ماكينة الخياطة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

 ماكينة الخياطة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

ماكينة الخياطة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

إن كثيرين يتحرجون من الإشارة إلى ما قدمت أيديهم وما تلقوا الشكر عليه‏ ,‏ لكن العرفان على الناحية الأخرى فضيلة من أقدس الفضائل‏ ,‏ والشكر على المنة والإقرار بفضل صاحبها من سمات الأصلاء والأوفياء‏.‏
عبد الوهاب مطاوع

هل تذكر هذه الرسالة القصيرة المرفق صورتها والتي نشرتها لي في بريد الأهرام منذ‏ 22‏ عاما ؟ لقد كنت وقتها طالبا بالسنة الثانية بطب الأزهر‏,‏ وشكوت لك من أن المدينة الجامعية رفضت قبولي بحجة أنني لم أكن مقيما بها في السنة الأولى ,‏ في حين أن إمكاناتي لا تسمح لي بالسكن خارجها لأن نصيبي من معاش أبي لا يزيد على ‏12‏ جنيها وإخوتي مثقلون بأعبائهم‏.‏


لقد كان هذا حالي بالفعل‏ ,‏ فلقد نشأت في أسرة بسيطة مكونة من‏ 3 أشقاء وشقيقتين وكنت الابن قبل الأخير لأبي الذي حرمت منه وأنا في التاسعة من عمري ثم من أمي التي لحقت به بعد‏ 25 ‏يوما كأنما لم تتحمل الحياة من بعده‏ ..‏ ونشأت في رعاية إخوتي إلى أن حصلت على الثانوية العامة‏ ,‏ وجئت من مدينتي بالوجه البحري إلى القاهرة الواسعة لألتحق بطب الأزهر ‏..‏ وأقمت أول سنة دراسية مع بعض أبناء بلدتي ثم تفرقوا‏ ,‏ فتقدمت للمدينة الجامعية للإقامة بها‏ ,‏ ورفضتني إدارة المدينة للسبب الذي أشرت إليه‏ ,‏ ولم أجد أمامي سوى بابك فشكوت لك ونشرت الشكوى ‏,‏ وللأسف لم تستجب إدارة الجامعة لرجائي‏ ..‏ لكن الرسالة بالرغم من ذلك لم تذهب سدى‏ ,‏ فقد حققت أثرا آخر لم يخطر في فكري وكان له أثر باهر في حياتي ومستقبلي‏,‏ فلقد تلقيت عقب نشرها خطابا من أحد قراء بريد الأهرام الأفاضل كان يعمل وقتها في الإمارات العربية‏ ,‏ يقول لي فيها‏ :‏ إنه أخ مصري لي يعمل بالإمارات وأنه تأثر كثيرا بحالتي‏,‏ ويرجوني أن أقبل منه هذا المبلغ البسيط وهو شيك بمائة جنيه مرسل على بنك القاهرة فرع الأزهر كما يرجوني أن ألجأ إليه كلما احتجت إلى شيء إذ إننا جميعا إخوة ‏,‏ ولقد رزقه الله الرزق الوفير‏,‏ ثم يخيرني بعد ذلك بين أن يرسل إلي كل عدة شهور مبلغ مائتي جنيه لنفقات الدراسة والكتب‏ ,‏ أو أن يرسل إلي مبلغا شهريا منتظما قدره ثلاثون جنيها إلى أن انتهي من دراستي‏.‏


فشعرت بأن الله سبحانه وتعالى قد أرسل إلي ملاكا من السماء يأخذ بيدي ويعينني على تحقيق أحلامي وأحلام أسرتي‏,‏ وكتبت إليه أشكره وأدعو له بالخير والصحة والسعادة‏,‏ وابلغه أنني أفضل أسلوب المساعدة الشهرية لكي اضمن موردا يعينني على الاستمرار في الدراسة‏.‏
وبالفعل بدأ الرجل الفاضل يرسل إلي كل شهر حوالة بمبلغ ثلاثين جنيها بانتظام‏..‏ ويكتب إلي من حين إلى آخر رسائل يشجعني فيها على الاجتهاد والصبر على ظروفي‏ ..‏ ويحرص فيها حرصا شديدا على ألا يجرح مشاعري أو يشعرني بفضله علي ‏..‏ فالتهمت دروسي التهاما لكيلا أتأخر في التخرج ونجحت بفضل هذه المساعدة الكريمة وانتقلت إلى السنة الثالثة ثم الرابعة‏ ..‏ وفي هذه السنة شعرت بأنني قد أثقلت على الرجل كثيرا‏,‏ خاصة أنني كنت قد تحدثت عنه إلى زملائي بالكلية فكتب بعضهم إليه يطلبون مساعدته لسوء أحوالهم‏ ..‏ فلم يخذلهم وأرسل إليهم بالفعل مساعدات مشابهة دون أن يشير إلى ذلك في خطاباته إلي‏ ,‏ وشعرت أنا بالحرج وبأنني قد ورطته في المزيد من الأعباء وكنت قد نجحت في الالتحاق بالمدينة الجامعية‏ ,‏ فقر قراري على شيء عزمت على تنفيذه‏.

 

 ولقد نسيت أن أقول لك إنني خلال دراستي في المرحلة الإعدادية والمرحلة الثانوية كنت أعمل في ورشة للخياطة لكي أساعد أسرتي على أعباء الحياة‏ ,‏ فتعلمت وأجدت خياطة ملابس الرجال والنساء على السواء فاشتريت بمدخراتي القليلة من مساعدات الرجل الفاضل ماكينة خياطة وأحضرتها إلى غرفتي بالمدينة الجامعية التي يشاركني فيها ثلاثة زملاء آخرين‏ ..‏ وبدأت اعمل عليها وأفصل البنطلونات لزملائي في الكلية وفي الجامعة وبأجور متهاودة‏ ,‏ وسبحان الله أنني لم أتسبب بالرغم من ذلك في أي إزعاج لزملائي في الغرفة‏ ..‏ وأنهم لم يتضرروا من عملي على الماكينة وسطهم‏ ,‏ ولم يشك أحدهم مني لإدارة المدينة‏ ..‏ بل كانوا أول زبائني وجلبوا لي زملاء لهم لأفصل لهم البنطلونات وأغراهم بذلك حسن التفصيل من ناحية‏ ..‏ ورخص الأجرة من ناحية أخرى ‏,‏ بل إن المشرفين على المدينة الجامعية أنفسهم لم يتوانوا عن تشجيعي على الاستمرار تقديرا لظروفي‏ ,‏ بعد أن تأكدوا أنني لا أسبب إزعاجا لأحد‏ ,‏ ونظرت بعد بدء ممارستي للتفصيل بشهر فوجدت في يدي مبلغا يكفي لمطالب حياتي ودراستي‏ ..‏ وشعرت بأن الوقت قد حان لكي أطلب من الرجل الفاضل أن يتوقف عن إرسال المبلغ الشهري إلي بعد أن أصبحت قادرا على توفير نفقاتي من عائد عملي إلى جانب نصيبي من معاش أبي ‏..‏ فكتبت إليه أشكره على ما فعل معي‏ ..‏ وأرجو أن يعتبر إجمالي المبلغ الذي تلقيته منه دينا علي أسدده إليه حين استطيع ذلك‏ ,‏ وأؤكد له أنني لن انسى ما حييت ما كان له من فضل في استمراري في الدراسة وفي حياتي‏.‏


واستجاب الرجل لطلبي‏ ..‏ ولعله وجه مساعدته لي لطالب آخر أكثر حاجة‏ ,‏ ومضت الأيام وأنا أدرس الطب واستذكر دروسي وأخيط البنطلونات والملابس حتى تخرجت‏..‏ وعملت‏ ..‏ وبدأت مشوار الحياة العملية‏ ..‏ وتوقفت عن الخياطة لكي أتمكن من الاستمرار في دراساتي العليا واستقرت أحوالي المادية‏ ..‏ وتزوجت وأنجبت ورويت لزوجتي ثم أولادي بعد ذلك قصة هذا الرجل الذي مد لي يد المساعدة في أشد فترات حياتي ضيقا‏ ..‏ وسافرت للعمل في السعودية حيث أقيم الآن‏,‏ وأنعم الله علي بالرزق‏,‏ ورضيت عن نفسي وعن حياتي غير أنه يشغلني الآن شئ شديد الأهمية بالنسبة لي هو‏:‏ أين هذا الرجل الفاضل الكريم الذي أعانني في شدتي منذ‏ 22 ‏عاما ؟‏ ..‏ وكيف أصل إليه‏ ..‏ وأرد بعض دينه علي‏,‏ إنني مهما فعلت فلن استطيع أن أوفيه حقه‏ ,‏ لكني أريد أن أقدم إليه أو إلى أي إنسان ينتمي له أو يمت إليه بصلة قرابة جزءا مما أنعم الله به علي وأريد أن أتكفل باستضافته هو ومن معه في السعودية وبجميع نفقات الحج له ولمن يشاء من أسرته ‏,‏ فهل تساعدني في العثور عليه وتحقيق هذا الحلم الجديد لي‏,‏ كما ساهم بريد الأهرام من قبل في تحقيق حلمي القديم بالاستمرار في الدراسة‏ ..‏ لقد كتبت إليك اسمه‏ ..‏ واسم الشركة التي كان يعمل بها في الإمارات وهي ليونار إلكترو واسمي ورقم تليفوني لتتفضل بالاتصال بي إذا توصلت إلى شئ وشكرا لك مقدما‏ ..‏ وشكرا لكل من يبذر بذور الخير والعطف والنماء في الأرض الطيبة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

يا إلهي‏..‏ ما أسرع ما تجري أمور الحياة ‏!‏ فكأني أكاد أتذكرك وأتذكر رسالتك القصيرة التي كان لها هذا الأثر في حياتك‏ !‏
فأما الرجل الكريم فهو يعرف نفسه ولعله يتذكرك فيمن يتذكر ممن مد إليهم يد العون ذات يوم‏ ,‏ ولعله يتفضل بالكتابة إلي أو الاتصال بي ليعطيني عنوانه أو رقم تليفونه لأرسله إليك ‏,‏ فتتواصل معه من جديد وتعبر له عن عرفانك بجميله وامتنانك له؟
إن كثيرين يتحرجون من الإشارة إلى ما قدمت أيديهم وما تلقوا الشكر عليه‏ ,‏ لكن العرفان على الناحية الأخرى فضيلة من أقدس الفضائل‏ ,‏ والشكر على المنة والإقرار بفضل صاحبها من سمات الأصلاء والأوفياء‏.‏


ولقد حدث أن أصر بعض أهل الفضل على تكريم شيخ جليل بالرغم من تحرجه من هذا التكريم‏,‏ وتبارى الحاضرون في الإشادة بفضله وعلمه وصلاحه ومواقفه الكريمة‏,‏ ثم طلبوا منه أن يلقي كلمة فنهض محرجا وقال‏:‏ جاء في الأثر‏:‏ أحثوا في وجوه المداحين التراب‏ !‏وسكت للحظات‏ ,‏ بهت خلالها الحاضرون واستشعروا الحرج ثم قال‏:‏ غير أنه جاء في الأثر أيضا‏:‏ أن المؤمن إذا مدح في وجهه ربا الإيمان في قلبه‏ ,‏ وبهذا المعنى فإني أتقبل تكريمكم وأشكركم عليه وأذكركم بما قاله ابن عطاء الله السكندري من انه‏:‏ من مدحك فإنما مدح مواهب الله فيك‏ ..‏ فالشكر لمن وهب وليس لمن وهب له فانفرجت أسارير الحاضرين ..‏ وصفقوا بحرارة للشيخ الجليل‏.‏


وهذا صحيح‏..‏ فالإنسان إذا استشعر حسن ظن الآخرين به وإشادتهم به‏,‏ أحب أن يستزيد من الفضائل والأعمال التي استوجبت مدحه والإقرار بفضله وهذا هو المقصود بزيادة الإيمان في قلبه‏.‏
كما أنها حقيقة نفسية أكدها علم النفس الحديث بعد‏1400‏ سنة حين قال علماء النفس إن الإنسان يميل دائما لأن يكون عند حسن ظن الآخرين به‏ ..‏ وإنك إذا أشعرت إنسانا ما بأنه أمين وأهل للثقة وعلى خلق كريم ويستحق الإعجاب‏,‏ فانه قد يراجع نفسه عدة مرات قبل أن يقترف ما يخدش هذه الصورة المثالية لديك‏ ..‏ ولقد يتوقف تدريجيا عما يتناقض معها من سلوكيات علي مدي الأيام‏..‏ حتى يصير بالفعل أمينا وأهلا للثقة‏.‏


ولأن الشكر هو الحفاظ للنعم‏,‏ فإنك تسعى للتواصل مع هذا الرجل الفاضل الذي أعانك علي أمرك في أشد فترات حياتك احتياجا للمساعدة‏,‏ وبمنطق مدح المؤمن في وجهه ينبغي له هو أن يتقبل شكرك وعرفانك ومحاولتك لرد بعض دينه إليه‏..‏ فلا يتوارى وراء ستار التحرج والخجل‏ ,‏ ولا يبخل عليك بهذا الفضل الجديد إن شاء الله‏ ,‏ خاصة أنك إنسان تستحق الإشادة والإعجاب لكفاحك الشريف في الحياة ولتعففك عن الاستنامة إلى الاعتماد على مساعدته الشهرية إلى ما لا نهاية‏,‏ فلقد سعيت إلى الرزق الشريف وأنت طالب طب مثقل بأعباء الدراسة والحياة‏ ..‏ ونجحت في الاعتماد علي نفسك والاستغناء عن مساعدته في الوقت المناسب‏ ..‏ واحسب أن اللحظة التي كتبت إليه فيها تشكره علي فضله وتطلب منه التوقف عن إرسال المساعدة الشهرية كانت لحظة فارقة في حياتك وأنها قد عمقت احترام هذا الرجل لك ولكفاحك وأشعرته بأنه قد وجه مساعدته لمن كان يستحقها بالفعل ‏,‏ غير أنك تستطيع أن تعبر عن عرفانك له بطريق آخر إلى جانب استضافته هو أو بعض أفراد أسرته ودعوته للحج علي نفقتك‏ , ‏و لعلك تكون قد بدأت هذا الطريق تلقائيا منذ أن استقرت أحوالك وأجزل الله سبحانه وتعالي لك العطاء وهو أن تكرر سيرة هذا الرجل معك في محنتك السابقة‏ ,‏ مع طالب آخر أو أكثر فتعينه علي أمره‏ ..‏ كما أعانك هو من قبل علي أمرك وتعيد إليه الأمل في الحياة والمستقبل ‏..‏ كما أحيا هذا الأمل في قلبك فهكذا يتواصل غرس بذور الخير والحب والنماء الي ما لا نهاية‏.‏
وهكذا تتأكد بفضل الفضلاء من أمثال هذا الرجل وأمثالك خيرية الحياة‏.‏
أنني أترقب أن يكتب إلي هذا الرجل الفاضل أو يتصل بي‏ ,‏ وأرجو أن أتمكن من تحقيق التواصل بينكما خلال وقت قريب بإذن الله‏.‏ .

 

نشرت هذه الرسالة بتاريخ 27 فبراير 2004 وقد نشر بعدها ردا للأستاذ عبد الوهاب مطاوع بتاريخ 5 مارس 2004 هذا نصه :

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2004

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات