القطرة الزائدة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
أنا سيدة ابلغ من العمر
40 عاما .. نشأت في أسرة مكونة من أب وأم وسبعة
من الأبناء, وقد رحلت أمي عن الحياة وأنا في طفولتي, فلم يصبر والدي على وحدته
طويلا وسارع بالزواج من أخرى, وانفرد معها بإحدى غرفتي الشقة الصغيرة التي نقيم
فيها وتكدسنا نحن الأبناء السبعة في الغرفة الثانية, ولم تلبث الحياة أن كشرت
لنا عن أنيابها وبدأ الصراع بيننا وبين زوجة الأب ووالدنا الذي انصرف عنا وعن كل
شئ إلى زوجته, مما أدى إلى فشل معظم إخوتي في الدراسة, أما أنا فلقد استمت في
الاستمساك بفرصتي في التعليم ودبرت أمري بحيث أواصل الدراسة مهما تكن الظروف قاسية
حتى التحقت بكلية التجارة, وبدأت أرى زميلاتي يرتدين أحدث الملابس .. وأدخل
بيوتهن فأرى التليفزيون الملون والمياه الساخنة وأشكالا جديدة للحياة لا أعرفها,
وتوثقت العلاقة بيني وبين زميلة لي يعمل والدها بأحد البنوك, فكنت أتردد عليها كثيرا وأقضي معها
معظم اليوم ولا أذهب إلى البيت إلا في المساء لكي أنام, وتخرجت في الكلية فألحت
علي صديقتي هذه أن ترجو والدها في أن يتيح لي فرصة التدريب في البنك معها.. وتم
ذلك بالفعل وتدربت بالبنك خلال عام الخدمة العامة وانتظرت أول الشهر بفارغ الصبر لكي أقبض أول مكافأة أكسبها في
حياتي وكانت خمسين جنيها, وبعد عامين عينت في نفس البنك بمساعدة والد صديقتي
وتم توزيعي على أحد الأقسام فوجدت رئيسه شابا يكبرني بنحو عشر سنوات ووسيما وأنيقا
وخدوما ويحسن معاملة الآخرين .. ووجدت معظم فتيات القسم معجبات به ويتمنينه
لأنفسهن, فأدركت أنه حلم صعب المنال بالنسبة لي, لكني لم أتوقف عن الأمل فيه
إلى أن جاء يوم سمعته فيه يتحدث إلى صديق له في التليفون ويضرب له موعدا للقاء في
الثالثة من بعد ظهر اليوم التالي, أمام البوابة الرئيسية لمعرض القاهرة الدولي,
وعلى الفور حزمت أمري وقررت أن أذهب للمعرض في نفس هذا الموعد وألتقي به, كما لو
كان لقاء بالمصادفة.. وذهبت إلى هناك بالفعل ورأيته وعبرت الطريق أمامه كأنني لا
أراه وناداني محييا فاصطنعت الدهشة لهذه المصادفة السعيدة وقلت له إنني كنت على
موعد مع صديقة لزيارة المعرض لكنها لم تحضر, فتعجب للمصادفة لأنه كذلك كان على
موعد مع صديق لنفس الغرض وتخلف أيضا عن الحضور, وسألني عما إذا كنت أحب مشاهدة
المعرض معه فرحبت بذلك, ودخلنا معا وأمضينا عدة ساعات معا, وتواعدنا على
اللقاء في الموعد نفسه غدا لاستكمال الفرجة، وقام بتوصيلي إلى مسكني بسيارته.
وفي اليوم التالي
أمضيت معه يوما سعيدا آخر ووجدته إنسانا كريما وودودا, وفي نهاية اليوم سألني
وهو يوصلني إلى منزلي عما إذا كنت أقبل به زوجا لي .. فغلبتني دموعي وراح هو
يحنو علي .. ويخفف عني .. وفاتحت أبي برغبة رئيسي في التقدم إلي فرحب بذلك لكي
يخلو له المسكن مع زوجته, وجاء رئيسي مع أخته وأخيه والتقوا بوالدي, وصارحه
أبي بأننا لا نملك شيئا وأنه إذا أراد أن يتزوجني فعليه أن يتكفل بكل شيء دون أي
مساعدة منه, وقبل ذلك, ولم تمض أسابيع حتى كان قد عقد القران, وبعد شهور
قليلة تم الزواج وانتقلت إلى شقة زوجي الجميلة المؤثثة بكل الكماليات .. وأجهزة
التكييف والأجهزة الكهربائية الحديثة, وتحقق الحلم الجميل الذي لم أتصور إمكان
تحقيقه, وأصبحنا نذهب إلى العمل ونرجع منه معا.. وافتتحت لنفسي بعد الزواج
دفتر توفير في البنك أصبحت أضع فيه مرتبي أو معظمه كل شهر لأن زوجي الكريم أبى علي
أن أنفق منه شيئا على حياتنا, وحملت وأنجبت طفلة جميلة وبعد انتهاء إجازة الوضع
وجدت أنني أحتاج للتفرغ لبيتي وأسرتي فحصلت على أجازة بدون مرتب وحملت مرة أخرى ثم
ثالثة وأصبح لدينا ولدان وبنت.
ومضت الأيام جميلة
وبهيجة, فحتى الخلافات البسيطة التي تحدث بين الزوجين كانت سرعان ما تزول,
وتقدم زوجي في عمله واطرد نجاحه وازداد دخله.. ووجدت أنني لن أستطيع العودة
للعمل فتقدمت باستقالتي إلى البنك لكي أتفرغ لأسرتي, وحصلت على مبلغ لا بأس به
كمكافأة أودعته دفتر التوفير بناء على نصيحة زوجي, وواصلت الحياة طريقها وزوجي
يضعنا في بؤرة اهتمامه.. ولا يعكر
علينا صفو الحياة شئ سوى أنني قد أصبحت مع الأيام وأعباء الأبناء والبيت عصبية مع
زوجي لأقصى الحدود, وأثور عليه لأتفه الأسباب, وهو يهدئ روعي ويستحلفني ألا
تحدث أية مشادة بيننا أمام الأبناء لكيلا تتأثر نفسياتهم, وفي هذه الفترة كان
زوجي قد دخل في بعض المشروعات التجارية مع بعض أصدقائه وبدأت مشروعاته في النمو,
وأصبحت تدر علينا دخلا كبيرا.. وحاول زوجي أن يحصل على إجازة بدون مرتب لكي يخصص
وقتا أكبر لأعماله التجارية فلم يوفق في ذلك, ولم يجد مفرا من الاستقالة من
البنك والتفرغ لأعماله الخاصة.
ثم اضطربت فجأة
حياة زوجي العملية حين استولى أحد شركائه على قيمة أحد الشيكات وفر بها .. فتأثرت
الأعمال التجارية.. واضطربت الأحوال ووصل الأمر إلى ساحة القضاء, لكن زوجي لم
ييأس والتحق بالعمل بأكثر من شركة تجارية, فلم يكن العمل يطول في كل منها أكثر
من 5 أو7 أشهر, ثم يعود إلى البيت.. وفي هذه الأثناء زادت عصبيتي معه بشكل رهيب.. وأصبحت أشتبك
معه في مناقشات عنيفة تستغرق الليل بأكمله وتستمر حتى الصباح, وهو يرجوني أن
أخفض صوتي لكيلا يسمع الأبناء بلا طائل, وحتى أنه كان في بعض الليالي يترك البيت
ويركب سيارته ويظل يطوف بها في الشوارع حتى يطلع النهار ويذهب الأولاد للمدرسة
فيرجع مهدودا لينام, وما أن أشعر بوجوده حتى أنهض من نومي لأستأنف معه النقاش!
وغضبت من زوجي وهجرته إلى بيت أبي وشكوت إليه حالي فقال لي إنه لا دخل له بحياة زوجي ومن
حقه أن يدبر أموره كيف يشاء مادام لا يقصر في شيء مع أبنائه, ورحل أبي فجأة عن
الحياة وأنا مقيمة لديه, وبعد وفاته أبلغتنا زوجته أنه قد كتب لها الشقة منذ
ثلاث سنوات, وحضرت إلينا في نفس اليوم سيدة أخرى معها طفل قالت لنا إنها هي
الأخرى زوجته وهذا الطفل ابنه!
وهكذا وجدت الدنيا
تنهار من حولي ولم يعد لي مكان في بيت الأسرة فرجعت إلى منزلي ومعي الأبناء وانقطعت
صلتي بالمكان الذي نشأت فيه, وبعد وفاة أبي بدأ أخي الأكبر الذي لم يكن يزورني
كثيرا من قبل في زيارتي والاهتمام بأمري, خاصة أنه كان قد استقرت حياته وافتتح
لنفسه مشروعا صناعيا بإحدى المدن الجديدة.. وبدأت أنا أعتمد عليه كأخ أكبر وأحكي
له كل كبيرة وصغيرة في حياتي.. وأصبحت أستجيب لكل ما ينصحني به حتى أنني هجرت
غرفة نومي وأصبحت أنام في حجرة الأبناء بناء على نصيحته, لكي أستحث زوجي على أن
يجد حلا لمشكلاته.
وذات مساء جاءني
زوجي بعد نوم الأبناء..
وقال لي إن معه شيكا يستحق الصرف بعد20 يوما, وطلب مني أن أعطيه أي مبلغ لكي
ينفق منه على البيت إلى أن يحل موعد الشيك فيعيده إلي, فنهرته وانطلقت أجرحه
بشكل غير طبيعي وهو صامت لا ينطق حتى استيقظ الأبناء من نومهم على صوتي واندفعوا
يبكون فأدخلتهم حجرتهم.. وأنا أشعر بسعادة شديدة لأن الأبناء قد تصوروا أن أباهم يعتدي علي بالضرب ومضت الأيام
بحلوها ومرها وزوجي يحاول جاهدا الإصلاح ونصائح أخي لي تنسف جهوده أولا بأول..
وكلما شعرت أن مع زوجي مبلغا من المال أخبرته أنني مريضة وفي حاجة إلى استشارة
طبيب وإجراء تحاليل, فلا يملك إلا القبول لأنه يعرف أن المرض معناه أن تحدث
مشادة عنيفة بيننا أمام الأبناء وهو لا يريد ذلك.
وباختصار يا سيدي
فقد أحلت حياته إلى جحيم وأعترف لك بذلك واعتاد الجيران سماع صوتي العالي وهو يسب
بأفظع كلمات السباب, وهو يتحمل صابرا ويستحلفني بالله أن أدعه يعيش في أمان لكي
يستطيع تدبير رزقه ورزق أولاده, وأنا أشعر كأنني قد ركبت قطارا انطلق بأقصى سرعته..
ولم أعد أستطيع إيقافه.
وفي الصيف الماضي
وجدته ذات يوم يعد حقيبة سفر صغيرة وسألته عما يفعل فأجابني بأنه سيسافر إلى
بورسعيد لقضاء بعض الأعمال التجارية وسافر, وفي اليوم التالي تلقيت منه ورقة
الطلاق, وجاء معها المحامي الذي يتعامل معه زوجي ورجال من قسم الشرطة لكي أتسلم
منقولاتي ومؤخر الصداق, وأسرعت أتصل بأخي فحضر ليشاركني هذا الموقف العصيب,
وبعد مداولات انتهينا إلى أن آخذ معي الأولاد بناء على طلبي بالرغم من انتهاء
حضانتي لهم ومقابل أن أتكفل أنا بنفقاتهم وألا أطالب مطلقي بشئ.. وتم إنزال
الأثاث إلى الشارع وجاءت سيارة نقل فحملته مع الأبناء, والجيران ينظرون إلينا من
الشرفات في صمت, وذهبت إلى مسكن أخي, لكن إقامتي لديه لم تطل كثيرا لأنني
أحسست أنني لو بقيت معه فترة أطول فسوف يخسر زوجته, وبمساعدته عثرت على شقة سطح صغيرة من
غرفة وصالة, وانتقلنا إليها في حين تكوم معظم الأثاث في مخزن يملكه صديق أخي..
ودخلنا الشقة الجديدة والأبناء يتلفتون حولهم في ذهول وأنا مثلهم, ومضت الأيام
وأنا أتحمل مسئولية الإنفاق على الأبناء من مدخراتي, وبعد بضعة أشهر خرجت ابنتي
الكبرى في الصباح الباكر دون أن تصارحني بوجهتها, وانقضى النهار بغير أن تعود,
وعند الغروب استدعاني الجيران لأرد على مكالمة تليفونية فوجدتها منها ووجدتها
تبلغني بأنها لدى والدها وستقضي الليلة معه وعلينا أن نقابلهما أمام حديقة الحيوان
في صباح اليوم التالي.. وذهبنا كلنا في الموعد.. وبعد قليل حضر زوجي السابق
بسيارته ومعه ابنتي واندفع إليه الولدان في شوق وفرح ورأيته يحتضنهما ويقبلهما
والدموع تملأ عينيه, ثم أعطى كل ولد مظروفا به ألف وخمسمائة جنيه ولابنتي مظروفا
مماثلا, وودع الأبناء وانصرف مسرعا بسيارته وأنا واقفة فوق الرصيف لا أتحرك ولم
يصافحني ووجدت ابنتي تحمل حقيبة كبيرة عرفت إنها تحوي ملابس جديدة لها اشتراها
أبوها لها ولأخويها وملابس للمدارس, ومنذ هذا اليوم حدث تحول غريب للأبناء تجاه
والدهم وبدأوا يهاجمونني ويتهمونني بأنني السبب في حرمانهم من أبيهم, وخاصة
ابنتي الكبرى التي أصبحت تذهب إلى والدها كثيرا وتبقى عنده بالأيام, كما أن ابني
الصغير الذي يحب أباه بجنون ذهب إليه وقضي معه شهرا كاملا لم أره خلاله.. وأنا
الآن في موقف غريب.
أعرف إنني أخطأت
في حق زوجي السابق كثيرا وأهنته كثيرا وحطمت بيتا كان من الممكن أن يكون من أسعد البيوت, وأعرف أيضا أنه
يقرأ لك بانتظام, فهل يمكن أن توجه إليه كلمة لكي يعيد اجتماع الشمل مرة أخرى,
وأنا على استعداد لأن أقبل الأرض التي يسير عليها من أجل الأبناء الذين أصبحت
حياتهم صعبة خاصة وأنني أشعر أنهم سوف يذهبون إلى أبيهم الواحد بعد الآخر ذات يوم
وأبقى أنا وحيدة؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
قد تكون رسالتك هذه فرصة لا بأس بها لفهم سر إقدام أحد شريكي الحياة على اتخاذ خطوة مصيرية غير متوقعة على خلاف ما كان يبدو عليه من استسلام ظاهري لظروفه.. وقبول للشرب على القذى على مدى سنوات طويلة, حتى ظن به الطرف الآخر أنه لا يجرؤ على الاعتراض, ناهيك عن التغيير!إن النفس البشرية كالكأس التي تفيض فجأة إذا تلقت قطرة زائدة واحدة على قدرتها النهائية على الاستيعاب.
وبعض شركاء الحياة يتغافلون عن إدراك أن كأس الشريك قد امتلأت ولم يعد بها متسع للمزيد, وبدلا من أن يحاولوا إفراغها من مخزونها القديم من المرارات أولا بأول, بالاعتذار ومحو الإساءة .. وحسن العشرة والحب والعطاء وإثبات حسن النية.. يواصلون إضافة المزيد والمزيد إلى أن تجئ اللحظة الحاسمة وتفيض الكأس بما فيها ويتعذر الإصلاح, ويفاجأ أحد الطرفين بالآخر وقد انتفض كالمارد بغير سابق إنذار وسد كل أبواب التفاهم.. وأصر على الانفصال مهما تكن التبعات.
والحق أن أكثر ما يعين على إفراغ هذه الكأس قبل أن تفيض بما فيها .. هو أن يكون الخطأ عابرا وليس متعمدا, أو أن يعتذر عنه مرتكبه ويسترضي الشريك نفسه حتى تخلو من المرارة الموجدة أو أن يحرص علي مودة صاحبه حتى لينسيه بعد قليل الإساءة السابقة, أو أن يقف إلى جواره في المحن والشدائد فتجب فضائله الأساسية عثراته الهينة.. أو أن تكثر محاسنه فتمحو تلقائيا سيئاته علي نحو ما عبر عنه المتنبي بقوله:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا فأفعاله اللائي سررن ألوف
وقبل ذلك كله ألا يسبب الخطأ المرتكب في حق الشريك جرحا غائرا لكرامته الإنسانية .. وألا يشعره بالهوان على صاحبه .. ولا بالجحود ونكران الجميل, فإذا كان من ذلك النوع احتاج من مرتكبه إلى ما هو أكثر من الاعتذار والاسترضاء البسيط, وتطلب التفكير وصدق الندم.. والوعد المقنع بعدم العودة إليه مرة أخرى, وفي ظني أنك قد تغافلت عن حقائق عديدة في علاقتك بزوجك السابق.. ولم تحترزي في تعاملك معه في السنوات الأخيرة.. فاعتمدت اعتمادا خاطئا على روح المسالمة التي يتعامل بها مع إساءاتك إليه.. وخوفه الدائم من إطلاع الأبناء على خلافاتكما.. فتماديت برعونة في الإساءة إليه والاستهانة بأمره, وحولت حياته كما تقولين إلى جحيم, ومحاكم تفتيش تتواصل طوال الليل حتى ليفر منها ويهيم علي وجهه في الشارع إلى أن يطلع الصباح حتى يذهب الأبناء إلى المدرسة ويطمئن إلي أنهم لن يشهدوا هوانه ومذلته مع زوجته.
ومن أسف إنك لم
تفعلي ذلك لأنه كان يسئ عشرتك أو يخون عهد الوفاء معك أو ينصرف عنك وعن أبنائه إلى
زوجة أخرى أو يطلق العنان لأهوائه وينغمس في اللهو والعبث والفجور بما يؤثر علي
سمعة الأسرة والأبناء.. وإنما استبحت كرامته وكبرياءه لسبب لا يشرف أي زوجة
حريصة على حياتها الزوجية وأمان أبنائها.. وهو تغير أحواله المادية لأسباب لا
حيلة له فيها.. وتعثر خطواته وضعفه أمامك, بعد أن كان الحلم صعب المنال الذي
تتنافس فتيات البنك علي الفوز به.. وتخططين أنت لاقتناصه لكي ينتشلك من ظروفك
القاسية قبل الزواج. وبدلا من أن تواسيه بمالك حين تغيرت أحواله وتعينيه علي
أمره حتى يستعيد ما فقده ويقف علي قدميه من جديد تحولت إلى زوجة عدوانية معه
وتوحشت في إساءة معاملته, بالرغم من اجتهاده لإرضائك وتلبية متطلبات حياة الأسرة
بقدر الإمكان, وبالرغم من إقرار والدك كذلك بأنه لا يقصر بالرغم من ظروفه في
تلبية مطالب الأبناء.
ولا تفسير لذلك لدي
سوى أنك لم تعرفي الحب الحقيقي لهذا الرجل في أي مرحلة من مراحل علاقتك به, وأن
سعيك للفوز به دون الأخريات لم يكن استجابة لنداء القلب المتطلع للسعادة بقدر ما
كان أملا عمليا في التخلص من ظروفك القاسية والفوز بالحياة الكريمة والأمان المادي..
أي أنه كان تطلعا إلى حياة أفضل وانسلاخا من واقع اجتماعي مؤلم.. وليس في ذلك
خطأ في حد ذاته لأنه حلم مشروع لكل إنسان, لكن الخطأ قد بدأ حين اعتبرت تغير أحواله المادية
وكأنه إخلال من جانبه بشروط المشروع المادي الذي شغلت به عند التطلع للارتباط بهذا
الرجل, وتعاملت معه وكأنه جان ارتكب في حقك خطيئة عظمى لابد من عقابه عليها
لتعسره المادي وضياع ماله!
وليس هكذا تفعل
الزوجة المحبة التي ترتبط مع زوجها بوحدة المصير في السراء والضراء وفي الصحة
والمرض وفي الفقر والغني..
ولا عجب إذن في أن
ينتهي بك السعي إلى حيث بدأت خطواتك للارتقاء الاجتماعي, فترجعين إلى ما يشبه
المسكن القديم الذي كان يتكدس في إحدى غرفه سبعة من الإخوة, لأن الشكر هو الحافظ
للنعم.. وليس التمرد والجحود والانقلاب علي الشريك حين تتغير أحواله المادية
ولأنه كما ينبئنا الحديث الشريف:
التحدث بالنعمة شكر
وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله,
والجماعة بركة والفرقة عذاب صدق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
ولم يكن من شكر
النعم أن تقلبي لزوجك ظهر المجن لمجرد أنه فقد ماله.. أو اضطربت أحواله التجارية.
والآن فإنك تقولين
إنك تعرفين إنك قد أخطأت في حق زوجك كثيرا وأهنته كثيرا, وتأملين في إعادة جمع
الشمل معه.. وهذا أمل مشروع لك لاشك في ذلك.. لكنك لا تبررينه بأنك قد أدركت
هول أخطائك وندمت عليها ندما شديدا وأدركت كم كنت متحجرة المشاعر.. صخرية القلب حين كفرت بعشرة
زوجك الذي يتحمل منك الأذى صابرا ولا يرد عليك الإساءة إلا بالرجاء المتوسل إليك
بخفض صوتك لكيلا يسمعك الأبناء, وصح عزمك علي أن تعوضي زوجك عن كل ما عاناه معك..
وتغيرت بالفعل أفكارك وشخصيتك إلي الأفضل, وترغبين في استعادة أبنائك لحياتهم ا
لعائلية المستقرة وإنما تبررين رغبتك في العودة بمبرر يعد استطرادا للتفكير
المنحصر في الذات.. وهو أن الأبناء قد بدأوا يتجهون إلى أبيهم ويعرفون له فضله
ويتعاطفون معه.. ويتهمونك بالمسئولية عن حرمانهم من حياتهم العائلية ولن يمضي
وقت طويل حتى يتسربوا واحدا بعد الآخر عائدين إلي أحضان أبيهم وتاركين إياك للوحدة
وسوء المصير!
ولست أحسب أن هذا
المنطق الذاتي سوف يفيد شيئا في إقناع زوجك السابق بأنك قد أدركت بالفعل حقيقة ما
ارتكبت من أخطاء جسيمة في حقه وحق أبنائك, بل وحق نفسك, ولن يغريه بالأمل في
أن يتعامل مع متغيرات إيجابية في شخصيتك في حالة العودة إليك, وإنما يفيد حقا
ألا نكتفي بمجرد الإقرار, وإنما نضيف إليه صدق الندم وإبراء الذمة من حقوق من
أخطأنا في حقهم.. والاعتذار الكافي لهم, وأن نواصل الجهد المخلص الدءوب
للتفكير عن خطايانا في حقهم واسترضائهم إلي أن يعفوا ويصفحوا ويقتنعوا بأننا قد
تغيرنا بالفعل إلي الأفضل.
ومن أقوال السيد
المسيح عليه السلام: من يهلك نفسه من أجلي يجدني.
وكذلك الحال أيضا
مع أهدافنا في السعادة والأمان, فإننا لا نحققها بمجرد التمني أو الرغبة فيها,
وإنما نحققها بالجهد والعرق والصبر على المكاره .. لكي نجدها في نهاية
المشوار.
فابذلي كل ذلك في سعيك لاستعادة السعادة والأمان في حياتك, وحاولي إقناع زوجك
السابق إنك لا تسعين للعودة إليه لأن ظروفه المالية قد بدأت في التحسن كما هو واضح
من نهوضه لتحمل مسئوليته المادية عن أبنائه بالرغم من اتفاقه معك على استمرار
حضانتك لهم مقابل الإنفاق عليهم, وإنما لأنك قد أدركت ما كان قد فات عليك من
حقائق الحياة وعرفت له بالفعل فضله وقدره وحسن عشرته لك.
وحبذا لو قدمتي له أي دليل مادي لإثبات ذلك حتى ولو كان رمزيا لإشعاره بتغيرك
وتغير أفكارك المادية السابقة!
رابط رسالة يوم الخلاص تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر