنار التجارب المريرة،وكنت أفتح إذانى لأسمع كلامه وأحفظه وقضيت عند هذا الصيدلى عشرة أشهر كاملة كان لى فيها بمثابة الأب وكنت له بمثابة الإبنة لأن الله لم يرزقه الأبناء .. وخلال هذه الفترة تقدم لى كثيرون رفضتهم لأنى كنت أتمنى فارسا فى خيالى أشعر بأنه لا وجود له فى عالم الواقع .

وذات يوم جاء إلى الصيدلية التى أعمل بها صيدلى شاب أعرفه جيدا لأن صيدلية والده تقع على ناصية الشارع الذى نسكن فيه وكان يعرفنى معرفة عابرة .واكن له الأحترام والتقدير ولا شىء أكثر من ذلك فوجدته فجأة يسألنى ما إذا كنت مرتبطة أم لا فأجبته بالنفى ووجدته يطلبى للزواج وعرفت منه أيضا أنه سبق له الزواج وأنه طلق زوجته بسبب عدم الإنجاب فطلبت مهلة للتفكير وأخبرت أبى وأمى بالأمر فوجدتهما يرحبان به لسمعة والده الطيبة ولأن موضوع زواجه السابق لا يعيبه لكنى لم أقتنع بهذا الكلام وجلست معه عدة جلسات لم أشعر بعدها بالارتياح فقررت رفضه فى النهاية.

ثم جاء والده إلى منزلنا وجلس معى جلسة طويلة أجاب فيها على كل الأسئلة الحائرة التى تدور بداخلى وعلمت بعد ذلك أن زوجته السابقة كانت تعلم أنها لن تنجب منذ أن كانت فتاة عذراء لكنها أخفت عنه هذا الأمر وبعد الزواج بستة أشهر صارحته بالحقيقة وبأن لها ملفا عند أكبر اساتذة النساء فى مصر فانطوى على المرارة تجاهها ثم صبر عليها أربع سنوات لم تقبل خلالها أن تقوم بعملية واحدة وأرجأت الأمر إلى أن يحدث الحمل تلقائيا بدون علاج ،فاستجمع أمره وقام بأداء العمرة ورجع منها بقرار الطلاق.

وعندما علمت ذلك هدأت هواجسى وقبلت الزواج منه وكان هو مستعدآ ماديا بالرغم من أن زوجته السابقة أخذت كل ما فى الشقة من أثاث ولم تترك حتى الأشياء الشخصية التى أشتراها لنفسه.

وكان أبى مستعدآ أيضا من الناحية المادية فتزوجنا سريعا بمجرد إعداد الشقة وبعد الزواج  اكتشفت صفات زوجى الرائعة من الأخلاق الراقية إلى الكرم الزائد إلى الهدوء فكان بحق الفارس الذى طالما حلمت به من قبل وتعجبت لزوجته السابقة كيف لم تضح ولو بنفسها من أجل إنسان كهذا وكانت بداخلى أسئلة كثيرة عن حياته السابقة وظروف طلاقه .. أحترق شوقآ لكى أعرف إجاباتها منه ولكنى كنت قد اتفقت معه اتفاقا ضمنيا ألا نفتح باب الكلام فى هذا الموضوع ،فمضى أول عام على زواجنا وأنا أتعامل معه بحدة وعصبية وأتصيد له الأخطاء !

وفى هذه الأثناء كان موضوع الخوف السابق مستمرا وإن كان حدته قد خفت قليلا وكنت أتعجب لعدم اختناقه من حياتى بالرغم من أن هناك الكثير الذى يشغلنى عن التفكير فيه كما كانت لى صديقة قريبة من قلبى تحدثنى دائما على أن أكون حسنة الظن بالله وكنت ابكى لسماعى ذلك منها وأسأل نفسى ألست حسنة الظن بالله؟ أننى أرى أنى وثيقة الصلة بربى إذن لم كل هذا الخوف؟

أما عن علاقتي بزوجي الحبيب ففى نهاية العام الثانى لزواجنا أتت اللحظة السحرية التى تتحدث عنها دائما فى ردودك وفتح هو باب الكلام عن حياته السابقة ووجدتنى أسأله كل الأسئلة التى حيرتنى واسئلة أخرى كثيرة كنت لا أستطيع أن أسأله إياها قبل الزواج.

وطال بنا السهر يوميا واجاب على كل ما كان يثير قلقى بشأن حياته السابقة .وهدأت خواطرى تماما بعد ذلك وصفت لى الحياة معه ،فلم نختلف بعد ذلك أبدآ وأصبحت رحلتنا معا شهر عسل متصلا وانجبت طفلين تقاسما بالعدل جمال القمر.وسافرنا منذ4 شهور فى إجازة قصيرة إلى الغردقة وهناك أقدمت على خطوة اغضبت منى زوجى بعض الوقت لكنه تجاوز عن غضبه بعد قليل بسماحته المآلوفة فلقد وهبنى الله شعرا نادر الجمال لم اضع فيه مقصا منذ صغرى وتركته على طبيعته فطال واسترسل حتى أصبح فتنة للناظرين.وقررت أن أخفيه عن العيون فلا يراه إلا من سيكون زوجا فى المستقبل فارتديت الحجاب وأنا فى المرحلة الإعدادية لم أخلعه عن شعرى ألا أمام زوجى بعد عقد قراننا.ورأى زوجى لأول مرة شعرى الطويل المسترسل الذى يصل إلى الساقين ،فانبهر به واتسعت عيناه من الدهشة والانبهار، وكان دائما شديد الإعجاب به وفى رحلة الغردقة هذه قررت فجأة أن اقصه من باب التغيير ولكيلا يمل زوجى من منظرى الذى لا يتغير واقدمت على ذلك دون استشارة زوجى وبالفعل استشاط غضبا ثم رجعنا من الاجازة ومضت بنا الحياة جميلة واعدة لا يزعجنى فيها سوى أن طفلى الرضيع ولسبب لا أعرفه ،كان يرفض الرضاعة من أحد ثديى ،ويرضع بصعوبة من الثدى الآخر، وتشعرنى الرضاعة بالألم فى صدرى وبعد استشارة الطبيب وزيادة الألم قررت فطام صغيرى وهو فى الشهر الثامن من عمره ووعدنى الطبيب باختفاء الألم من صدرى بعد أن يجف لبنه ، لكن اللبن لم يجف .. وفى هذه الفترة من حياتنا الزوجية قررت أنا وزوجى الحبيب أن ننتقل من الحى الذى نقيم فيه إلى حى أجمل وبدأنا رحلة البحث عن شقة جديدة ملائمة واعيانا البحث عنها بالرغم من كثرة المعروض من الشقق ،وذال ليلة رايت فى نومى نورا مبهرا يضيىء شقتنا ،وتغشى منه العيون،ونهضت من نومى مستبشرة خيرا بقرب العثور على الشقة المأمولة وبعد يومين فقط من هذا الحلم الجميل وفقنا الله سبحانه وتعالى على الحصول على شقة أقرب ما تكون إلى القصر منها إلى الشقة السكنية ،واتفقنا مع أصحابها على كل التفاصيل بلا مشاكل ،وخرجنا من عنده وأنا آتية زهوا بحياتى..انظر إلى نفسى فأرانى قد إزددت جمالا.وإلى حياتي فأرى زوجا تحسدنى عليه الأخريات وطفلين يلفتان النظر بجمالهما وشقة فاخرة وسيارة جميلة وصيدلية ناجحة ، وأهلا كراما يحبوننى واحبهم وصديقات اتشارك معهم الود الصافى فماذا ينقصنى وفى غمرة هذا الاحساس الشامل بالرضا والزهو وجدت نفسى اتساءل صامتة فى إشفاق ترى ماذا ستأخذ منى يارب لكى تتزن المعادلة ؟

إن كل شىء فى صالحي الآن ويدعونى للفخر والابتهاج .. فهل ستمضى الحياة على هذا النحو الجميل إلى النهاية؟

وعاودنى شىء من الخوف الغامض الغريب الذى سبق أن هاجمنى طويلا قبل التخرج ، ثم لازمنى بدرجة أخف بعد ذلك،وبعد يومين فقط من هذا التساؤل شعرت ببعض الألم فى صدرى وتوجهنا إلى الطبيب الذى أحالنا إلى استاذ مشهور وبعد فحوص سريعة فوجئت به يبلغنا بطريقة مباشرة وبلا أى محاولة للتخفيف عنا أن المرض اللعين قد هاجمنى فى صدرى ، وأن الحالة متأخرة ستة شهور عن موعد الاكتشاف الملائم وأن زوجى إذا كان يريد لى أن أحيا فعليه أن يدخلنى المستشفى غدا على اكثر تقدير لإجراء جراحة استئصال العاجلة بلا تأخير !

وانخرط زوجي فى بكاء مرير لم يستطع منعه أو التحكم فيه أمام الطبيب المشهور الذى اعلنه بالخبر على هذا النحو القاسى انفجرت دموع أمى كالسيل أما أبى فقد كان لحسن حظه مسافرا للخارج لكنه علم بالخبر من أمى فى نفس الليلة ولن أصف لك حاله حيئذاك رحمة بقراء هذا الباب .وفى اليوم التالى دخلت المستشفى وتم تحضيرى للجراحة على وجه السرعة وعلى خلاف عادتى فى قراءة شىء من أى الذكر الحكيم كل صباح .فأنى لم أقرأ القرآن فى ذلك اليوم وإنما تلوت الشهادتين ورحت أكررهما حتى غبت عن الوعى وسرى فى مفعول المخدر وتمت الجراحة بسلام ومررت بعدها بفترة عصيبة حتى استرردت قواى الخائرة ،ووجدت نفسى غارقة فى طوفان من المشاعر الجياشة التى غمرنى بها الجميع ،حتى أن أشخاصا لم تكن معرفتى بهم قد تجاوزت الشهرين  قبل المرض قد جاءوا لزيارتى فى المستشفى وغمرونى بعطفهم وتشجعيهم .أما زوجى وأمى وأبى واخواتى فلقد احاطونى بحبهم ورعايتهم ومشاعرهم وبدأت أتلقى العلاج الكيماوي اللازم بعد هذه الجراحة،واستغرقت هذه المحنة العصيبة شهرين حتى الأن وخرجت منها بعدة خواطر وتأملات أريد أن أشركك أنت وقراءك فيها .فلقد وجدت فيما جرى لى تفسيرا لذلك الحلم الغريب عن الضوء المبهر الذى رأيته يغمر شقتى حتى تغشى منه الابصار ،وظننته فى وقتها بشارة العثور على الشقة الملائمة وادركت أن هذا التفسير لم يكن صحيحا وأن هذا النور الذى رأيته كان اشارة مسبقة إلى نور الله الذى غمر قلبى يوم الجراحة وجعلنى لا أحتاج إلى أحد ولا أتطلع إلى غيره،وحاشاى أن أفعل وقد كان الله يملأ جوانحى ويبدد وحشتى وخوفى كما لاحظت كذلك أننى حين عرفت الخبر وأنخرط زوجى فى البكاء لم أبك وإنما اجتاحنى شعور غريب بالأمان والاطمئنان ،وزال عنى الخوف الغامض الذى حدثتك عنه من قبل واحسست بأن ما اعانيه لن يكون سوى أزمة عابرة وتذهب إلى حال سبيلها وهكذا فلقد وجدتنى بعد الجراحة مستبشرة ومبتهجة وزارنى الجراح الذى اجرى  العملية فوجدنى اضحك ولا أشعر بالحزن على فقدى لجزء من انوثتى فسعد كثيرا بحالتى النفسية وقال لى إنها جزء مهم من شفائى وبالفعل فلقد كانت ومازالت معنوياتى عالية ولم يكن يقلقنى سوى زوجى الحبيب الذى اعتصره الألم من أجلى ولم يستطع أن يخفى ألمه بالرغم من رؤيته لى وأن سعيدة ومبتهجة بعد الجراحة .. ولقد شددت أزره وقلت له اننا سوف نهزم السرطان بالسعادة،وأن ذلك هو العلاج القوى له فقويت عزيمته بعد أن رأى تماسكى.كما فهمت أيضا سر هذا القرار المفاجىء الذى اتخذته قبل أربعة شهور بقص شعرى الطويل المسترسل وأدركت أنه كان رحمة من الله بى .إذ لو كنت قد احتفظت به حتى داهمنى المرض كنت سأحتمل منظره وهو يتساقط  أمامى بسبب العلاج الكيماوي أم كان  قلبى سينفطر حزنا عليه؟ وحمدت الله كذلك أن جعلنا برحمته من القادرين على تحمل نفقات العلاج الباهظة وفكرت فى حال غيرى من المعدمين الذين لايقدرون على تحملها ولم نكن ننتظر هذه المحنة لكى ندرك ذلك فكان جزء ثابت من زكاة مالنا يذهب دائما للمعهد الذى يعالج البسطاء من هذا المرض الخطير سواء بالنسبة لزوجى أو لأبى.

ولقد حمدت الله أيضا أن ما حدث لم يصب أحدا سواى وتساءلت كيف كنت سأحتمل الحياة لو كان ما حدث لى قد أصاب أبى أوأمى أو زوجى ،وعرفت من هذه المحنة أيضا أصدقائى من غيرهم،فبعض من كنت احسبهم أصدقائى لم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عنى.وبعض من كنت أحسبهم من المعارف قد اظهروا لى من صادق الود والاهتمام ما يجعلنى مدينة لهم بالشكر طوال الحياة ،اما أهم الخواطر والتأملات فهى أنى قد تعجبت لنفسى حين ابلغنا الطبيب الكبير الخبر بطريقة خالية من الرحمة فلقد كانت فكرة الموت بعيدة تماما عن خاطرى،فعرفت من المحنة أننى كنت مغرورة بشبابى وصغر سنى وسألت :نفسى لماذا لم تتعظى أيتها المغرورة بوفاة صديقة طفولتك وهى تضع مولودها الأول فى عمر الثالثة والعشرين واكتفيت بتوديعها بالدمع السخين ،دون أن تتحسبى لاحتمال اقتراب نفس هذا الزائر منك! وهل لابد أن يحدث للمرء حادث جلل لكى يعرف أن الموت زائر قريب لا يرتبط بالأعمار ولا المواعيد ويمكن أن يحل فجأة فى المكان.

لقد شكرت الله على أن نبهنى إلى ذلك لكى استغفره كثيرا وأستعد للقياه طاهرة من كل ذنب فى أى مرحلة من العمر،وهذا أفضل كثيرا من أن تنطوى صفحة الحياة فجأة وفى العمر ما فيه من الذنوب التى لم يكفر عنها المرء بعد .. ولم يستعد للقاء الحبيب .. كما قد تذكرت كلمات الصيدلى الذى عملت معه فى البداية بأن أضع الله نصب عينى دائما فى كل لحظة وكل خطوة .. ولقد ألتزمت بذلك ولم يبق لى من رجاء سوى أن يمنحنى الله الوقت والعمر لكى أزور بيت الله الحرام الذى زرته من قبل فى طفولتى ،وكل ما أرجوه منك ومن قرائك الأعزاء هو أن تدعو لى الله بالشفاء وبأن يطول عمرى حتى أتمكن من زيادة بيت الله الحرام لأرجع منه كما والدتنى أمى وعندها لن يشغل خاطرى أمر الطفلين اللذين لم يكمل أصغرهما عامه الأول  لأنهما سيكونان دائما فى رعاية من هو أكبر وأعظم من الجميع جل شأنه،وأخيرا فإنى أتمنى أن التقى بك وزوجى فى مكتبك لأسمع منك.

 

 
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

 

ذكرتني رسالتك المعبرة هذه بما كان يقوله حكيم الهند طاغور عن نفسه وقد كابد من آلام الحياة الكثير ،من انه يداوى آلامه بالتأمل و(الفرح الداخلي) الذي يصهر به الألم في بوتقته الداخلية ويحيله إلى فهم أعمق لحقائق الحياة.

والحق أن  في رسالتك  الكثير والكثير مما يستحق الوقوف أمامه وتأمله والتفكر فيه ،غير أن اكبر ما يدعو إلى الإعجاب به ،منها هو هذه النفس الجميلة المطمئنة الخالية من المرارة والمتفائلة بالحياة والعامرة بنور الإيمان المبهر ، التي تأملت كلماتها الحكيمة وسطورها النبيلة..

لقد قرأت ذات مرة كلمة جميلة للمفكر العربي السوري الدكتور مصطفى السباعي يقول فيها:من عرف ربه رأى كل شيء في الحياة جميلا ! وأنت قد عرفت ربك وغمر ضوء الإيمان الباهر جوانحك ،فأحال كل شيء  في الحياة حتى محنها وآلامها القاسية لديك إلى أمان واطمئنان ،وثقة في رحمة الله ورعايته للمتقين ،فلا عجب في أن تتخلصي من الخوف المرضى الذي داهمك لعدة سنوات من قبل وكاد يقعد بك عن استكمال الدراسة،فكأنما قد كان إرهاقا غامضا بما تدخره لكي الأيام من اختباراتها فما إن وقعت حتى تخلصت  أنت من سطوة الخوف عليك وسكنت نفسك وتحفزت إرادتك   لمغالبة شدائد الحياة  والصمود لها.

ولقد رويت من قبل قصة من الأدب القديم عن رجل سطا لص على بيته فسرق كيس نقوده ،فما أن اكتشف ذلك حتى استسلم للغم بضع دقائق ثم ما لبث أن تفكر قليلا فيما وقع له ثم نفض عنه غمه وقال لمن معه :أحمد الله  أنها أول سرقة أتعرض لها ،واحمد الله على أن المبلغ المسروق وان كان كل ما املك في هذه اللحظة إلا انه ليس كبيرا،واحمد الله على أن اللص الذي سرقني لم يقتلني وهو يسرقه،أما أعظم ما احمد الله عليه فهو إنني المسروق ولست السارق مما يعنى أن لدى ما يستحق السرقة ،ويعنى أيضا وهو الأهم إنني رجل شريف!

وهكذا فقد أحال الرجل ما أصابه إلى حدث يذكره بنعمة الله عليه وليس إلى أمر يستثير نقمته على أقداره.

ولقد نحتاج أحيانا لان تذكرنا الحياة من حين لآخر بنعم الله علينا لكي نشكره عليها حق شكره وترضى عنها،فالإنسان أكثر ما يكون غفلة عن هذه النعم حين يكون مغمورا بها ،و يركد تيار الحياة من حوله فلا يذكره بواجب الشكر عليها.

ولقد سأل رجل الإمام الشافعي –رضي الله عنه-:أيهما أفضل للرجل أن يمّكن (إي أن يبلغ أمله)أو أن يبتلى؟ فأجابه :انه لا يمّكن  حتى يبتلى ،ثم أضاف :أن الله ابتلى نوحا وإبراهيم وموس وعيسى ومحمد لصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-فلما صبروا مكنهم!

ولقد صبرت يا سيدتي وأحلت ألامك (بالتأمل والفرح الداخلي)إلى الابتهاج بالحياة وتفاؤل بالغد ،ولسوف"يمّكن" لك الله سبحانه وتعالى برحمته ويبلغك كل أمالك في الحياة ويحفظك لأسرتك وزوجك وطفليك .. وكما سوف تنتصرين ( بالسعادة ) كما قلت لزوجك الحبيب على المرض اللعين وتصمدين له.وتطول بكى أيامك فترقبين طفليك الصغيرين وهما يدرجان في مدارج العمر.ويشتد عودهما ، ويخرجان إلى الحياة شابين صالحين رضعا الإيمان بالله من أبويهما.وتشربا حب البشر والخير والحياة منهما.

أما بيت الله الحرام الذي ترجين أن يطول بكى العمر لكي تزوريه فلسوف تطوفين به، وترجعين إليه مرات ومرات خلال رحلة العمر السعيدة المديدة بإذن الله.وأهلا بكى ومرحبا مع زوجك الكريم مساء الاثنين المقبل إن شاء الله .

  

رابط رسالة المعادلة الصحيحة تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة النفس الممرورة تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة الفصل الأخير من زوج الكاتبة ينعي فيها زوجته

                نشرت عام 1999 في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام

كتبها من مصدرها / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر/ نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات