الانتقام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

الانتقام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أشعر برغبة شديدة في أن أروي لك قصتي بالرغم مما سيكون لك عليها من تحفظات كثيرة , واستحلفك أن تقول لي رأيك الذي احترمه فيها في أسرع وقت وقبل فوات الأوان .

بدأت قصتي منذ أعوام حيث ألتقيت في مكان عام بشاب يعمل عملا مهنيا وتعرفت عليه , واتصلت به , ولم يمض وقت طويل حتى وقع هذا الشاب في حبى وطلب الارتباط بي , وقد بدأت المشكلة حين جاء مع أبيه وأمه لزيارة أهلي وطلب يدي وعرفت بعد الزيارة أنني لم ألق قبول أبيه المتعالي , وأن أمه لم تعترض على موقف الأب رغم حبها الشديد لابنها، وأن موقف والديه مني كاد يؤثر عليه ويهز حبه لي ويدفعه إلى الابتعاد عني . وسأكون صريحة معك إلى أقصى حد فأعترف لك بأنني لم أحب هذا الشاب , ورغم ذلك فقد اشتد غيظي من أهله لرفضهم لي وصممت على الارتباط به انتقاما من أبيه المتعجرف , وبالفعل نجحت خطتي وتمكنت من أن أجعل هذا الشاب يؤمن إيمانا راسخا بأنني الفتاة الوحيدة في العالم التي تصلح له فأمضى فترة طويلة في شد وجذب مع والده وفي محاولات مضنية لإقناعه بالنزول من عليائه وتغيير موقفه الرافض المتعنت بلا جدوى , ومرت بهذا الشاب فترات تردد وحيرة تجاهي لكن لأن الممنوع مرغوب فقد قرر في النهاية ألا يضحي بالفتاة التي يحبها , واقتنع نهائيا بأنني الوحيدة في الدنيا التي يستطيع أن يكمل معها مشوار الحياة وأن أهله لن يعيشوا له طوال العمر .. وأنه هو من سيتزوج وليس أبوه وأمه , فحزم أمره وتمت خطبتنا بعد حوالي عام , ولم يحضر حفل الخطبة أبواه .

والآن يا سيدي وقد اقترب موعد الزفاف بعد أسابيع قليلة فإنني أسأل نفسي ما جدوى كل هذه الخطط والحيل , وأنا أشعر بأنني أجلس فوق قنبلة موقوتة من أجل شاب يحبني ولا أحبه , وقد تنفجر هذه القنبلة في أية لحظة فتفسد حياتي إذ قد يفيق هذا الشاب من حبه ويكتشف أنه لم يكن بالنسبة لي أكثر من فرصة جيدة للزواج أو يكتشف عدم حبي له وكراهيتي الشديدة لأهله ويدرك في هذه اللحظة أنني لم أكن أستحق التضحية برضا أهله من أجلي , وقد يدرك أيضا أن والده كان على حق في موقفه مني فيتغير تجاهي , ولكن بعد فوات الأوان .. أي بعد الزواج والانجاب , فبماذا تنصحني أن أفعل ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

ولـــكـــاتـــبــة هــذه الـــرســـالـــة أقـــول:

 

وأنا أيضا سأكون صريحا إلى أقصى حد يا آنستي فأقول لك : أنك قد ارتكبت جريمة لا تغتفر في حق هذا الشاب البرئ وحق أبويه وحق نفسك أنت أيضا في النهاية فقد رسمت الخطط والحيل لتخدعي هذا الشاب الذي لم يحمل لك إلا الحب , وأوهمتيه خطأ وخداعا بحبك له وبأنك الفتاة الوحيدة في العالم التي تصلح له , وأنت تعرفين جيدا في قرارة نفسك أنك لا تحبينه , ولا ترين فيه أكثر من فرصة سانحة للزواج .. وتماديت في غيك فأسأت إلى أسرته وأبويه بتشجعيك له على مخالفتهم والتضحية بهم من أجل فتاة لا تحركها إلى كل ذلك سوى الرغبة في الانتقام منهم .. ومع اعترفاك الباطني لنفسك بأن أبويه لم يظلماك حين لم يقتنعا بك ولم يتعديا حقوقهما الطبيعية في ابداء رأيهما فيمن يختارها ابنهما وفي قبولها أو رفضها , ولأن الرغبة الجامحة في الانتقام كالغضب الأهوج يطفئ شمعة العقل فقد امتد انتقامك إليك أنت شخصيا وحكمت على نفسك بأن تعيشي حياتك كلها مع من لا تحبيبنه ولا أمل في أن تحبيه ذات يوم بعد أن مضت فترة طويلة وتحديات كثيرة كانت كفيلة بأن تولد شرارة الحب في قلبك تجاهه لو كانت النوايا خالصة والأعمال طيبة وتستهدف وجه الحق والعدل .. والجزاء من جنس العمل دائما يا آنستي .. لهذا لم يبذر الله أعدل العادلين بذرة حب هذا الشاب في قلبك لتظل جريمتك في حقه حية أمامك طوال العمر إذا ارتبطت به وندمت على أن سجنت نفسك حتى النهاية في سجن الزواج بمن لا تحبين .. ولماذا كل ذلك لمجرد الانتقام والغيظ من الأهل الذين رفضوك فأرتبكوا بذلك جريمة كبرى في حق ذاتك التي ينبغي ألا تمس !

إنك يا آنستي متعجرفة داخليا كأبيه تماما وربما أكثر وتزيدين عنه أنك شديدة الأنانية لأن الإنسان الذي تتملكه الرغبة الجامحة في الانتقام من الآخرين إذا أساءوا إليه إنسان شديد الأثرة ويغالي في تقدير ذاته إلى حد أن يتصور غرورا وخبالا في أي مساس به يستوجب هدم المعبد فوق رؤوس الجميع .. أما من لا يغالون في تقدير أنفسهم فيصفحوا أو يفهموا أسباب الآخرين ويتلمسوا لهم الأعذار .. أو يسلمون لهم بحقهم الطبيعي في الاختلاف معهم أو حتى رفضهم ويتعففوا في كل الأحوال عن الانتقام منهم إيمانا بأن العادل الذي في السماء جل شأنه سوف ينتصف لهم بعد حين .. أو يهيئ لهم من أمرهم ما يعوضهم عما سلبه منه الآخرون ظلما وعدوانا .

ولأن الفعل الأخلاقي خير بالضرورة كما يرى الفيلسوف الألماني كانط فلقد كان فعلك لا أخلاقيا وشريرا منذ اللحظة التي قررت فيها الانتقام من أهل هذا الشاب بالاستيلاء على ابنهم بالرغم من أنك لا تحبينه , ولهذا شقى بفعلك هذا أو سوف يشقى به كل الأطراف في النهاية وأولهم أنت ولا عجب في ذلك لأن هناك دائما ثمنا يدفعه الناس لأفعالهم واختياراتهم في الحياة .

وأنت بما فعلت ينطبق عليك قول الشاعر العربي :

صار جدا ما مزحت به

رب جد جره اللعب !

وأول ثمن سوف تدفعينه لما فعلت هو أن تعيشي مع هذا الشاب حياة المجرم المتستر على جريمة ارتكبها في الخفاء ويخشى دائما من افتضاح أمرها فيفسد عليه الخوف والتوجس والاستمتاع بثمار جريمته , ويستعصي عليه الإحساس بالأمان والسلام الداخلي , وكل جريمة لابد أن تفوح رائحتها ذات يوم , وسوف يجي يوم إن آجلا أو عاجلا يفيق فيه هذا الشاب من خداعك , ويكتشف أنك لا تحبينه وأنه لم يكن سوى أداة استخدمتها للانتقام من أبيه , وأن تضحيته بأهله من أجلك كانت عبثا بلا طائل ولمن لا يستحق أن يضحي بأي شئ من أجلها , فينقلب حبه لك إلى كراهية طاغية مدمرة ويسلم بصواب رأي أبيه فيك وبعد نظره .. ويلفظك من حياته نادما على ما ضاع من العمر وبراءة المشاعر معك , وللأسف أن ذلك حين يحدث فلن تقتصر آثاره المدمرة عليك وحدك .. وإنما ستمتد إلى ضحايا جدد هم أطفالكما في المستقبل .

لقد قال رجل ذات يوم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه : والله لأسبنك سبابا يدخل معك قبرك , فقال له أبو بكر : معك يدخل لا معي ! وهذا سيحدث معك للأسف يا سيدتي .. لقد أردت أن تنتقمي من والد فتاك وتؤلميه ألما يدخل معه حياته ويلازمه حتى نهاية العمر , فإذا بانتقامك يدخل معك أنت بيتك وحياتك ويلازمك إلى أن يفتضح أمره ذات يوم والمؤسف أن ما فعلتيه سلوك شائع عند بعض الفتيات اللاتي يتملكهن الغيظ من رفض الآباء والأمهات لهن فيقررن الانتقام منهن في أبنائهم , وفي أنفسهن أيضا وفي أولادهن من بعدهن .. ففيم كل هذا العناء والشقاء ؟

إنك تسألينني النصيحة .. ونصيحتي الوحيدة لك هي أن تواجهي الأمر كله بأمانة مع النفس ومع الآخرين.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سبتمبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات