الثمار الطيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

 الثمار الطيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

الثمار الطيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002


قرأت ما كتبته إحدى السيدات عن مشكلتها تحت عنوان حد الكراهية وقرأت ردك عليها واسمح لي أن أعلق عليها‏.‏
فقد يرتبط البعض بشركاء حياة يتمنون الموت عن تكملة المشوار بصحبتهم‏.‏ ولكن قد تدفع الظروف الأسرية والمجتمعية والاقتصادية الفرد إلى أن يكمل مسيرة حياته .‏.‏ وكما قالت السيدة صاحبة المشكلة إنها حاولت خلال سنوات حياتها الزوجية الأولى أن تغير من طبائع زوجها الصعبة والتي لا يمكن أن تتأقلم معها مثل الخيانة والخداع والجبن والغش‏..‏ فما كان منها إلا أن استسلمت لليأس‏,‏ وكان ردك عليها رائعا حينما قلت إنه قد تتحجر المشاعر أحيانا تحجرا نهائيا ويصبح الإنسان لا يحس بوجود الطرف الآخر على خريطة حياته بالرغم من رؤيته له كل حين‏..‏

وأنا معك في كل ما قلته ولكني أختلف معك في شيء ذكرته بناء على ما قالته السيدة صاحبة المشكلة وهو أن ما حدث لها كان بعد تجاوز حد الكراهية‏,‏ ذلك أنه في رأيي أن الاستسلام واليأس لا يأتيان كمرحلة تالية للكراهية‏,‏ بل يأتيان  كمرحلة تالية للتسامح النفسي وقبول قضاء الله‏.‏

ولعل قصتي توضح ما أعنيه‏,‏ فلقد نشأت في أسرة متوسطة الحال تعلمت فيها معنى الحب والعطاء والكرامة والطموح‏,‏ وتشربت الأخلاق الدينية‏..‏ وتخرجت وعملت في وظيفة محترمة‏,‏ وتزوجت زواجا تقليديا‏,‏ وفي الأسابيع الأولى للزواج اكتشفت أن أسلوب زوجي في الحياة يخالف تماما ما كان يقوله في فترة الخطبة وهو ما وافقت عليه على أساسه‏,‏ وأنه يعتبر ما أقصده من قيم أخلاقية ودينية كلاما فارغا‏,‏ وأصبت بخيبة أمل شديدة‏.‏

 

ونظرا لأنني إنسانة مؤمنة ولا أحب الفشل فقد حاولت تجنب الصدام معه وحاولت أن أغير من صفاته التي يمكن تغييرها والتأقلم مع الأخرى التي يتعذر تغييرها وتنازلت شيئا فشيئا عن أبسط متطلبات الإنسان العادية‏,‏ واكتفيت بطلب معاملة الأبناء معاملة حسنة‏,‏ ولكن حتى هذه يا سيدي لم يحققها لنا‏.‏ ولن أتحدث عن معاناتي طوال السنوات الطويلة من أشياء قد تتخيلها وأشياء لا تستطيع أن تتخيلها‏,‏ وقد كنت في بداية زواجنا أرفض بعض المواقف بطريقة سلبية وأحيانا إيجابية‏,‏ ثم مع مرور الوقت اكتشفت أنني أتصرف ضد طبيعتي وتربيتي‏,‏ فأنا إنسانة رقيقة وتربيت في أسرتي على الاحترام الكامل للأب‏..‏ فكيف لي أن أتصرف بصورة مخالفة تماما لما عايشته‏..‏ فلم يكن أمامي إلا أسلوب المواجهة طويل النفس أو الاستسلام‏.

 

 وبعد رحلة طويلة من المعاناة عمرها‏25‏ عاما صمدت فيها من أجل أبنائي قررت الاستسلام وأصبحت كصاحبة مشكلة حد الكراهية لا ألوم ولا أعاتب ولا أشكو‏,‏ ولأنني قد نشأت على عدم القبول بالفشل فلقد اعتبرت صمودي طوال هذه المدة وعدم انهيار أسرتي وتوفيق أبنائي في الدراسة هو النجاح نفسه‏,‏ فلقد نصحني الجميع بالانفصال عن زوجي ولكني رأيت في هذا الزوج صورة الأب الذي قد يحتاجه أبناؤه في يوم ما أو قد يحتاجهم هو‏,‏ فيلومونني ولو في داخل قلوبهم على أنني كنت سبب حرمانهم منه‏,‏ ورأيت فيه أيضا زوجا مريضا نفسيا إذا لم أكن أنا من تحتمله فمن الذي يحتمله‏,‏ ورأيت فيه إنسانا خلقه الله وإذا لم أكن أنا أول من تسامحه فهل أتوقع من الآخرين أن يفعلوا ذلك‏,‏ وكما رأيت فيه كذلك زوجا لزوجة بها عيوب ككل البشر‏,‏ ولكن الله سترها عن عيونه فهل أشكر الله على ستره لي بمعاقبة زوجي علي عيوبه‏.‏

 

ولا أكتمك سرا أنني تضيق نفسي أحيانا من جراء ما أراه منه فأقول لها اعتبريه على أسوأ الفروض ابنا عاقا‏..‏ فهل تتخلى الأم عن ابنها مهما تكن به من صفات سيئة ثم أخيرا فلسفت معاناتي بأني إنسانة مميزة وقد اختارني الله لهذه المسئولية لأني قادرة علي تحملها‏ .. ‏وفي الحقيقة أنه بالرغم من إهانات زوجي المتعددة لي أمام الأبناء إلا أنني خلال تلك الرحلة الطويلة لم أسمح لأحد منهم أن يذكره ولو في غيابه بسوء لأنني أحافظ على صورة الأب التي يجب أن تكون محترمة والتي استمد منها أنا أيضا احترامي‏..‏ كما نسيت أن أذكر لك أن رحلة حياتي الزوجية المليئة بالمشكلات قد قربتني أكثر وأكثر من الله‏,‏ فوضعت رضاه عني هدفا أولا وأخيرا لي ومهما واجهت من مشكلات فإني أرفع نظري للسماء وأستمد منها العون‏.

 




ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

ذكرتني رسالتك التي تعتبر نموذجا رفيعا لأدب الخلاف والتعفف عن ذكر مثالب شركاء الحياة ولو في مجال الشكوى منهم‏,‏ بما روي عن أحد الصالحين من أنه أراد ذات يوم أن يطلق زوجة له فسئل‏:‏ ما الذي يريبك منها ؟ فقال‏:‏ العاقل لا يهتك ستر امرأته‏,‏ فلما طلقها سألوه عما أنكره عليها وأدى إلى طلاقه لها فقال‏:‏ مالي ولامرأة غيري‏!‏
ثم أمسك فلم يزد حرفا واحدا‏..‏ ولم يذكرها بسوء‏.‏

وهذا هو ما سماه الإمام أبو حامد الغزالي الذي أورد القصة في أحد كتبه بالتلطف في التعليل عند الخلاف‏,‏ تجنبا للإساءة

للطرف الآخر واحتراما لسابق العشرة وروابط الأبناء‏.‏


ولقد أعجبتني في رسالتك معان نبيلة كثيرة‏,‏ يجيء في مقدمتها تلطفك في تعليل تجاوزك عن عيوب زوجك وقبولك لها بأن لك بالضرورة كبشر عيوبا قد سترها الله عن عيون زوجك وليس من حسن الشكر لله على ستره عليك أن تهتكي أنت أستار عيوب زوجك‏.‏ ففي هذا التعليل اللطيف الكثير والكثير من الإنصاف والتواضع والفهم الإنساني الذي يعين المرء علي التسامح ويبعده عن الشطط والخلاف والتعنت مع الآخرين‏,‏ ومنها كذلك تصالحك مع نفسك ومع ظروفك العائلية وقبولك بها على اعتبار زوجك ـ على أسوأ الفروض ـ ابنا عاقا لك والأم لا تتخلي عن ابنها ولو اجتمعت فيه عيوب كل البشر‏..‏ وإنما يخفق قلبها دائما بالأمل في انصلاح أحواله ذات يوم قريب أو بعيد‏..‏ ولأنك قد فعلت ذلك فلقد كان منطقيا أن يخلو قلبك من الكراهية لزوجك بالرغم من كل معاناتك معه‏.‏ ليس فقط لأنه لا مكان للبغضاء في قلبك‏,‏ وإنما أيضا لأن الأم لا تكره ابنها ولو كان ضالا‏..‏ أو مهما أنكرت عليه من عيوب‏.‏

ومن هذه المعاني النبيلة أيضا التزامك مهما تحملت من إهانة زوجك لك أمام الأبناء‏,‏ بالمحافظة علي رمز الأب في مخيلة أبنائه‏..‏ وعدم السماح لأحدهم بالاجتراء عليه في حضوره أو غيبته‏..,‏ حرصا من جانبك علي قيمهم الأخلاقية وسلامة تكوينهم النفسي والتربوي‏,‏ واقتناعا حكيما منك بأن احترام الأبناء للأبوين ينسحب عليهما معا ولا يقتصر علي أحدهما دون الآخر‏,‏ حيث لا تستقيم معنويات الأبناء إذا اهتز احترامهم لأحدهما‏.‏ أما توافقك مع نفسك علي اعتبار زوجك مريضا نفسيا‏,‏ وأنت أجدر البشر باحتماله وإلا فلن يحتمله الآخرون‏,‏ فإنه يستدعي من الذاكرة على الفور ما جاء في الأثر من أنه من صبر علي خلق امرأته أعطاه الله من الأجر مثل ما أعطى أيوب علي بلائه ومن صبرت علي سوء خلق زوجها أعطاها الله من الأجر مثل ما أعطى آسيه امرأة فرعون وقد كانت كما تعلمين من الصالحين‏..‏ فهنيئا لك هذا الأجر العظيم عاجله وآجله إن شاء الله‏.‏
‏..‏ وثقي من أن حياتك لم تضع بالرغم من المعاناة هدرا‏..‏ لأنك قد نجحت بالفعل في التوافق مع حياتك وظروفك وحماية سفينة الأسرة من مخاطر الجنوح والحفاظ علي استقرار أبنائك وسعادتهم وأمانهم وتوفيقهم في الدراسة والحياة‏..‏ ولسوف تجنين كل الثمار الوارفة لهذا الغرس الطيب الجليل دوما بإذن الله.

 رابط رسالة حد الكراهية

رابط رسالة البحر الصامت تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات