البحر الصامت .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

 البحر الصامت .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

البحر الصامت .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

إن من صالح العلاقات الإنسانية أن يستشعر الإنسان دائما قدرا صحيا من الخوف من أن يفقد الآخرين إذا هو أفرط في الإساءة إليهم، ذلك أن الاطمئنان الغافل إلي أنه لن يفقدهم أبدا مهما فعل بهم قد يغريه على الاستهانة بهم‏..‏ وبعدم التحسب كثيرا لردود أفعالهم‏.
عبد الوهاب مطاوع

قرأت على مدى سنين طويلة باب بريد الجمعة‏,‏ وكم تمنيت أن أكتب لك عن مشكلتي‏,‏ لكن منعني يأسي من تغيير أحوال زوجي‏,‏ إلى أن قرأت رسالة‏ (‏حد الكراهية‏)‏ وما تبعها من ردود سواء في رسالة‏ (‏ الثمار الطيبة‏)‏ أو كلمة الدكتورة منار محمدي طه من نيويورك‏,‏ وأحسست كم كانت الأخيرة قاسية في حكمها على كاتبة رسالة حد الكراهية‏,‏ فأنا ومثيلاتي ممن عشن نفس ظروف هذه السيدة هن من يعرفن معنى أن تعيش المرأة وتتفانى في خدمة زوجها وأولادها ولا تجد من زوجها في نهاية المشوار غير الجحود والإساءة.

 

‏ فقد تزوجت منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عاما‏,‏ زواجا تقليديا‏,‏ وكان زوجي جامعيا أراه يصلي‏,‏ فتوسمت فيه أن يكون رجلا متعلما يخشى الله في أفعاله‏,‏ فإذا به بعد زواجي منه بفترة قصيرة يأتي بعصا وعلى سبيل المزاح وينزل بها ضربا علي‏,‏ وأنا مذهولة لما فعل‏,‏ وكان كل ما فعلته هو أن جلست أبكي ولم يعلم أحد من أهلي بما حدث‏,‏ فإذا بالضرب يتكرر بعد ذلك باستمرار‏,‏ وقبل أن أفعل أي شئ اكتشفت أني حامل‏, فصبرت على أمل أن يهديه الله مع الأيام‏,‏ فإذا به  يزداد سوءا‏,‏ وأصبح الضرب والسب بأقذر الألفاظ هما أسلوبه في التعامل معي ومع أولاده إلى جانب انه لا يستمر في أي عمل أكثر من سنة أو أكثر قليلا‏,‏ وفي كل مرة يبحث له أهلي عن عمل آخر إلى جانب مساعدتهم المالية لي ولأولادي‏,‏ وفي النهاية لا يلقون منه غير الكره‏,‏ ولا يسبني إلا بأهلي‏,‏ ويتعمد أن يرفع صوته حتى يسمعه الجيران‏,‏ لأنه في نظره عندما يسمعون سبه وضربه لي تكون تلك هي الرجولة‏,‏ في حين أنه شديد الجبن خارج المنزل‏,‏ إذا ما تعرض لأي موقف‏,‏ كما انه بخيل جدا وأناني ولا يرى في الدنيا شيئا سوى نفسه ومتطلباته من أكل وملبس‏,‏ وإذا طلب منه الأولاد قميصا أو بنطلونا أو حذاء تكون المشكلة‏.

 

لقد أصبح أبنائي جميعا في سن الشباب ولا يعلم عنهم شيئا ولا ما هي مشاكلهم ولا ماذا يريدون‏,‏ وهو يؤمن دائما بأن الصوت العالي يجعل الجميع في حالة طاعة عمياء وما أعانيه الآن هو أن أولادي جميعا إذا كان أحدهم نائما وسمع أي صوت ينهض مفزوعا من نومه‏,‏ كما أنهم يكرهون شيئا اسمه الزواج ولا يفكرون في الارتباط نهائيا‏,‏ لقد تحملت الكثير من أجل أبنائي‏,‏ وكنت أدعو الله دائما أن يهدي زوجي ويغير من أحوله‏,‏ إلا أنه كلما تقدم به العمر يزداد جبروتا‏,‏ مما جعلني لا أكره شيئا في الدنيا قدر كرهي له ولسماع صوته‏,‏ وأبنائي الآن يرفضون استضافة أصدقائهم في المنزل خوفا مما يحدث يوميا من أفعاله المخزية وما يزيد حيرتي واستغراب جيراني الذين يسمعونه يوميا أنه خارج البيت يكون في قمة الذوق والأدب خاصة مع السيدات‏,‏ فهو يتحدث معهن بكل رقة‏,‏ وممكن أن يستمر الحديث ساعة وساعتين‏,‏ أما في البيت فليس هناك أي حوار من أي نوع  معي أو مع الأبناء‏,‏ وهو دائما من يتخذ القرارات‏,‏ وإذا حاول أحد منا التفاهم معه رفض المناقشة‏,‏ ومن ينطق بكلمة بعد ذلك يكون مصيره السب أو الضرب‏,‏ إنني أفكر الآن في الطلاق منه‏,‏ وأتمنى أن أعيش ما تبقي لي من عمر بكرامة بعيدا عنه‏,‏ لكن ما يعذبني هو أبنائي‏,‏ إذ كيف أهرب أنا من الجحيم وأتركهم فيه‏..‏ فهل لديك حل؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

لخصت جوهر المشكلة كلها في سطور رسالتك الأخيرة التي تبررين بها رفضك للنجاة بنفسك من هذا الجحيم‏..‏ وهو أنه يتعذر عليك أن تهنئي بالنجاة منه‏,‏ وأبناؤك يكابدون العيش فيه من بعدك‏.

‏ فالحق أنك تقدرين ـ إذا رغبت ـ على الانفصال عن هذا الزوج الذي لا يتعامل معك ومع أبنائه إلا بالضرب والسباب الفاحش والإيذاء المعنوي‏,‏ لكن مشاعرك كأم تكبل هذه القدرة بأغلال القهر بالأبناء والحرص عليهم والرغبة في حمايتهم‏,‏ وهذا هو القهر الإنساني الوحيد الذي يقبل به المرء راضيا ومحتسبا‏,‏ رحمة بأبنائه وحرصا علي مصالحهم‏.‏


لكن هل يعني ذلك قبول الإذلال والإيذاء البدني والإكراه المعنوي إلى ما لا نهاية؟ لا يا سيدتي‏..‏ إن لكل شيء حدودا ينبغي له ألا يتجاوزها‏,‏ مهما تكن الأسباب والدوافع والتطرف الشديد في أي شيء‏,‏ حتى ولو كان من الفضائل‏,‏ ليس من السجايا الحميدة ولا مما يسر علي المرء حياته‏,‏ ولاشك أنك قد أفرطت في السلبية مع هذا الزوج منذ البداية المبكرة‏,‏ حتى اعتاد الاستهانة بكرامتك الإنسانية‏..‏ وألف ألا يتعامل معك ومن ثم مع أبنائه إلا بالعصا أو السباب الفاحش‏,‏  إلى حد أن أورث أبناءه الرعب لدى سماع أي صوت عال‏.‏ وقديما قال شكسبير العظيم في مسرحيته يوليوس قيصر علي لسان إحدى شخصياتها‏:‏ لو لم يكن أهل روما وعولا لما أصبح قيصر أسدا مفترسا‏!‏

ولهذا فإنه لم يكن لك أبدا أن تتغاضي عن الضرب بالعصا ولو علي سبيل المزاح بعد أيام قليلة من الزواج‏,‏ ولا به بعد ذلك بالأحرى‏,‏ علي سبيل الإيذاء المتكرر‏,‏ كما لم يكن لك أيضا أن تتعاملي مع زوجك هذا وكأنه قدر لا حيلة لك ولأهلك فيه سوى الصبر على أذاه ومحاولة جبر كسوره وسوء تصرفه في حياته‏,‏ وإعانته على أمره كلما تعثر في سوء تقديره ودون محاولات جدية لإصلاحه‏,‏ أو إلزامه على الأقل حدود التعامل الكريم معك ومع أبنائه‏..‏ وأيضا دون إشعاره بشكل أو بآخر بأن لكل إنسان قدرته على الاحتمال التي لا يستطيع تجاوزها‏..‏ وإلا فاض الإناء بما فيه‏..‏ وضحي بكل شيء في الحياة مهما غلا‏,‏ حماية لنفسه من الأذى ونجاة بحياته من الجحيم‏..‏
فهل فعلت ذلك معه خلال رحلة العمر‏,‏ أم اكتفيت فقط بالانسحاب إلي داخلك واجترار كراهيته في صمت والنفور منه؟

وهل استعنت عليه بأهله والعقلاء من ذويه أولا‏,‏ ثم بأهلك بعد ذلك؟ بل وأيضا بأبنائك بعد أن بلغوا سن الشباب وأصبحت لهم عقولهم التي تفكر ورؤيتهم للحياة؟


إن أي إنسان مهما بلغ به حمقه لا يحتمل العيش وسط محيط ممن يغمرون له الضغينة والمشاعر السلبية؟ وليس من صالح أي إنسان أن يستشعر الكراهية الصامتة التي ينطوي عليها له من يعيش بينهم وهم أقرب البشر إليه‏..‏
وأغلب الظن أنه ـ جهلا منه بما يدور حوله ـ لا يتصور أن زوجته وأبناءه قد تدهورت مشاعرهم تجاهه إلي حضيض النقمة عليه والكراهية‏..‏ فهل أشعرته بأن الأكرم له أن يحبه أبناؤه ويحترموه لشخصه لا أن يتهيبوه خوفا من أذاه‏,‏ أو احتياجا إليه؟

وهل أشعرته بأهمية أن تحبه شريكة حياته وتجد في صحبته الأمان والكرامة لا أن تنطوي له علي أسوأ مشاعر البغض والضغينة؟
إن من صالح العلاقات الإنسانية أن يستشعر الإنسان دائما قدرا صحيا من الخوف من أن يفقد الآخرين إذا هو أفرط في الإساءة إليهم‏,‏ ذلك أن الاطمئنان الغافل إلي أنه لن يفقدهم أبدا مهما فعل بهم قد يغريه علي الاستهانة بهم‏..‏ وبعدم التحسب كثيرا لردود أفعالهم‏...‏

وأسرتك التي كانت تبحث دائما عن عمل جديد لزوجك كلما تعثر في عمله وتعينك علي أمرك ماديا قادرة بغير شك علي أن تكون ملجأك الأخير إذا فشلت كل الحيل لإصلاح زوجك أو إقناعه بحسن معاملتك‏,‏ فلماذا تتعاملين معه إذن وكأنما لا سند لك في الحياة ولا نصير؟
إنني لا أحرضك بذلك على هجره‏,‏ لأن قلب الأم فيك لن يقبل بالتخلي عن أبنائك‏,‏ وإنما أطلب منك فقط أن تستشعري قدرا ضروريا من العزة في نفسك‏,‏ حين تدركين أنك لن تخرجي  من بيتك هذا ــ إذا اضطررت للخروج ــ إلى المجهول‏..‏ لكي يعينك هذا الإحساس فقط على التماسك قليلا أمام زوجك واكتساب بعض الصلابة في التعامل معه ولإعانته علي فهم حقائق الحياة الجديرة بالاعتبار وإنصاف زوجته وأبنائه من نفسه‏ ..‏ بل وإنقاذ نفسه كذلك من بحر الكراهية الصامتة المحيط به‏..‏ فهل يصعب عليك ذلك حقا؟

رابط رسالة حد الكراهية

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات