ابتسامة الرضا .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004
قرأت رسالة ماكينة الخياطة
التي تحكي قصة ذلك الشاب المناضل الذي وجد من يقيله من عثرته عندما ضاقت به
الأحوال منذ نحو عشرين عاما, عندما كان طالبا في كلية طب الأزهر, ثم أرسل لكم
راجيا مساعدته في العثور علي ذلك الصديق القديم في محاولة صادقة لرد الجميل
والحقيقة أنني أعدت قراءة تلك القصة مرات ومرات مستمتعا بما تحمله من معان جميلة,
وجاء ردكم عليه في كلمات بليغة وعميقة ووافية بأن مسلسل العطاء والوفاء ليس
بالضرورة أن يكون عبر من امتدت يدهم إلينا وقت الحاجة, ولكن من الأفضل أن يمتد
إلى آخرين ربما يكونون في نفس خندق الحاجة الذي كنا نقف فيه سالفا, وبالتالي فهم
أحق بالعطاء من غيرهم.. والحقيقة أن تلك الرسالة جاءت في وقت يعتقد فيه البعض أن
الوفاء أصبح عملة نادرة فأعادت إلينا الثقة بالحاضر والمستقبل وأن الخير سيظل في
أمتنا بإذن الله إلى يوم الدين.
ولقد ذكرتني تلك القصة
بواقعة لا تزال محفورة في ذاكرتي برغم مرور الأيام والسنين .. ففي عام 1979 كنت
أعمل مديرا لمكتب أحد أعضاء مجلس الإدارة في شركة كبرى للمقاولات في مصر, وجاءني
أحد المهندسين المعاقين وبرفقته شقيقه الأصغر يدفعه على عجلة طبية خاصة, وهو
يكاد يبكي لأن الإدارة التخصصية المقرر تسلمه العمل بها في الشركة رفضت قبوله بسبب
إعاقته الحركية برغم موافقة الإدارة العليا
على مبدأ التعيين, وأن قرار تعيينه مهدد بالإلغاء بسبب ذلك ويومها هدأت من روعه
وتسلمت أوراقه المبللة بدموع الإحساس بالقهر والظلم ودخلت بها إلى عضو مجلس الإدارة
الذي أعمل معه فأشر على الأوراق بتسلمه العمل فورا حتى ولو بقي على قوة مكتبي
مؤقتا إلى أن يتسلم عمله الرسمي في الإدارة التخصصية التابع لها, ولا أستطيع أن
أصف لكم علامات الرضا والسعادة التي هللت وجه هذا المهندس الشاب في ذلك اليوم,
وكأنه لا يصدق نفسه, وراح يتمتم بكلمات الدعاء والشكر لكل من ساعده في مهمته,
وتسلم الشاب عمله مع مديره الذي قبله على مضض, ولكنه اكتشف مع مرور الأيام أنه
أكثر كفاءة من بعض زملائه الأصحاء وتدرج في وظيفته حتى صار رئيسا للقسم الذي يعمل
فيه متخطيا ـ عن استحقاق ـ العديد من زملائه.
ومرت الأيام وشاءت الأقدار أن يصاب هذا المدير
بفيروس C نشيط فأقعده عن العمل
فكان أول من زاره في منزله هذا المهندس المعاق, وبكى المدير عندما لمحه يدخل
عليه وكاد يقبل يده الممدودة بالسلام قائلا سامحني لم أعلم أني ظلمتك إلا عندما
أصبحنا في بحر الألم سواء وبكى المهندس الشاب قائلا: مؤكد أنك لم تقصد إيذائي
سامحك الله, وبعد شهور قليلة توفي هذا المدير وهو نادم على فعلته.. ومرت سنوات
وعصفت الظروف بالشركة وانقلبت الدنيا رأسا على عقب بسبب تصرفات بعض أعضاء مجلس الإدارة
والتي اعتبرتها الرقابة الإدارية في ذلك الوقت تجاوزات يحاسب عليها القانون,
وتعقدت الأمور وكادت تلك الأزمة تطيح بعضو مجلس الإدارة الذي كنت أعمل معه لأنه لم
يكن لديه من الأوراق ما يبريء ساحته, لأن أحدا لم يتخيل أن يجيء يوم كهذا فأسلم
أمره للمولى عز وجل وقرر التنحي عن موقعه, وفوجيء مسئول الرقابة الإدارية بمهندس
معاق يأتي بسيارة إسعاف على نفقته الخاصة من المستشفي الذي يرقد فيه منذ شهور برغم
تحذير الأطباء له من خطورة الحركة علي حياته للإدلاء بشهادته ولتقديم أوراق مهمة
تبريء ساحة عضو مجلس الإدارة وفاء لدين قديم معلق في رقبته على حد قوله,
وعندما علمت بذلك ذهبت إلى المستشفي لأشكر له وفاءه وإخلاصه, فأبلغني أقرباؤه أن
روحه فاضت إلى بارئها بعد عودته من الرقابة الإدارية بساعات قليلة وعلى وجهه
ابتسامة تنطق بالرضا والوفاء.. رحمه الله وطيب ثراه.
ومنذ عامين تقريبا وفي
واقعة فريدة لا تحدث إلا في الأفلام وعقب وصولي إلى مطار القاهرة في رحلة قادمة من
كندا, اكتشفت فقد جواز سفري المصري قبل منطقة الجوازات وكنت على وشك الإحالة إلى
جهاز أمن الدولة للتحقيق معي, وفوجئت بأحد موظفي الجوازات يندفع نحوي بشدة ويكاد
يحتضنني بشوق زائد برغم أني لا أعرفه, وقام بجهد خارق لإنقاذي من ورطتي وقام
بحملة تفتيش دقيقة كانت نتيجتها أن ظهر جواز السفر بعد أن فقدت فيه الأمل تماما..
وذهبت مندهشا إلى هذا الشاب النبيل لأشكره على جميل صنيعه ويا للمفاجأة فقد كان هو
الشقيق الأصغر للمهندس الشاب الراحل والذي كان بصحبته يوم جاءني في مكتبي منذ نحو
خمسة وعشرين عاما وعندما داعبته معلقا على قوة ذاكرته قال لا ينسي الإحسان
والمعاملة الطيبة إلا كل ناكر للجميل لقد كان أخي رحمه الله يدعو لكم صباحا ومساء.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لا عجب يا سيدي فيما ترويه فتجارب الحياة العديدة وخبرات الماضي وقصص التراث العربي قد علمتنا كلها ما سبق ان علمته للشاعر العربي حين قال:من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس!
وهذا صحيح ـ ومعناه ان من يفعل الخير لابد ان يجزي خيرا ذات يوم ان لم يكن ممن قدم إليه الخير حين يملك ان يفعل ذلك, فمن الله سبحانه وتعالي الذي يجزي كل إنسان بما فعل ولا يضيع عنده العرف أي المعروف.
ولإدراكهم هذه الحقيقة فإن أهل الصلاح لا ينزعجون كثيرا إذا لمسوا إنكار بعض من قدموا لهم الخير لجميلهم أو جحودهم.. ولا يستسلمون لوساوس الشيطان فيكرهون العطاء بدعوى أن معظم البشر لا وفاء لهم.. وإنما يواصلون طريقهم اعتمادا علي ان ما يضيع عند الناس لا يضيع عند الله.. وعلي أن جوائز السماء خير وأبقي.. لأنها قد تكون خيرا ظاهرا وقد تكون خيرا مستترا يحجب شرا مستطيرا وهكذا.
فضلا عن أن بعض الناس كما يقول الشاعر الأديب جبران خليل جبران:يعطون بفرح ويكون فرحهم هذا هو جائزتهم علي ما قدموا من عطاء.. وشكرا لك لإطلاعنا علي هذه القصة الجميلة .
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2004
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر