الينبوع .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987
إن
بعض الناس يعتقدون خطأ أن مهمة الآخرين في الحياة هي العطاء لهم دائما بغير أن
يلتزموا بمقابلة ذلك بعطاء مماثل .. لكن مشكلة من اعتادوا أن يعطوا ويتنازلوا
ويصفحوا دائما أنهم قد يتوقفون فجأة في منتصف الطريق حين يكتشفون أن مشاعرهم
وأحاسيسهم قد أصبحت كمياه الأنهار سريعة الجريان تتدفق دائما إلى المصب ولا ترتد
إليهم أبدا بوفاء مماثل.
لهذا
فنحن في حاجه دائما إلى أن "نروي" ينابيع الآخرين بمشاعرنا لكيلا تجف
وتتوقف عن العطاء لنا.
عبد الوهاب مطاوع
سأحكي
لك قصتي من البداية وأرجو ألا تفقد صبرك معي عندما تصل إلي نهايتها.
منذ
سنوات كنت طالبا في إحدي الكليات وكانت لي شلة من الأصدقاء كنت وسطهم الملك غير
المتوج الذي يفعل أي شئ ويتقبله الآخرون دائما بصدر رحب .. وكانت لي من بين طالبات
الكلية فتاة ارتبطت بها عاطفيا وانتويت أن أخطبها عقب إنتهاء دراستنا.
واسمح
لي بملأ غرور أن أقول لك أنني كنت مرموقا بين زملائي , لهذا لم يكن غريبا علي أن
ألاحظ أن هناك فتاة أخرى بالكلية ترمقني دائما بنظراتها الطويلة وتنتظر فرصة
للتعرف بي .. لكني لا أعيرها أي إنتباه إلى أن جاء يوم وأتتها فيه شجاعتها فجاءت
إلي بالحجة المألوفة وهي استعارة كشكول إحدى المواد لنقل بعض أجزائه فأعطيتها بغير
أن أترك لها أيه فرصة للكلام معي.
وفي
اليوم التالي أعادت إلي الكشكول وبه ما توقعته تماما وهو رسالة تبوح فيها بما
تحمله لي من حب كبير .. ولو كنت إنسان آخر غير من كنت وقتها لفرحت بأن هناك من
يحمل لي مثل هذا الحب حتى ولو كنت على غير إستعداد لمبادلته إياه .. وحاولت بعد
ذلك إشعارها بأدب وبغير جرح لأحاسيسها إني مرتبط بأخرى ..لكني كنت إنسانا مغرورا
وأعترف لك بذلك الآن فقابلت هذه المشاعر الجميلة بالسخرية والاستهزاء بها وسط شلتي
وقرأت عليهم رسالتها على مسمع من الآخرين وتبادلنا التعليقات الجارحه حولها ثم قمت
بتصويرها وأعطيت نسخا منها لأصدقاْئي يتسلون بها فلم يتورع بعضهم من أن يلصقها على
جدار أحد أقسام الكلية.
وكانت
فضيحة قابلتها الفتاة بالإمتناع عن الحضور للكلية لمدة شهر نسيتها خلاله تماما,
ولم أتذكرها إلا حين جاءت لأول مرة بعد الغياب وتلاقت عيوننا فإذا بها تنظر إلي
نظرة حزينة كلها ألم وعتاب وإذا بشياطين الشر تنفجر داخلي وبدلا من أن أتوارى خجلا
.اندفع في السخرية منها وأوجه إليها كلمات يحمر وجهي الآن بعد 10 سنوات حين
أتذكرها فجرت مبتعدة تتعثر في خطواتها تكاد تسقط على الأرض من فرط الخجل ثم غابت
عن الكلية أسبوعين آخرين وحين عادت كان الإمتحان على الأبواب فانشغلنا جميعا به.
ومضت
أيام الامتحان وظهرت النتيجة فكنت من الناجحين وامضيت أيام الصيف الأول متنقلا بين
القاهرة والاسكندرية وقد نسيت تماما ما جري خلال العام الدراسي.
حتى
جاءت اللحظة البشعه التي مازال جسمي يقشعر حين أتذكرها الآن ووجدت نفسي تحت حطام
سيارة على الطريق بين القاهرة والاسكندرية في حادث مروع تحدثت عنه الصحف وقتها
أياما.
وغبت
عن الوعي أياما ثم أفقت لأجد نفسي ملفوفا بالجبس الأبيض من رأسي إلى قدمي في
المستشفي فأعيش أسابيع وشهورا بلا حراك في عذاب لا يتصوره أحد , ثم يبدأ الأطباء
بفك الجبس عن نصفي الأعلى ويجددونه لنصفي الأسفل.. ثم أتخلص من جبس النصف الأسفل
لأبدأ تدريبات العلاج الطبيعي على المشي فتخونني ساقاي المرة بعد المرة. ثم يتأكد
عدم قدرتي على المشي بغير مساعدة الآخرين فيرفع الأطباء أيديهم عني يائسين
ويتركونني لمصيري وأخرج من المستشفى محمولا كما دخلت إليه محمولا .. وامضي فترة
نقاهة طويلة في البيت يزورني خلالها أصدقاء شلتي بإنتظام كل يوم ثم عدة أيام ثم
تتباعد زياراتهم شيئا فشيئا حتى ينقطعوا عني فلا يبقى لي منهم سوى صديق واحد كان
أقربهم دائما إلى قلبي.
وبدأ
العام الدراسي الجديد ومضت الأسابيع الأولي منه وأنا قابع في بيتي حزينا يائسا .. ثم
استجمعت إرادتي بعد أكثر من شهرين وقررت الذهاب للكلية .. واشتريت سيارة صغيرة
مجهزة للمعوقين ووضعت داخلها كرسيا متحركا.
وبدأت
أذهب إلى الجامعة فيساعدني البواب في النزول إلى السيارة ثم أقودها إلى الكلية
فأجد صديقي الوحيد في انتظاري فيحمل الكرسي من مكانه بالسيارة إلى الأرض ثم
يساعدني في الإنتقال إليه وأدخل إلى الكلية وأتحرك داخلها.
وانتظمت
حياتي في الكلية بهذا الشكل واستطعت بقوة الإرادة أن أتجاوز نظرات الاشفاق .. ولوم
الأصدقاء الذين انفضوا من حولي فصرت ألقاهم بلا عتاب وأظهر أستهانتي أمامهم بكل شئ
وأحاول أن أبدو كما كنت دائما قويا مرموقا.
لكن
الشئ الذي لم أستطع أن أتعامل معه بهذه الاستهانه هو موقف فتاتي التي كنت مرتبطا
بها عاطفيا فلقد تباعدت اتصالاتها بي هي الأخرى ثم بدأت تتهرب مني في التليفون وفي
الكلية حتى واجهتها فبدأت تتحدث عن تغير الظروف والأمور التي استجدت .. إلخ .. فكانت
كلماتها طعنات حادة في قلبي وفهمت الإشارة بالطبع فتوقفت عن الإتصال بها وبدأت
اتجاهلها داخل الكلية واستجمعت إرادتي مرة أخرى وقلت لنفسي أن من صمد لمثل ما
تعرضت له من أهوال ينبغي أن يصمد لمثل هذا الغدر البشري وأن يتجاوزه أيضا.
وهكذا
واصلت الذهاب للكلية كل يوم والتصرف بطريقة طبيعية مع كل الزملاء وبذلت جهدا
مضاعفا في الدراسة لأشغل نفسي عن أية آلام نفسية.
وواظب
صديقي علي انتظاري كل يوم أمام باب الكلية حتي جاء يوم ذهبت فيه إليها بغير أن
أؤكد له ذهابي بالتليفون قبل مغادرة البيت كما أفعل دائما .. فلم أجده على باب
الكلية وخجلت من أن أطلب المساعدة من أحد .. وظللت جالسا داخل السيارة نصف ساعة
وأنا في غاية الضيق تطوف برأسي ذكرى الأيام التي كنت ألهو وأتحرك فيها بحرية فيشتد
ضيقي .
ثم
فجأة سمعت صوتا رقيقا يقول لي صباح الخير.. فالتفت إلى مصدره بحدة فإذا بها
الزميلة .. لم تكن الزميلة التي أحببتها من قبل ولكن الزميلة الأخرى التي سخرت
منها وشهرت بها ووزعت صور خطابها علي أصدقائي.
نعم
كانت هي تقف أمامي وتنظر بلا لوم ولا عتاب وتقول لي أعطني مفتاح شنطه السيارة ..
ثم تأخذ المفتاح وتحمل الكرسي وتقربه مني وتساعدني في الجلوس عليه وتغلق باب
السيارة ..ثم تدفعني أمامها إلى داخل قاعة المحاضرة التي بدأت منذ قليل.
ولم
تسعفني الكلمات فلم أنطق بكلمة واحدة لكني حين جلست في قاعة المحاضرة انتابتني
نوبة بكاء ولم أستطع البقاء واستأذنت الأستاذ في الخروج فنهضت بتلقائية من مكانها
وتركت المحاضرة لتدفعني إلى مكان السيارة .. وتقف حتى أتحرك وتكون آخر كلماتها لي
آسفة لم أقصد أن أسبب لك أي إيلام.
وعدت
إلى البيت وأنا في حالة سيئة ولم أذق النوم ليلتها وكلما غفت عيناي قفزت إلى مخيلتي
صورتي وأنا أسخر منها وأوزع صور خطابها على الزملاء وصورتها وهي تدفعني أمامها
فأهب من نومي فزعا.
وأمضيت
بعد هذا اليوم عدة أيام في البيت لا أريد الذهاب إلى الكلية وكانت الساعة الثامنة
مساء حين رن جرس التليفون وجاء صوتها تسألني لماذا لا أحضر للكلية وعما إذا كنت في
حاجة إلى كشاكيل المحاضرات لترسلها إلي مع أحد من طرفها؟.. ثم بعد قليل تطلب مني
أن أنسى ما حدث زمان وألا أعذب نفسي بالشعور بالذنب تجاهها.
فانفجرت
في البكاء لأكثر من ربع ساعة واستمرت المكالمة أكثرمن ساعة ومنذ هذا اليوم أصبحت
إنسانا آخر ولم نفترق بعد ذلك أبدا .. وقدمتها لأسرتي بكل اعتزاز وقدمتني لأسرتها
أيضا .
وفي
أيام الامتحانات كانت شبه مقيمة معي في بيتي تأتي في الصباح ولا تتركني إلا عندما
أوي إلى فراشي في المساء .
وظهرت
النتيجة ونجحنا معا وتزوجنا وكانت هي قد عملت بإحدى الشركات أما أنا فلقد رأيت
بسبب ظروفي أن أفتتح مكتبا خاصا أباشر معظم أعماله من البيت.. وتذهب هي إليه بعد
عملها لتراقب العمل فيه وتحمي حقوقي في غيابي.
ولكـاتب هذه الرسالة أقول:
يا
سيدي إن بعض الناس يعتقدون خطأ أن مهمة الآخرين في الحياة هي العطاء لهم دائما
بغير أن يلتزموا بمقابلة ذلك بعطاء مماثل وأنت في علاقتك بهذه السيدة العظيمة من
هؤلاء البعض فيما يبدو .. وزوجتك من البشر القادر دائما علي العطاء بكرم شديد لمن
يحبون.
لكن
مشكلة من اعتادوا أن يعطوا ويتنازلوا ويصفحوا دائما أنهم قد يتوقفون فجأة في منتصف
الطريق حين يكتشفون أن مشاعرهم وأحاسيسهم قد أصبحت كمياه الأنهار سريعة الجريان
تتدفق دائما إلى المصب ولا ترتد إليهم أبدا بوفاء مماثل.
لهذا
فنحن في حاجه دائما إلى أن "نروي" ينابيع الآخرين بمشاعرنا لكيلا تجف
وتتوقف عن العطاء لنا.. وكل رجائي هو ألا تكون زوجتك قد وصلت معك إلى نقطة التوقف
لمراجعة النفس وحساب ماذا أعطت وماذا أخذت مقابلا لكل هذا العطاء .
فلقد
أعطتك الكثير والكثير منذ ربطت الأقدار بينها وبينك داخل جدران الكلية, وتحملت منك
ما لا طاقه لأحد به بل ونسيته وغفرته لك, وامتحنت الحياة صدق مشاعرها تجاهك بما
تعرضت له من أحداث فثبتت للامتحان في حين انصرفت عنك من كنت تخصها بمشاعرك ..
وانفض عنك زملاءك ما عدا من شهرت بها وادميت مشاعرها بينهم. فكشفت لك المحنه أنك
لم تكن ملكا غير متوج إلا في قلب هذه الفتاه المخلصة ..فكيف هان عليك أن تطعنها
هذه الطعنة؟
لقد
تصرفت معك زوجتك حين اكتشفت أمرك بنفس الطريقة التي قابلت بها إيلامك الشديد لها
في الماضي وهي الانسحاب بعيدا عنك في هدوء إلى أن تطيب جراحها ويبدو أنك كنت تعتقد
أنها سوف تعود بعد فترة قصيرة وفي عينيها نظرة كلها ألم وعتاب كما كانت تعود إلى
الكلية بعد حين .. وغاب عنك أن الأمر يختلف هذه المرة فهي في الماضي لم تكن لها
حقوق عليك إلا حقوق الزمالة.. أما الآن فإن لها عليك حقوق الزوجة التي قدمت لك الكثير
طوال السنوات الماضية في حين لم تقدم لك الأخرى التي طعنتها بها سوى الجحود
والنكران .. والهروب من السفينة التي تصورتها غارقة.. فلما ثبت العكس .. لم تجد
بأسا في أن تستجيب لدعوتك وتنصب شباكها من حولك من جديد.
وكارثة
البعض منا أنه قد يهفو أحيانا إلى من أدموا قلبه ولم يحفظوا عهده.. ويتغافل عمن
داووا جراحه وتوجوه ملكا على عرش قلوبهم وكارثه الكثيرين منا أنهم لا يعرفون قيمة
ما يملكون إلا حين ينذرهم النذير بضياعه, تماما كما نتوجع الآن جميعا على أيامنا
السعيدة الماضية وقد كنا فيها نشكو الضجر!
لكن
هذا حديث آخر .. فلا تطع هوى نفسك يا صديقي مرة أخرى وكافح لاسترداد زوجتك فإنك إن
خسرتها فقد خسرت الخير كله وخسرت الأمان والسلام والسعادة.. ولا تكف بإيفاد
الوسطاء وإرسال "البعوث" إليها بل اذهب إليها حيث هي وأشعرها بصدق ندمك "مرة
أخرى" .. وصدق حبك لها وصدق حاجتك إليها .. واقنعها بالدليل بأنك قد عبرت
مرحلة تلقي العطاء من جانبها إلى مرحلة مبادلتها إياه بكل تبعاته.
وسوف تستجيب لك في النهاية لأنها تحبك أيها المخدوع حبا عظيما يذكرني بحب سدني كارتن للآنسه مانت في رائعة تشارلز ديكنز "قصه مدينتين" الذي قال لها :"تذكري دائما أن هناك على ظهر الأرض إنسانا على استعداد لأن يضحي بحياته من أجلك ومن أجل من تحبين" ..ثم وفي بعهده فعلا وقدم نفسه للمقصلة بديلا لمن أحبته وتزوجته.. لكن لا تنتظر منها تضحية جديدة من هذا النوع الدرامي .. فلقد ضحت من أجلك بالكثير وحان دورك الآن لأن تقدم لها أنت الوفاء والتضحيات.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987
شارك في
إعداد النص / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر