العسل المر .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003
لا أدري من أين أبدأ قصتي ولا كيف أنتهي؟
فأنا سيدة في الثلاثين من
عمري ـ ولدت لأب أسود وجهه وركبه الحزن وبكي بالدمع, بل وهجر ـ كما قيل لي ـ
البيت لفترة حين عرف أنني بنت! لأن البنت في عرفه مصيبة تحل فوق رأس الأب
ومسئولية تطارده إلى نهاية العمر, أما الولد فإنه سند للأب ويقوم بنفسه وربما
بأبيه بعد حين ! ومع أن الله سبحانه وتعالى لم يحرم أبي من البنين ووهبه ولدين
بعد مجيئي للحياة إلا أنه ظل يردد على أسماعي دائما رأيه في البنات ومسئوليتهن,
ولم يكن يخفف عني ما أشعر به من ضيق من كثرة تكرار هذا الحديث الممل إلا أمي
الطيبة الحنون.. التي كانت تحتويني وتحتوي الولدين كلما بطش الأب بنا أو انفجر
في أحدنا, ولم تكن أمي تستطيع معارضة أبي في شيء لعلمها بشراسة طباعه.. وبأنه
لا يطيق أي معارضة, فكانت تكتفي بتعويضنا عن قسوة أبينا علينا بفيض حنانها
الغامر.. وتداعب كلا منا بوجهها المشرق وابتسامتها العذبة حتى يخرج من حالة
الضيق والغضب ويواصل الصبر على قسوة الأب..
وبالرغم من طاعتي الكاملة
له في كل ما يقول أو يطلب مني, فلن أستطيع أن أحصي عدد المشكلات التي أثارها معي
على مر السنين من سن الطفولة البريئة إلى سن الصبا والشباب.. ولقد كافحت كفاح
الأبطال لكي أستمر في التعليم على غير إرادته, إلى أن وصلت إلى المرحلة الثانوية,
ونجح أبي في إرغامي على التوقف عن الدراسة وحرماني من التعليم, بدعوى أنني قد صرت فتاة كبيرة
ولا يصح أن أخرج كل يوم لأتعرض للفتنة وعبث الشباب, ومن واجبي أن أقر في البيت
لأساعد أمي وأخدم أخوتي وأبي وأنتظر ابن الحلال حين يجيء في الموعد المقدور,
ولقد امتثلت في النهاية لإرادة أبي وصبرت على أقداري.. وتقدم لي أكثر من خاطب
رفضهم أبي ولا معقب على إرادته لأنه يريد عريسا ميسورا ماديا ومن أسرة كبيرة..
ثم تقدم لي قريب من العائلة فرفضته على الفور لما أعلمه عنه من حدة الطبع وقسوة
التعامل مع الآخرين وقطعه لصلة رحمه.. لكن أبي رحب به ربما لأنه قد رأى فيه صورة
أخرى منه, وطالبني بقبوله بإصرار.. ورفض دموعي وتوسلاتي له أن يرحمني ويعفيني
من الارتباط بمن أشعر بالنفور منه, ولم يأبه لاعتراضي, ولم تفلح أمي المسالمة
الحنون في زحزحته عن رأيه, وحدد موعد الخطبة فقبلت كارهة وأنا أمني نفسي بأن
تنتهي الخطبة بالفشل بعد فترة, وراهنت في ذلك على حدة طبع خطيبي وحدة طبع أبي
وتوقعت أن يصطدما بعد قليل وينتهي الأمر بفسخ الارتباط.. لكن خطيبي فاجأنا قبل
موعد الخطبة بأيام بإصراره على تحويلها إلى عقد قران.. وصرخت وبكيت فلم يستمع لي
أحد وانتهي الأمر بعقد قراني عليه.. فاستسلمت لقدري ورضيت بالأمر الواقع,
وبدأت أتأقلم مع ظروفي فعاملت خطيبي بما يرضي الله بل ووقفت إلى جانبه في بعض
أزماته المادية, لكن الأيام مضت وفي كل يوم يتكشف لنا المزيد من عيوبه.. إلى
أن ضقت بها وبه فطلبت منه الطلاق وأيدتني أمي وأخوتي وكل أهلي في ذلك, في حين
وقف أبي من الأمر موقفا سلبيا بالرغم من أنه المسئول الأول عن ارتباطي بهذا الشاب.
ورفض خطيبي
طلاقي بإصرار ونازعني لإرغامي على إتمام الزواج ورفض كل الوساطات.. وأعلن أنه لن
يطلقني وسيتركني معلقة كالبيت الموقوف إلى ما شاء الله.. وكلما توجهت إلى أبي
بالرجاء باكية أن يساعدني في التخلص من الارتباط الذي أرغمني عليه لم يفعل شيئا
ولم يقدم على أي خطوة.. وبعد عذاب استمر4 سنوات كاملة طلقني خطيبي وتنفست الصعداء .. وشعرت بعدها بشعور غريب
ضد كل الرجال و
على رأسهم أبي, وكرهت
الارتباط بأي إنسان آخر, وبعد أكثر من سنة تقدم لي شاب كان قد رآني عند بعض
أقاربي وأعجب بي, فرفضته في البداية تأثرا بحالتي النفسية ضد الرجال بعد ما
عانيته من أبي وخطيبي السابق.. ثم هدأت نفسي قليلا بعد أن سمعت ثناء طويلا على
خلقه وتدينه ولين طباعه ووافقت على أن أراه قبل أن أعلن رأيي النهائي في مشروع
الخطبة.. وشجعني على اتخاذ هذه الخطوة أنه لم يأت إلي عن طريق أبي, وبالتالي
فربما يكون إنسانا مختلفا عنه !, وقابلته وأنا متحفزة للرفض أكثر مني للقبول..
فإذا بي أشعر ومنذ اللحظة الأولى التي وقع عليه فيها بصري بارتياح غريب له..
وإذا بالسكينة تحل على نفسي, فأعلنت موافقتي عليه بعد هذا اللقاء بالرغم من قلة
إمكانياته.. وتمت الخطبة وأنا سعيدة هذه المرة باختياري لمن سوف أشاركه حياته..
ولم يسعد ذلك بالطبع أبي الذي استاء من فرحتي خلال الخطبة وتبادلي الأحاديث
الباسمة مع خطيبي ومداعبتي له واستجابتي لمداعباته.. فعقد العزم على أن يحول
حياة هذا الخطيب السعيد إلى جحيم ! وبالفعل بدأ والدي في مطالبته كل يوم بمطلب
جديد يتعذر عليه تحقيقه.. وبدأ يسيء معاملته.. ويضيق عليه ويتجهم في وجهه,
وخطيبي صابر ومتمسك بي إلى النهاية.
وكان من نتيجة تعنت أبي معه وكثرة مطالبه منه أن
عجزنا عن إتمام الزفاف بعد عامين من الخطبة كما كنا نخطط لذلك.. وطالت خطبتي له
أكثر من ثلاث سنوات بغير أن يلوح أي أمل في قرب الوصال.. وكانت لخطيبي شقة في
إحدى المدن الجديدة القريبة من القاهرة شقى طويلا لإعدادها للزواج بما يليق بحبه
لي.. فإذا بأبي يطالبه بالتخلص من هذه الشقة وتوفير شقة أخرى قريبة من مسكنه..
وكاد خطيبي ينهار أمام هذه
المعضلة الجديدة التي وضعها أبي في طريقه لكنه تماسك.. وسعى لبيع شقته التي تعب
كثيرا في تجهيزها والحصول على مسكن آخر قريب,
وبعد عناء مرير تمكن من بيع الشقة بخسارة كبيرة, وإحضار المسكن المطلوب ولم تبق
هناك حجة جديدة لتأجيل الزواج.. وقبل تحديد موعد الزفاف بفترة قصيرة توفيت أمي
رحمها الله فجأة وبغير مرض سابق.. فتزلزل كياني وغرقت في الحزن والكآبة, وخفف
عني وجود خطيبي إلى جواري الكثير من أحزاني وشجوني, وساعدني بحنانه الذي لم أجده
لدى أبي على الخروج من دائرة الأحزان, وأخيرا تم تحديد موعد الزواج وآن لخطيبي
الذي ظل يموت كل يوم طوال4 سنوات ليلبي طلبات أبي ويسعدني ويرضيني أن يهدأ
ويستريح, وتم عقد القران والزفاف.. وانتقلنا إلى عش الزوجية وانفردنا ببعضنا
البعض فيه لأول مرة, وتنفست بعمق شديد وأنا أقول لنفسي إن سنوات الشقاء والعذاب
قد انتهت إلى الأبد وبدأت الآن سنوات السعادة والحب الخالص والعطف المتبادل..
وخيل إلي أيضا أن زوجي يفكر في نفس الشيء ويقول
لنفسه إنه أخيرا قد آن له أن يهدأ ويستريح ويجني العسل إلى جوار من أحبها وأحبته
وتحمل من أجلها الكثير.
لكني فوجئت وبعد ثلاث ساعات
فقط من السعادة الزوجية, بزوجي وحبيبي يشكو من ألم شديد في صدره وذراعه اليسرى ..
ففزعت بشدة وحاولت أن أدلك له صدره وذراعه.. فلم يخف الألم.. وأحضرت له قرص
أسبرين ابتلعها فلم يتغير الحال, وظل حبيبي يتأوه ويتألم طوال الليل وما أن طلع
النهار حتى ارتديت ملابسي وساعدت زوجي على ارتداء ملابسه واصطحبته إلى الطبيب,
بالرغم من معارضته وإشفاقه على من الخروج من منزل الزوجية وأنا عروس جديدة,
وفحصه الطبيب وكتب له العلاج وعدنا إلى البيت, وتناول الدواء فلم تتحسن حالته
وظل يعاني من الألم الشديد في صدره وذراعه, فذهبنا إلى طبيب ثان.. ثم ثالث..
ثم رابع.. وحبيبي لا يتحسن وإنما تسوء حالته يوما بعد يوم وتشتد آلامه إلى حد
البكاء فينظر إلي من بين دموعه ويقول بصوت ضعيف :
مالحقتيش تفرحي.. يا غلبانة !
فتنفجر دموعي وأقبل يديه
ورأسه, وأقول له إنه سيشفي وستطول أفراحنا حتى نهاية العمر إن شاء الله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لابد للأحزان من نهاية يا
سيدتي مهما أشتد الظلام وتكثفت الغيوم .. بل إننا لنتعلق بالأمل كلما ثقلت علينا
الأحزان في أن يكون اشتداد المحنة بشيرا بقرب انفراجها.. تماما كما تحلك ظلمة
الليل قبيل انبلاج الفجر. وكلما ضاقت صدورنا بما تكابده من شقاء سرينا عن أنفسنا بالتفكر في جوائز السماء التي تنتظر
الممتثلين لأقدارهم, وفي التعويض الإلهي الذي يترقبه الصابرون علي بلائهم, وفي
السعادة المؤجلة التي يدخرها لنا الله سبحانه وتعالي بعد أن استوفينا ضريبة الشقاء
كاملة وحان دورنا لأن نتطلع في صبر وأمل إلي رحمة الله. بل إن المرء ليتمادي
أكثر من ذلك فيرجو ربه أن يكون ما قد ألم به من عناء واختبارات نوعا من الألطاف
الإلهية التي يقول عنها أهل الحق إنها ذلك التدبير الإلهي الذي قد يأتينا أحيانا
بما نكره ليحقق لنا فيما بعد أعظم ما نحب.. ويقولون أيضا إن في حياة كل منا
لمحات ونفحات من مثل هذه المواقف التي بكينا أمامها, ثم لم نلبث أن سعدنا بما
أمطرته علينا السماء بعدها من عطايا وانزاحت عنا الأحزان السابقة إلي الأبد.
لقد كان الأديب الفرنسي
فيكتور هوجو من كبار المبتلين في حياته الشخصية حيث فقد بعض بنيه وقال عن نفسه إنه
نبي الألم. وبالرغم من ذلك لم يفقد حماسه للحياة وقال: ما الحزن إلا مقدمة
للسرور!
وقال أيضا: تسلح بالشجاعة
لأحزان الحياة الكبيرة, وبالصبر لأحزانها الصغيرة وأد عملك علي خير ما يرام ثم
اذهب لتنام واثقا من أن الله لا ينام.
أما الإمام أبو حامد
الغزالي فقد قال في كتابه الشهير إحياء علوم الدين: اعلم أن أجر الصابرين فيما
يصابون به أكبر من النعمة عليهم فيما يعافون منه
ولاشك في أنك تحتاجين إلى
كل من الشجاعة والصبر لمواجهة هذه المحنة المؤلمة التي اقتحمت عليك حياتك علي غير
توقع, وزاد من إيلامها لك أنها جاءتك وأنت تتهيئين لجني ثمار الصبر الطويل علي
التعاسة والشقاء, وتستعدين لارتشاف رحيق الحب والسعادة والأمان مع من جاهد جهاد
الأبطال ليبني بك ويطمئن إلي جوارك, فإذا بأقداره الحزينة تفاجئه وهو في غمرة
السرور, فتحيل رحيق العسل الحلو إلي عسل
شديد المرارة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لقد قال إمام المتقين علي بن أبي طالب: ما من
مصيبة إلا وأري فيها ثلاث فوائد, أولاها أنها لم تكن في ديني, وثانيتها أنها
لم تكن أكبر من ذلك, وثالثتها أنني أصبر عليها فأؤجر.
فأما الأجر فمضمون لك بإذن
الله.. جزاء وفاقا لإيمانك بربك ورضائك بقضائه وقدره واحتسابك شريك السعادة
الخاطفة, عند خالقه, وأما الدعاء له بخير الجزاء وحسن القبول عند ربه فمن
أعماق القلب والوجدان مع صادق الأمنيات لك بأن يعينك ربك علي تجاوز المحنة..
والصمود لأحزانها.. والتطلع بحق إلي تعويض السماء العادل لك عن كل ما عانيت من
شقاء وابتلاء وأحزان إن شاء الله .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر