النظرة الباردة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

 

النظرة الباردة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004


النظرة الباردة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004


                   إن من عانى أعظم الألم يتعلم أيضا أن يسعد أعظم السعادة.
                                           عبد الوهاب مطاوع


شككت في نفسي وأنا أقرأ رسالة "الذكريات المريرة" حتى خيل إلي أنني ربما أكون قد أرسلتها إليك بغير أن أدري .. فظروف كاتب الرسالة ذكرتني بظروفي .. وبعض ما كتبه عن معاناته في سنوات البداية يصف حالي في نفس الفترة .. ويعبر عن نفس مشاعري وقتها, وأبدأ من البداية فأقول لك: إنني إنسان شاءت له أقداره أن يكون آخر أبناء أب رحل عن الحياة وعمري عامان .. فنشأت في رعاية أمي الزوجة الثانية لأبي وتفتحت مداركي تدريجيا, فعرفت من أمي أن أخوتي من أبي قد وضعوا أيديهم على تجارة أبي الكبيرة وقاموا بتصفيتها وتقسيمها على الورثة, وأنهم خيروها حينذاك بين بيع البيت القديم الذي نقيم في شقة بالدور الأرضي منه, وتوزيع ثمنه على الورثة وهي من بينهم, وبين أن يتنازلوا لها عن حصصهم فيه وتعتبره ميراثها عن أبيهم مقابل التنازل عن نصيبها في التجارة وبقية الأملاك., فقبلت بهذا الحل وكتبت لهم تنازلا عن كل شيء ما عدا البيت.. وكتبوا هم لها تنازلا عن أنصبتهم في البيت, فما أن حدث ذلك حتى انقطعت صلتهم بها, واعتمدت هي في حياتها على بعض المدخرات القليلة وإيجار الشقق الخمس التي يتكون منها البيت ولم يكن يزيد في مجموعه على60 جنيها, وواجهت أمي الحياة وحيدة.. وحاولت بقدر المستطاع أن توفر لي حياة مقبولة .. لكن السنوات سرعان ما توالت ونفدت المدخرات, وتغيرت الحياة, وأصبحنا نعيش على الكفاف, وزاد الطين بلة أننا كنا نبدو أمام الناس مستورين ونحن في الحقيقة نعيش تحت خط الفقر .

 

 وحاولت أمي أن تزيد من دخلها فعملت لفترة في مصنع للحلوى , ولم تستمر طويلا بسبب طمع صاحبه فيها, وعملت لفترة أخرى في محل تجاري, وتركته بعد حين لنفس السبب, ويئست في النهاية من العمل فقرت في بيتها وحاولت التكسب عن طريق تفصيل ملابس للأطفال وبيعها للمحال فلم تحقق محاولاتها نجاحا .. وتراكمت علينا عوائد البيت حتى عجزنا عن دفعها وأصبحنا مهددين بالحجز على أثاثنا.. وفي غمرة ضيقها ويأسها اصطحبتني وأنا في العاشرة من عمري إلى بيت بعيد قالت لي إنه بيت أخي الأكبر, ودخلنا شقة واسعة فاخرة .. وجلسنا في الصالون ننتظر صاحب البيت حتى جاء, فما أن رآنا حتى أكفهر وجهه وتجهم في وجوهنا وقابلنا أسوأ مقابلة, وسأل أمي عما جاء بها فانحشر صوتها ولم تستطع أن تفاتحه فيما جاءت إليه من أجله, وزعمت له أنها جاءت فقط لكي يتعارف ابنها على أخيه العظيم الذي لا يعرفه, ثم نهضت مغادرة فلم

يطلب منها البقاء, ونظر إلي نظرة باردة كأنما يستطلع هذا الشيء الذي تزعم أمي أنه أخوه , وبمجرد أن غادرنا باب الشقة انفجرت أمي في البكاء .. وظلت تبكي طوال الطريق وأنا مكتئب وخجلان ولا أعرف كيف أخفف عنها.

 

ولم تفكر أمي بعد هذا اللقاء البارد في أن تعيد الكرة مع بقية أخوتي رجالا أو نساء, ولم ينقذها من مشكلة العوائد سوى ساكن بالدور الثاني يعمل قانونيا بإدارة الشئون القانونية بإحدى الهيئات, حيث تطوع بسداد العوائد المتأخرة عن أمي, واتفق مع السكان على أن يدفع كل منهم مع الإيجار الشهري ثلاثة جنيهات تخصص لسداد الدين له لمدة سبعة أشهر.. وانزاح هذا الكابوس وشكرت أمي هذا الساكن الكريم طويلا, وواصلت أنا دراستي وحصلت على الشهادة الإعدادية بصعوبة والتحقت بالمدرسة الثانوية التجارية, وفي عامي الأول بها تدهورت صحة أمي حتى كادت تعجز عن النهوض من الفراش وتلطمنا في المستشفيات الحكومية دون أي تقدم في حالتها, ولاح المستقبل مظلما ومخيفا أمامي, ونهضت من نومي ذات صباح دون أن توقظني أمي للذهاب إلى المدرسة كعادتها .. فتعجبت لتركها لي نائما حتى كاد موعد المدرسة يفوتني, وتوقعت أن يكون المرض قد اشتد عليها فدخلت عليها غرفة نومها فوجدتها نائمة في فراشها بلا حراك, وهززتها برفق لتستيقظ فلم تستجب وناديت عليها فلم تسمع فوضعت يدي على جبهتها لأختبر حرارتها فإذا بها باردة كالثلج .. فأدركت هول الكارثة التي حلت بي, وصرخت صرخة زلزلت البيت القديم .. وبكيت وانتحبت .. ودرت كالمجنون في الغرفة أبحث دون جدوى عن شيء يعيد إليها الحياة, وأفقت على دقات الجرس العالية ودخل الجيران واصطحبوني إلى خارج الشقة, وقاموا أكرمهم الله بكل ما كنت سأعجز عن القيام به, وسألني أحدهم عن أقاربي فقلت لهم إنني لا أعرف لي أقارب سوى أخوتي من أبي .. وأعطيتهم عنوان أخي الأكبر, فجاء متأخرا بعد تشييع الجنازة, وجاء معه أخوان آخران لي وأختان كنت أراهم لأول مرة وواسوني وقضوا بعض الوقت معي, ثم انصرفوا في المساء .. وبرغم حزني الشديد على أمي فلقد خفق قلبي لرؤية أخوتي بعد هذه السنين .. وتمنيت لو فتحوا لي أبواب قلوبهم لتنشأ بيننا علاقة الأخوة .. بعد أن فقدت كل من كانوا لي في الحياة، لكن الأيام مضت ولم تبد أي بادرة لتحقيق هذه الأمنية .

 

 ولم يكرروا الزيارة أو السؤال عني ولا كيف أعيش وأنا فتي في السادسة عشرة لا أب لي ولا أم ولا مورد سوى إيجار البيت, وواجهت مصيري وحدي معتمدا على الله وعلى نفسي.. واعتزمت أن أنهي دراستي بلا تعثر لكي أبدأ حياتي العملية.. وكانت أمي قد عودتني منذ سن السابعة على الصلاة بانتظام, فحرصت على أداء الفروض الخمسة في المسجد الصغير الذي يقع في أول شارعنا.. وراح سكان البيت يتعاملون معي بعطف ويؤدون لي الإيجار بانتظام, وقد تكفل القانوني الفاضل الذي يقيم بالبيت بإنهاء إجراءات الوراثة, وتعيين أخي الأكبر وصيا علي حتى أبلغ سن الرشد, واستصدار إيصالات الإيجار.. الخ.

 

ومضت بي الأيام وأنا أواجه الحياة بإيجار البيت المحدود وتتطوع بعض سيدات البيت بغسل ملابسي من حين لآخر لوجه الله الكريم, وطعامي من الخبز والفول أو الطعمية أو الجبن إذا توافر, وقد تنفد نقودي تماما قبل آخر الشهر فأذهب إلى المدرسة وأرجع منها ماشيا, وآكل الخبز الحاف بالملح مع شرب كمية كبيرة من الماء.. خاصة في المساء .. وقد يفاجئني أحد الجيران الأفاضل بدعوتي للعشاء معه خبزا وفولا وطعمية, ثم نتناول الشاي بعده فأشعر بأنني قد ملكت الدنيا بما فيها.. وأرجع للبيت للاستذكار.

وفي كل صلواتي أدعو لأمي بالرحمة ولأبي الذي لا تعيه ذاكرتي, وأجدني أتذكر أخوتي البعيدين عني بشيء غريب من الحنين, وأتعجب لذلك وأسأل نفسي, لماذا أشعر تجاههم بهذا الحنين وهم لا يشعرون بوجودي في الحياة؟ ولا أعدو أن أكون بالنسبة لهم سوى ابن زوجة الأب الثانية المنبوذ منهم.

 

وذات يوم استسلمت لمشاعري وكنا أول أيام عيد الفطر ووجدت نفسي في بيتي وحيدا لا يقطع علي وحدتي أحد, فقررت أن أقدم على الخطوة التي فكرت فيها طويلا.. وخرجت من البيت مرتديا أفضل ملابسي وهي قديمة كلها.. وتوجهت إلى بيت أخي الأكبر ودققت الجرس ففتح لي الباب صبي وسيم سلمت عليه وسألته عن أبيه.. فغاب قليلا ورجع معه.. وقبل أن يكفهر وجهه أو ينظر إلي نفس النظرة الباردة التي استقبلني بها في زيارتي السابقة له مع أمي, سارعت بالقول له إنني جئت لتهنئته بالعيد وكل سنة وأنت طيب والسلام عليكم, واستدرت منصرفا وهو ذاهل.. وحين قال: تعال, كنت أسفل الدرج فلم أجب وغادرت البيت!

 

وفعلت نفس الشيء مع بقية الإخوة.. تهنئة بالعيد وتمنيات طيبة لهم علي الباب ثم الهرولة بعيدا عنهم.. ومنذ ذلك الحين أصبحت أحرص على القيام بهذه الجولة كل عيد.. واختلفت مع مرور الأيام ردود أفعالهم خاصة حين وثقوا من أنني لا أريد منهم شيئا, فأصبحوا يطلبون مني الدخول وشرب الشاي وتناول الكعك في العيد الصغير, والحلوى في العيد الكبير, واسترحت لنشأة هذه الصلة المحدودة بيني وبين أخوتي وأبنائهم وأرضاني أن أشعر بأن لي أخوة وأخوات وأبناء أخوة أنا عمهم, وأبناء أخوات أنا خالهم, ومن أجل هذه الصلة فرضت على نفسي الحرمان من بعض القوت الضروري لعدة شهور لأشتري قميصا وبنطلونا وحذاء لائقا بالتقسيط من تاجر طيب بالحي يعرف ظروفي, لكي أرتدي هذا الطقم حين أتوجه لأخوتي..

 

وأنهيت دراستي بالمدرسة التجارية وحصلت على الدبلوم وخرجت أبحث عن عمل, فتنقلت بين بضعة أعمال مؤقتة, وقبلت بأقل المرتبات وأقسى ظروف العمل, وعملت في بعض الأحيان موظفا بشركة خاصة في الصباح, وعاملا في محل ومطحن صغير للبن في المساء, وتحسن مظهري بعض الشيء, وبدأت دماء العافية تجري في عروقي بعد تحسن تغذيتي نسبيا, وعملت في أحيان أخرى في مقهى من السادسة مساء للسادسة صباحا حين فقدت وظيفتي بالشركة الخاصة بسبب وقف نشاطها, وكان مطحن البن قد أغلق أبوابه بسبب مشاكل مع الضرائب, ولكبر سن صاحبه وعدم وجود أبناء ذكور له فخطرت لي الفكرة الجريئة.. وهي أن أشتري مطحنة البن القديمة التي كان صاحب المحل لا يشغلها لسوء حالتها, وعرضت عليه شراءها بالتقسيط, فرحب بذلك وحملتها فوق عربة يد إلى شقتي, وتحايلت على إصلاحها بمساعدة ميكانيكي من سكان الشارع.. ثم اشتريت 3 كيلو جرامات من البن الأخضر وعددا من الأكياس الصغيرة من نفس التاجر الذي كان يتعامل معه صاحب المطحن, وبدأت العمل وأجدته بعد بعض التعثر وقمت بتحميص البن وتعبئته في أكياس, وطفت على المحال التجارية التي تعاملت معها خلال اشتغالي بالمطحن, ونجحت التجربة الأولى بنسبة كبيرة فسددت قسط الماكينة, واشتريت كمية أخرى من البن, وواصلت العمل ووفقني الله في الالتحاق بعمل جديد في شركة بمرتب سبعين جنيها, فأصبحت أخرج منه إلى البيت لأمارس طحن البن وتعبئته وتوزيعه حتى منتصف الليل, وشجعني كثيرون على الاستمرار ومنهم صاحب المقهى الذي عملت به لفترة.. ويوما بعد يوم أصبحت أشتري كل شهر30 أو40 كيلو جراما من البن وأبيعه, واستطعت بعد عامين من بدء تجارتي الصغيرة أن أشتري تريسكلا قديما لتوزيع البن على المحال والمقاهي, وذهبت إلى صاحب المطحن في البيت لأسدد القسط الأخير من ثمن الماكينة فوجدت معه فتاة مريحة الملامح تقدم له الشاي.. سألته عنها فقال لي إنها حفيدته اليتيمة التي يكفلها, فوجدتني بغير تفكير أسأله إن كان يقبل مصاهرتي أم يراني أقل شأنا من أن أنال هذا الشرف؟, فرحب بي ووعدني بأن يعرض الأمر عليها.. وأن يساعدني علي إتمام الزواج إن هي قبلت بي..

 

وجاءتني البشري بقبولها فتقدمت إليها.. وشرحت لجدها كل ظروفي وصارحته بأنني موظف صغير بشركة خاصة, وأعتمد في حياتي أساسا على تجارة البن من داخل مسكني.. وشجعني الرجل على الاستمرار.. فجددت شقتي وخصصت احدى غرفها للماكينة.. وحددنا موعد الزفاف.. وقررنا أن نقيم الحفل في سرادق بالشارع أمام مسكن الجد, وعز علي أن أزف إلى عروسي وأنا وحيد من الأهل والصحاب.. فتوجهت إلى بيوت أخوتي حاملا لكل منهم هدية من البن الفاخر من إنتاجي وتحمل أسمي, وقلت لهم إنني أريد منهم أن يحضروا زواجي ليشعروني بأن لي أهلا.. فوعدوني جميعا بالحضور وتم الزفاف وسعدت كثيرا بوجود إخوتي وزوجاتهم وأزواجهم وأبنائهم معي.

وحمدت الله كثيرا على أن أعزني بأهلي بعد القطيعة, ورزقني الرزق الحلال بعد الإملاق.. وازددت حرصا علي أداء فروضي الدينية والتعامل مع الآخرين بالحسنى.

 

ومضت الحياة في طريقها وأنجبت طفلين حكيت لهما عن جدهما التاجر الكبير الذي رحل عن الحياة وأنا في الثانية من عمري, أما جدهما الآخر جد زوجتي فكان قد رحل عن الحياة راضيا مرضيا يرحمه الله.. وبعد فترة أخرى عرضت على ورثته أن أشتري محل البن وأتفاهم مع مصلحة الضرائب على تقسيط ديونها, فرحبوا كثيرا واشتريته بثمن عادل رضي عنه الورثة.. وتفاهمت عن طريق محاسب مع الضرائب على تقسيط المتأخرات واستعنت بشابين من زملاء الصبا علي العمل بالمحل.

 

وأصبحت تاجرا ناجحا للبن بالجملة والقطاعي, أورد للمحال التجارية والمقاهي.. وأبيع للأفراد, وبعد فترة من العمل اطمأننت إلى أحوالي التجارية فاستقلت من العمل بالوظيفة الصغيرة في الشركة الخاصة وتفرغت للتجارة, وحسبت حساباتي في بداية احدى السنوات فوجدتني قد بلغت النصاب الذي تستحق عنه الزكاة.. فسجدت لله شكرا وعرفانا وحمدت الله الذي أكرمني فجعلني من مخرجي الزكاة, وقد كنت من قبل من مستحقيها.. وكان يوم توزيع أول زكاة لي يوم عيد في حياتي وحياة زوجتي, وكان يوم شراء أول سيارة خاصة أمتلكها عيدا آخر, ويوم سفري مع زوجتي والطفلين لقضاء أول إجازة صيف في حياتي بالساحل الشمالي عيدا ثالثا, ويوم دعاني أخي الأكبر لحضور زفاف ابنته عيدا رابعا احتفلت به مع نفسي وحملت لابنته هدية ذهبية غالية, ويوم دعاني أخي الذي يليه لحضور شبكة ابنه عيدا آخر توجته بهدية ثمينة أيضا للعريس, والآن يا سيدي فلقد أجزل الله سبحانه وتعالى لي العطاء لصبري على ظروفي القاسية وتمسكي بأهداب ديني في أحلك الظروف وبعد النعمة, فأصبحت بعد 15 عاما من بدء تجارتي أحد مستوردي البن والشاي الكبار, وأصبح لدي أسطول من سيارات النقل الخفيف لخدمة التجارة.. ولتأجيرها للراغبين, وسيارة مرسيدس لاستعمالي, وسيارة هوندا لزوجتي الطيبة القنوع التي لا تطالبني بشيء وتستكثر على نفسها كل شيء مع أنها بنت عز ولم تعان الحرمان مثلي كما أصبح لدي موظفون وموظفات.

 

ومع مرور الأيام أصبحت من حيث لا أدري نجم الأسرة بالنسبة لأخوتي وأخواتي وأبنائهم.. فأنا أدعي إلى الغداء في بيوتهم فأذهب حاملا الهدايا القيمة.. ويقدمونني لأصهارهم باعتباري التاجر الكبير.. ويفخر بي أبناؤهم, ثم مرض أخي الأكبر واحتاج إلى إجراء جراحة خطيرة فقمت بواجبي تجاهه ووقفت إلى جواره وساندت زوجته وأبناءه وشددت من أزرهم, وكنت بجانبه بعد العملية حين نظر إلي ممتنا وقال لي بصوت ضعيف: لقد كنت أنت أفضل منا يا فلان.. فسامحنا فيما سبق من جفونا لك في الماضي.. وتضاحكت مؤكدا له أن قلبي لا يحمل له ولأخوتي إلا كل الحب, وأنني كنت أتلمس الطريق إلى قلوبهم ووفقني الله في ذلك.. أما أخي الذي يليه فلقد مال علي ذات يوم والعرق يكسو وجهه وقال لي إنه يواجه أزمة مالية طارئة تهدد أسرته.. ويحتاج إلى مبلغ معين عليه أن يسدده على 4 أقساط, فلم أدعه يكمل حديثه وطلبت منه أن يحدد المبلغ لأعطيه شيكا به.

 

 وأما كبري أخواتي فلقد رجتني أن أساعدها في تعيين ابنتها في أي شركة من الشركات التي أتعامل معها لحاجتها للعمل, فلم أهدأ حتى وفقني الله في ذلك, وكذلك فعلت أختي التي تصغرها بالنسبة لابنها, قد تسألني وأين كان إخوتك حين كنت تطعم الماء في الليالي القاسية؟ ولماذا تتهلل وجوههم الآن حين يرونك وقد كانوا يكفهرون حين يرونك مع أمك البائسة؟! وأجيب بأنني حين تخطر لي هذه الفكرة أصرف ذهني عنها على الفور إلى تأمل الجانب المشرق من الحكاية, وهو أن الله قد أعزني بعد ذلة وجعلني, محبوبا من الأهل بعد أن كنت منبوذا منهم, ألا يستحق ذلك أن أسعد به وأتناسى كل ما عداه؟

 

انك ستعجب حين تعرف أنني مازلت أقيم في نفس الشقة التي شهدت أيام معاناتي الطويلة مع أمي ثم وحيدا من بعدها.. وقد لامني بعض أخوتي وأصدقائي على ذلك, وطالبوني بالانتقال لمسكن آخر في حي راق أو فيللا في عمارة حديثة, لكني رفضت ذلك بإصرار وفضلت أن أعيش في ملكي, خاصة أن الشقة واسعة جدا بعد أن اشتريت الشقة الملاصقة لها من ساكنها السابق وفتحتها على مسكني وأنفقت على تجديد الشقة كلها وتشطيبها بالرخام والباركيه وبلاكارات الحائط وعلى تجديد البيت كله ما يزيد على ثمنه  لو وجدت شاريا له يرضي بعائده القليل.. كما أن جيراني القدامى والجدد يحبوننا ويحترموننا ونشعر بالأمان بينهم, فلماذا أغير مسكني مادام يحقق لي مطالبي منه؟

 

ولقد فكرت قبل ذلك أن أكتب لك قصتي حين انضمت زوجتي إلى فريق المطالبين لي بمغادرة المسكن والحي والانتقال إلى أحياء الأثرياء والقادرين لتحكم بيني وبينها بعد أن ارتضتك هي حكما بيننا, لكن شاء الله سبحانه وتعالى أن تعدل زوجتي من نفسها عن هذا الطلب وأن تشاركني الرأي والاقتناع بأننا سعداء في هذا المكان, وليس هناك داع لمغادرته إلا لو تصدع البيت, وهو علي العكس متين في أحسن حال والحمد لله.. فهل كنت توافقني في ذلك؟ وهل توافقني في سياستي هذه مع أخوتي وأهلي؟

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

 

أوافقك بلا تردد في تفضيلك للاستمرار في نفس المسكن الذي شهد مولدك ومعاناتك, ثم أيام سعدك وتوفيقك وإقبال الدنيا عليك, مادمت تشعر بالسعادة والأمان حيث تقيم, إذ لا مبرر للتغيير لمجرد تغير الأحوال المادية إلى الأفضل بغير حاجة عائلية أو اجتماعية له, ذلك أن الهدف الأساسي للإنسان هو السعادة المشروعة وليس أي شيء آخر, وكل ما يحققها له من وسائل وسبل شريفة مطلوب ومرغوب, كما أن السعادة في النهاية ليست بالمكان ولا بالجغرافيا وإنما بالبشر الذين نصاحبهم في رحلة الحياة ونحتاج إليهم لكي نري الحياة ولكي يشاركونا كل جوانبها علي حد تعبير الشاعر الفرنسي بول إيلوار, ولقد يجد الإنسان الآمان والاستقرار في بيت قديم بين جيران بسطاء وأوفياء, ولا يجدها في عمارة شاهقة بين جيران متحفظين لا يعرف بعضهم بعضا ولا يتواصلون معه إنسانيا, فابق في بيتك القديم يا صديقي ما طابت لك الحياة فيه, ولا تنفصل عن جذورك ولا عن جيرانك الذين كانوا أهلا لك حين باعدك الأهل وأنكروك, ولا تغير مسكنك إلا إذا ضاق عن تلبية احتياجاتك واحتياجات أسرتك, وما أظنه سوف يضيق بك ذات يوم وأنت تحمل هذه النفس الطيبة الراضية الخالية من المرارة والموجدة رغم ما عانت من قسوة الظروف من قبل..

 

إذ لاشك في أنك وزوجتك القنوع الطيبة ممن عناهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله ما معناه: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير أي كأفئدة الطير في الطهارة والنقاء والخلو من الأحقاد, وجنة الأرض كما يقول لنا الأديب الراحل د. لويس عوض هي سلام الإنسان مع نفسه ومع المجتمع ومع قوانين الطبيعة.

 

أما سياستك مع أخوتك فلقد أثبت بها ما يؤمن به الفضلاء ويترجمه عالم النفس الأمريكي الكبير وليم جيمس في قوله إنه لا تنمحي الكراهية أبدا بالكراهية وإنما بالحب! بمعني أنك إذا بادلت من يكرهك كرها بكره فلسوف يظل لهب الكراهية مشتعلا بينكما إلي ما لا نهاية.. أما إذا أشعرته بالحب فلقد تذوي جذوة كراهيته لك بالتدريج حتى تخمد ذات يوم, فإن لم يبادلك حبا بحب فلسوف يحمل لك على الأقل مشاعر حيادية مسالمة.

 

فضلا عن أنك قد نلت بما فعلت مع أخوتك الأجر الأكبر لصلة الرحم, وهو أجر الواصل الذي يصل رحم من يقطعون رحمه لقوله صلوات الله وسلامه عليه: ليس الواصل كالمكافئ, بمعني أن أجر الواصل لرحم من يقطع الرحم معه أعظم كثيرا من أجر من يكافيء من يصل رحمه بوصل الرحم معه.. وأنت قد وصلت رحم إخوتك رغم قطيعتهم لها, واقتحمت قلوبهم التي كانت موصدة في وجهك ربما تخوفا من احتمال حاجتك إليهم وربما لأنك كنت لهم بمثابة ابن زوجة الأب الثانية التي لم يرضوا عن زواجه منها..

 

فاستطعت بإصرارك علي وصل الرحم المقطوعة وحسن الخلق والنجاح العملي في الحياة أن تدفعهم دفعا للاعتزاز بك وبنجاحك وأخلاقك الكريمة, ولا عجب في ذلك, فالإمام جعفر الصادق يقول لنا إنه إذا أحب الله عبدا رزقه حسن الخلق, ولاشك أن الله سبحانه وتعالى قد أحبك لصبرك على المكاره.. وتمسكك بأهداب دينك في وقت المحنة, ووقت المنحة أي بعد أن اختبرت بالنعمة وكذلك لخلوك من الأحقاد والمرارات حتى على من باعدوك وأنكروك, فاسعد بحياتك وأسرتك وأهلك وعملك وتذكر نعمة الله عليك بالشكر الدائم والعرفان والتواضع لله سبحانه وتعالى, والعطف علي المحرومين والاستمرار في الطريق القويم الذي تنتهجه واستمتع بطيبات الحياة المشروعة كما كابدت من قبل مرارة الحرمان من أساسيات الحياة الضرورية.. ولا غرابة في ذلك, فمن عانى أعظم الألم يتعلم أيضا أن يسعد أعظم السعادة وشكرا.

رابط رسالة الذكريات المريرة

رابط رسالة العصا السحرية تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2004

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات