الذكريات المريـرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2004
خير ما ننتقم به ممن أساءوا إلينا وظلمونا ونفروا منا ونحن في ضعفنا وشدة حاجتنا إلى العون والمساعدة ، هو أن نصنع حياتنا بغير الاعتماد عليهم ، ونحقق أهدافنا ونجاحنا معتمدين على أنفسنا ، حتى ليشعروا بالندم على أنهم لم يشاركوا ولو بالكلمة الطيبة فيما حققناه من نجاح .. ولم يكن لهم أي فضل فيما أصبنا من توفيق ، ولم يعد يحق لهم أن يعتزوا بدورهم في مساندتنا .. وأن يشاركوا بعض ثمراته .
عبد الوهاب مطاوع
قرأت رسالة ماكينة الخياطة
للطبيب الذي يروي قصة كفاحه في الحياة حتى استطاع أن يكمل تعليمه ويصنع نجاحه
بمساعدة رجل فاضل, كان
يرسل إليه علي غير سابق معرفة مبلغا شهريا خلال دراسته للطب.. إلى أن استطاع أن يعتمد علي نفسه
ويكسب رزقه من تفصيل البنطلونات للطلبة على ماكينة خياطة في غرفته بالمدينة
الجامعية .. وكيف
يبحث الآن عن هذا الرجل الكريم ليرد له أو إلي أي فرد من أسرته دينه عليه .. ولقد
حسمت هذه الرسالة ترددي في أن أكتب لك بالرغم من مراودة الفكرة لي منذ فترة طويلة .. ففي قصتي مع الحياة أنا أيضا ما
قد يفيد بعض القراء..
وأبدأ من البداية
فأقول لك إنني نشأت ابنا وحيدا لأب يعمل موظفا حكوميا .. وأم لا تعي الذاكرة منها إلا
أطيافا غائمة .. لأنها
رحلت عن الحياة وأنا في السادسة من عمري , وعشت
وحيدا مع أبي الطيب .. يرعاني
ويهتم بأمري ويصاحبني في أوقات المذاكرة , ويصطحبني
معه في زياراته لشقيقه .. وشقيقته أو أصدقائه .. ولا يطمئن إلا إذا كنت أمام
ناظريه .. فحتى حين يذهب إلى المقهى ليلعب
الطاولة مع بعض أصدقائه كان يجلسني إلي جواره.
وهكذا عشنا معا
صديقين متلازمين حتى بلغت سن الثالثة عشرة , وعدت من المدرسة ذات يوم فوجدت
مسكننا يعج بالرجال والسيدات .. ومن
بينهن عمتي التي استقبلتني بالبكاء .. واحتضنتني
وأبلغتني أن أبي قد توفاه الله فجأة وهو جالس إلى مكتبه في عمله .. وأنني الآن قد صرت رجلا وطالبتني
بألا أبكي .. وأن أقف بين الرجال لتلقي العزاء
في أبي .. وبالفعل فإنني لم أبك حين عرفت
بما حدث , وإنما
أصابني الذهول .. وراح
جسمي ينتفض لا إراديا طوال اليوم واستضافتني عمتي في بيتها لفترة نعمت خلالها
بعطفها علي وحنانها .. ثم
قيل لي إنني يجب أن أنتقل للإقامة في بيت عمي , لأن
زوج عمتي يتضرر من وجودي بين بنتيه اللتين تكبرانني ببضع سنوات , وانتقلت إلى بيت عمي الذي تولى
الوصاية علي .. وكان
أبي قد ترك لي معاشا ضئيلا لا يتجاوز11 جنيها ونصيبا على المشاع في فدان
من الأرض كان قد ورثه مع عمتي وعمي , وفي
بيت عمي هذا أدركت معنى اليتم الحقيقي وافتقاد النصير , فلقد
واجهني من اليوم الأول بأنه لا مكان لي للمبيت سوى الأرض في غرفة ابنيه , لأن الفراش لا يتسع لغيرهما .. والغرفة
الأخرى مخصصة لبنتيه , فلم
أعترض لكن ليالي الشتاء القاسية كانت تشق علي فطلبت منه أن يشتري لي مرتبة صغيرة
أنام عليها , فرفض
بحجة أن الحالة لا تسمح بذلك , وشيئا فشيئا وجدتني أتحول
تدريجيا إلى خادم للأسرة وليس عضوا فيها من دمها ولحمها .. فزوجة عمي تنتظر عودتي من
المدرسة لتكلفني بأعمال البيت وشراء الخضار وكي ملابس ابني عمي وابنتيه .. وغسل الأطباق, ناهيك عن يوم التنظيف الأسبوعي
الذي يتعين علي فيه أن أمسح تحت إشرافها الشقة كلها , وأبناؤها يتسلون بمشاهدة
التليفزيون .. فإذا
خلوت من كل الواجبات وبدأت أذاكر دروسي في الصالة لم أسلم من لومها لي لإسرافي في
استخدام الكهرباء , وشكواها
من فاتورتها .. فاختلس
ساعة للمذاكرة علي الأكثر وأسرع بإطفاء النور .. وقد
تقطع علي مذاكرتي بتكليفي بالخروج لشراء شيء للبيت أو للأولاد.
أما عمي فقد رفض أن
يعطيني مصروفا يوميا أو أسبوعيا , بحجة أنني أتناول الطعام والشراب
في البيت .. في حين كان أبناؤه جميعا يحصلون
علي مصروفهم وينفقونه على شراء الحلوى والأشياء الصغيرة .. وحتى الحلاقة كان يرفض أن يعطيني
أجرتها .. ولما
طال شعري كثيرا وأصبح منظري منفرا أحضر شفرة حلاقة وطلب مني أن أحلق لنفسي مستعينا
بوضع الشفرة على حد المشط وتمريره فوق شعري .. ولم أجد مفرا من أن أفعل ذلك .. أما الكتب والكراريس فلقد قال لي
صراحة إن معاشي ونصيبي من الأرض لا يكفيان لطعامي وشرابي , وعلي
أن أتصرف في بقية احتياجاتي , فكنت أجمع الكشاكيل القديمة
لابني عمي وأنزع منها الصفحات البيضاء وأصنع منها كراسات .. وأستعير
الكتب من زملائي .. وأعرض
خدماتي يوم الجمعة كل أسبوع علي محال المكوجية والبقالة والفاكهة لأعمل لديها
مقابل 5 قروش .. بل لقد عملت في محل لتصليح
الأحذية أربع جمع مقابل إصلاح حذائي المخروق بالمجان .. ناهيك
عن أنني أمضيت السنوات الثلاث الأولي من إقامتي عند عمي دون شراء أية قطعة ملابس
حتى صغرت علي ملابسي بشكل فاضح , لأن
الشاب ينمو جسمه بسرعة خلال هذه المرحلة, ورجوت عمي مرارا أن يشتري لي
بنطلونا وقميصا مناسبين لطولي وحجمي دون جدوى , وزاد
الطين بلة أن جسمي ابنيه بالرغم من أن أحدهما يماثلني في السن والآخر يصغرني بسنة , ضئيلان بحيث لا أستطيع الاستفادة
من ملابسهما القديمة , وحين
أصبح منظري مثيرا للرثاء توجهت إلى عمتي وشكوت لها حالي , فبكت
وقدمت لي جنيهين هما كل ما تستطيع مساعدتي به, فأخذتهما وتوجهت إلى سوق الكانتو
واشتريت بهما بنطلونا وقميصا من مخلفات المعسكرات , ومضت بي الحياة على هذا النحو .. وزاد من معاناتي أنني لم أتعثر
دراسيا في حين كان ابنا عمي ينجحان سنة ويرسبان أخرى، وبدلا من أن يعترف لي عمي
وزوجته باجتهادي برغم ظروفي القاسية ازدادا نفورا مني حتى لم يعد أحدهما يطيق
النظر في وجهي.
وجاءت اللحظة
الفاصلة حين عدت ذات يوم من مدرستي فوجدت عمي وزوجته وأبناءه على هيئة مجلس
للعائلة يتناقشون بصخب وعمي ثائر لكثرة المصروفات وزوجته تدافع عن نفسها , بأنها تفعل المستحيل لتدبير
معيشة الأسرة بأقل التكاليف , لكن
ابن أخيك يسرق الطعام من المطبخ في الليل .. ويأكل كثيرا .. ولو
لم يكن يفعل ذلك لما نما جسمه على هذا النحو الهائل!
يا ربي.. أسرق الطعام ؟ إنني أحافظ على
صلاتي منذ كنت في السابعة من عمري وأصوم رمضان وصيام التطوع وكثيرا ما صمت يومي
الاثنين والخميس , وكثيرا
ما اكتفيت بوجبة واحدة وتغاضيت عن تفضيل زوجة عمي لأبنائها بأطايب الطعام وإلقائها
لي ببقاياه, وكثيرا
ما تحلب ريقي وهي تجمع أبناءها في غرفة الأولاد في المساء ليتناولوا عشاء خاصا , وأنا جائع في الصالة ولا يفكر
أحد في دعوتي للانضمام إليهم .. وبعد
ذلك أتهم بسرقة الطعام , كان هذا آخر احتمالي فانهرت
باكيا , وقلت
لعمي وللجميع إنني تحملت الذل صابرا في هذا البيت مراعاة لظروفي ويتمي , لكن أن يصل الأمر إلى حد هذا
الاتهام المقزز فلا .. ولسوف
أغادر البيت وأرجع إلى شقة أبي وأواجه حياتي معتمدا على نفسي وأريد منه أن يعطيني
معاشي كل شهر لأدفع إيجار الشقة وتكاليف الحياة.
وجمعت ما تبقى لي
من هلاهيل وكتبي ومددت يدي إلي عمي وكنا في منتصف الشهر طالبا نصف المعاش , وبعد عذاب قبل بمغادرتي لمسكنه , لكنه رفض أن يعطيني معاشي كاملا
وهو11 جنيها , وقال لي إنه سيخصم منه ثلاثة
جنيهات كل شهر مقابل نفقاتي الإضافية خلال إقامتي لديه!
ولم أجد مفرا من القبول .. وأخذت مفتاح شقة أبي .. وتوجهت
إلى صاحبة البيت التي تقيم في الدور الثاني منه , وكنت أمر عليها من حين لآخر
وأشرب لديها الشاي وتعطف علي , فرويت لها ما حدث وقلت لها إنني
سأعيش وحدي في الشقة بغير مورد سوى ثمانية جنيهات سأدفع لها منها أربعة مقابل
الإيجار وأعيش بالباقي , وسأعمل
لأغطي بقية نفقاتي , فبكت
وترحمت على أمي وأبي وطلبت ألا أدفع لها الإيجار إلى حين تتحسن أحوالي وأصبح قادرا
علي ذلك.
ووحيدا تماما من
الأهل والأقارب واجهت الحياة في هذه الشقة الصغيرة .. وشعرت برغم قلة الدخل وجفاف
الحياة بالأمان والاستقرار , وحصلت علي الثانوية العامة
بمجموع كبير يؤهلني للالتحاق بكلية الهندسة .. وسعدت بذلك .. وخلت
نفسي من الشماتة لنجاح ابن عمي بمجموع ضعيف لا يؤهله إلا للالتحاق بأحد المعاهد..
وتفضل عمي, الذي كان يراوغني كل شهر في دفع
المعاش وأطارده عدة مرات حتى يدفع , بزيارتي في مسكني زيارة خطيرة
لينصحني من أجل مصلحتي بالاكتفاء بهذا القدر من التعليم والبحث عن وظيفة كتابية .. أو الالتحاق بأي معهد لمدة سنتين
والعمل, وشكرت
له حرصه علي مصلحتي وأكدت له أنني سأفعل ما فيه صالحي بإذن الله.
وفي اليوم التالي
قدمت أوراقي لمكتب التنسيق وحددت رغبتي الأولى وهي كلية الهندسة. وقبلت بها .. ولن أروي لك عما تكبدته من عناء
وحرمان وكفاح خلال دراستي للهندسة مستعينا بالعمل في المساء في مكتب هندسي .. وفي هذا المكتب نشأت صداقة حميمة
بيني وبين زميلين بنفس الكلية والمكتب أصبحنا بفضلها أخوة مخلصين وتعاهدنا على أن
يساعد أحدنا الآخر إذا حقق نجاحا يسمح له بذلك.
وحصلت على
بكالوريوس الهندسة بتقدير جيد جدا , وعينت معيدا بنفس الكلية وبدأت
التحضير للماجستير في حين رفض صديقاي العمل في مصر .. وسافرا
لاستكمال دراستهما العليا والعمل في أمريكا.
وفي غمرة سعادتي
بتوفيق الله سبحانه وتعالى لي وشكري له على أن أعانني على تحمل ظروفي حتى وصلت إلى
بر الأمان, زارني
عمي لا ليهنئني بالنجاح والتعيين , وانما ليطلب مني أن أرد له
الجميل بخطبة ابنته الكبرى التي صادفها حظ عاثر في زواجها وطلقت من زوجها ولديها
طفلة في الثالثة من عمرها .. مؤكدا لي أن هذا هو واجبي نحوه
وابتسمت رغما عني وقلت له إنني اعتبر ابنته أختا لي ولا أستطيع التفكير فيها أبدا
كأنثى .. لهذا
فاني أشكره علي حسن ظنه بي واعتذر عن هذا الشرف الذي لا أستحقه .. وعبثا حاول إقناعي فوجدني صامدا
لا أتغير فغادرني ناقما على جحودي!
وحصلت على
الماجستير وبدأ صديقاي المقيمان في أمريكا يكتبان إلي طالبين مني اللحاق بهما .. وأرشداني
إلى جامعة قريبة من مقرهما لأكتب لها طالبا منحة دراسية لدراسة الدكتوراه فيها .. فكتبت
إليها وفوجئت بقبولها لي فأعددت أوراقي للسفر وسافرت واجتمع شملنا من جديدا وأقمت
معهما في شقتهما .. والتحقت
بالجامعة , وتوالت
الأحداث سريعة بعد ذلك, فحصلت علي الدكتوراه , وألح علي صديقاي بالبقاء في
أمريكا والعمل في احدى جامعاتها وقلبت الفكرة في رأسي فتساءلت: لمن أعود في مصر وليس لي فيها أب
ولا أم ولا أخ .. ولا
عم ولا خال, ولماذا
لا أستمر هنا بضع سنوات حتى إذا ثقلت علي الغربة رجعت إلى بلدي في أي مرحلة من
العمر؟
وهكذا راسلت بعض الجامعات فتلقيت
عرضا بتعييني أستاذا بجامعة أخرى بنفس المدينة , واستمرت
بذلك صحبتنا نحن الثلاثة, وبعد أن استقرت أحوالنا بحثنا عن
أقرب مسجد لمدينتنا لكي نؤدي فيه صلوات الجمعة بعد أن كنا نؤديها في بيت أحد
المصريين المهاجرين , واهتدينا
إلى مسجد على بعد40 كيلو
مترا من مدينتنا , فأصبح
قبلتنا وواحتنا , نتوجه
إليه يوم الجمعة وفي الأعياد والمناسبات .. ونطهو
الطعام في رمضان في مسكننا ونحمله إليه لنتناول إفطارنا مع رواده , وجمعتنا صداقة متينة بإمام
المسجد وهو مصري مهاجر منذ30 عاما ومثقف ويجيد الانجليزية , وفي احدى جلسات الصفاء معه رويت
له ذكرياتي المريرة في بيت عمي ويتمي وقلة حيلتي وهواني على الناس .. فربت على كتفي وقال لي إنه لا
بأس بأن أتذكر ذلك من حين لآخر لكي أدرك نعمة الله التي أسبغها علي الآن وأقدرها
حق قدرها , ولكن
بشرط ألا تفسد علي هذه الذكريات صفاء نفسي أو تدفعني لكراهية رموز هذه الذكريات
ومحاولة الانتقام منهم.
والحق إن هذه
الكلمات قد أثرت في كثيرا .. وغالبت نفسي لكيلا تحمل الحقد أو
الكراهية لأحد مهما فعل بي في الماضي , بل إنني سامحت عمي وزوجته
وأبناءه فيما فعلوه معي , ولقد تزوجت بواسطة هذا الشيخ
الفاضل من فتاة مصرية طيبة متدينة أرشدني إليها الشيخ , ورجعت
إلى مصر بعد أن وفقت أوضاعي في أمريكا .. ومع كليتي السابقة في مصر ودفعت
راضيا الغرامة التي يدفعها من لا يعود للكلية بعد الحصول على الدكتوراه , وزرت أهل هذه الفتاة في بلدة
صغيرة بجوار طنطا .. وقدمت
نفسي لوالدها بأنني من طرف الشيخ فلان في أمريكا .. فرحب بي وكان على علم بمقدمي
ودخلت الفتاة تحمل صينية الشاي فوقع القبول في قلبي من أول وهلة.
والآن فلقد مضت سبع
سنوات على زواجي أنجبت خلالها ولدين .. وأحيا حياة سعيدة مع زوجتي
الطيبة القنوع .. وطفلاي
يملآن حياتي بهجة وسرورا ونعيش في بيت صغير جميل له حديقة اشتريته بالتقسيط , وأركب سيارة فارهة وأخواي اللذان
عوضني بهما ربي عن وحدتي قد تزوجا وأنجبا وأصبحنا عصبة عائلية واحدة نلتقي عائليا
بانتظام , ولقد رجعت إلى مصر خلال هذه
الفترة عدة مرات وأقيم كل مرة في شقة أبي القديمة التي جددتها وأعدت تأثيثها .. وأحرص
على زيارة صاحبة البيت الطيبة وتقديم الهدايا لها .. ولقد رفعت بمبادرة مني إيجار
الشقة من 4 جنيهات إلى40 جنيها وأدفع لها الإيجار لمدة
سنة مقدما.
وأزور عمي وزوجته
وأبناءه حاملا لهم جميعا الملابس والهدايا وأرقب فرحتهم بها وأراهم جميعا يتهللون
لرؤيتي , وأرى
أبناء عمي الذين لم يسمحوا لي بالاقتراب منهم أو صداقتهم يتوددون إلي , فتطوف بي الذكريات المريرة لكني
أسارع بنفضها من رأسي لكيلا تفسد علي استمتاعي باللحظة.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
خير ما ننتقم به ممن أساءوا
إلينا وظلمونا ونفروا منا ونحن في ضعفنا وشدة حاجتنا إلى العون والمساعدة ، هو أن
نصنع حياتنا بغير الاعتماد عليهم ، ونحقق أهدافنا ونجاحنا معتمدين على أنفسنا ،
حتى ليشعروا بالندم على أنهم لم يشاركوا ولو بالكلمة الطيبة فيما حققناه من نجاح ..
ولم يكن لهم أي فضل فيما أصبنا من توفيق ، ولم يعد يحق لهم أن يعتزوا بدورهم في
مساندتنا .. وأن يشاركوا بعض ثمراته .
والحق أن من أهم العوامل
المساعدة على النجاح وتحقيق الأهداف ، إلى جاني الإيمان بالله سبحانه وتعالى ،
والصبر والجلد والكفاح الشريف ، ألا يبدد الإنسان بعض طاقته النفسية في بغض من
أساءوا إليه والانشغال بالتفكير في رد الإساءة إليهم ، أو اجترار المرارات التي
تجرعها منهم ..
فكل ذلك يخصم من تركيز الإنسان
على أهدافه في الحياة .. ويضعف من قدراته على النجاح ويسمم روحه وأفكاره حتى إذا
حقق لنفسه كل أو معظم ما أراده لها لم يجد نفسه سعيدًا بما حقق ، لأن مرارته
القديمة قد انعكست على الأشياء من حوله وأفسدت عليه قدرته على الابتهاج بالحياة ،
لهذا قال أحد الحكماء " إن الحقد هو ثروة الحاقدين ، التي لا يجنون
سواها ، في حين يجني المترفعون عنه والمتسامحون مع البشر والحياة بصفة عامة ثمار
التوفيق في الدنيا ورحيق صفاء النفوس " ، وكان العادل العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو ربه بقوله "رب قدرني على من ظلمني لأجعل عفوي عنه شكرًا لقدرتي عليه" .. وأي شكر لما أنعم الله سبحانه وتعالى عليك أعظم من أن تبر عمك الذي
ظلمك وقتر عليك ولم يترفق بك وأنت في ضعفك ويتمك وقلة حيلتك ؟
وأي شكر له سبحانه وتعالى أجلّ
من أن تكون يدك وأنت من كنت المنبوذ منهم هي العليا فوق أيديهم جميعًا .. حتى
ليتهللوا لرؤيتك ويخطبوا ودك ، وقد كانوا من قبل لا يسمحون لك بالاقتراب منهم ؟
لقد صنعت حياتك بيدك ومعتمدًا
على نفسك بلا أي معين أو نصير سوى الله سبحانه وتعالى الذي لا يضيع أجر الصابرين ،
فكنت كمن وصفه الشاعر القديم الطغرائي بقوله :
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل !
وشققت طريقك وسط الصخور فذكرتنا
بما قاله نابليون بونابرت ذات يوم " تستطيع بالإبرة أن تحفر بئرًا " بشرط الجلد والمثابرة وطول النفس .
لقد كنت تستطيع أن تجفو عمك
وزوجته وأبناءه إلى الأبد وتقطع ما بينك وبينهم ، ولربما أيدك في ذلك بعض من
يعرفون تاريخهم معك أو لم يستنكروه ، لكن أصحاب النفوس الكبيرة لا يفعلون ذلك ،
ولا يقطعون رحم من قطع رحمهم أو أساء إليهم .. ويتذكرون دائمًا الحديث الشريف الذي
يقول : " ليس الواصل بالمكافئ " بمعنى أنه ليس من يصل رحم من
قطعه رحمه أو باعده ، كمن لا يصل إلا رحم من يصله فيكافئه على الوصل بالوصل ،
ويطلبون لأنفسهم دائمًا أجر الواصل لأنه أكبر وأعظم كما أن كل إناء ينضح بما فيه
في النهاية .. ومن كان إناؤه ممتلئًا بالشهد الصافي لا ينضح إلا بالعفو والخير
والعطاء ، ومن كان إناؤه ممتلئًا بالحقد والبغض والكراهية لا ينضح إلا بالسم
الزعاف .
فهنيئًا لك يا صديقي ما أصبت من توفيق في الحياة بكفاحك الشريف وصبرك على المكاره .. وثقتك في قدراتك ، وصفاء نفسك وخلوها من الأحقاد والمرارات .. وشكرًا لك على هذه الرسالة المفيدة
رابط رسالة النظرة الباردة تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2004
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر