الباب المغلق ! .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
قرأت رسالة السيف البتار للسيدة التي تعترف لك بأنها قتلت زوجها بمطالبها المتواصلة لكي يوفر لها متطلبات الحياة التي تليق بها کأخواتها وزوجات إخوتها ، وبالتعالي والتكبر عليه ، حتى مات بالإرهاق والحسرة بغير أن يسمع منها كلمة طيبة واحدة رغم حبه الجارف لها.
وقد قررت أن أكتب لك قصتي لترى فيها هذه السيدة الجانب الآخر من الحياة .. فأنا سيدة عمري 30 سنة نشأت في أسرة متوسطة أو أقل من المتوسطة ، وأبي موظف بالمعاش ويداوم على الصلاة ، وأمي سيدة عظيمة ولم أرهما أنا وأخواتي يختلفان أو يتشاجران أمامنا أبدا ، وكنت الابنة الكبرى ، وتوقفت عن التعليم عند الإعدادية رغم إلحاح أبي علي لإكمال تعلیمي ، واكتفيت بالالتحاق بمعهد لتعليم التفصيل .. لأني لم أتخيل نفسي إلا أن أكون زوجة وأما وربة بيت .. وفي السادسة عشرة من عمري تقدم لي موظف في الثلاثين من عمره وتزوجته بعد فترة خطبة قصيرة ، وكان عش الزوجية الذي وفره لي هو غرفة واحدة وكان علي إذا أردت غسل الملابس بها بالغسالة أن أفك السرير وأكوم كل ما فيها من أثاث في جانب منها لأؤدي هذا العمل، أما المطبخ فلقد حل زوجي مشكلته بأن وضع لي البوتاجاز في شرفة الحجرة وقال لي هذا مطبخك ! ناهيك عن الوقوف في طابور طويل أمام الحمام ، ومع كل ذلك فلقد كنت على استعداد لأن أتحمل كل شيء حتى تتحسن الظروف ، لو كان زوجي قد أحسن معاملتي لكنه للأسف لم يحسن عشرتي وبدأ يضربنی بعنف بعد أيام من الزواج كلما نشب بيننا خلاف , وكسر لي إصبعي في إحدى المرات فخرجت من عيادة الطبيب وأنا أحس بأنه لم تعد لي حياة معه ورجعت لأبي وطلبت الطلاق وتنازلت عن كل حقوقی وانتهى هذا الزواج الفاشل .
وبعد فترة قصيرة ظهر في حياتي شاب آخر تربطنا به
صلة نسب ويعمل نجار مسلح ، وكان قد سمع بقصتي ورآني زوجة مناسبة له ، فكان كل
المطلوب منه هو إحضار الشقة ليتم الزواج لأن أثاثي جاهز وأنا مطلقة حزينة وسأقنع
بالقليل وتزوجته بعد انتهاء عدة الطلاق بشهر وانتقلت إلى عشي الجديد فكان
بالمقارنة بالأول قصرا فاخرا ، فقد كان شقة مستقلة من غرفة وصالة وإن كانت بلا
نافذة ولا شرفة !
وقررت أن أبذل كل جهدي لكي ينجح زواجي وأتجنب
الفشل للمرة الثانية .. فإذا بي أكتشف أن زوجي هارب من الخدمة العسكرية وأنه
تزوجني ببطاقة شخصية مزورة ، لأنه بلا أوراق ويخشى الاقتراب من أي قسم للشرطة ولا
يستطيع حتى أن ينتقل من محافظة إلى محافظة لخوفه من القبض عليه ، وازدادت مشاكلنا
حين غسلت من باب الخطأ بطاقته المزورة في ملابسه فتلفت ، ثم تعرف زوجي على بعض
أصدقاء السوء وتغيرت معاملته لي، وبدأ هو الآخر يضربني بعنف كلما حدث بيننا شيء.
ثم انتقلت أسرتي من مسكنها القريب إلى بيت بسيط بناه أبي بتحويشة العمر وخشيت أن
ينفرد بي زوجی ويزداد في ضربي وإيذائي فطلبت من أبي أن يؤجر لنا شقة في بيته لأكون
في حمايته وأعطاني أبي شقة من غرفتين وصالة وشرفة، وانتقلنا إليها وقلت مرات الضرب
والإهانة قليلا عن ذي قبل ثم فوجئنا بالشرطة ذات ليلة تدخل بيت أبي للبحث عن زوجي
الذي لم يكن موجودا وانزعجت أسرتی بشدة ، وفي اليوم التالي بحثت عن زوجي حتى وجدته
في بيت شقيقه الأصغر .. ولأول مرة منذ تزوجته ثرت في وجهه وخيرته بين أن يسلم نفسه
للجيش ويتحمل مصيره ثم نعيش بعد ذلك في أمان ، وبين أن يطلقني ويسرحني لأعيش حیاتی
بلا خوف .
وفوجئت به يوافق على تسليم نفسه ويطلب مني أن
أقف بجواره إلى أن تزول هذه المحنة ووعدته بإخلاص بأن أقف معه وألا أتخلى عنه وأن
أتحمل كل شيء في سبيل تصحيح وضعه ، وعاد معي لبيت أبي ليعتذر له عما سببه له من
إزعاج وتركته على باب الشقة ودخلت لأبلغ أبي بأن زوجي على الباب ويريد أن يعتذر
ويبدأ صفحة جديدة في حياته، فهاج أبي ورفض السماح له بدخول البيت، واتجه للباب
ثائرا وأغلق الباب بعنف في وجه زوجي الذي وقف محرجا وفي غاية الألم.
ولم أغضب من أبي وعذرته فيما فعل بسبب غضبه من دخول الشرطة بيته، لكني فكرت في وعدي لزوجي بأن
أقف بجواره في محنته مهما حدث ، وقررت أن أخرج إليه واستأذنت أبي في اللحاق بزوجي
فغضب مني بشدة وطلب مني تركه لمصيره فاعتذرت وأصررت على ألا أترك زوجي في شدته
وخرجت وأبي غاضب وناديت زوجي على السلم أن ينتظرني فوقف ينظر إلي والدموع في عينيه
وهو سعيد وأمضينا الليلة في بيت أحد أشقائه .
وفي اليوم التالي سلم نفسه إلى منطقة التجنيد وحوكم وحكم عليه بالسجن لمدة عامين وانتهى جهادي الأصغر في احتمال ضرب زوجی وخلافاته ، وبدأ جهادي الأكبر في الوقوف إلى جانبه في هذه الشدة ، وسألت نفسی کیف سأساعده وأنا لا مورد لي .. وقررت العمل ، وعملت عاملة تغليف في مصنع للحلويات من 8 صباحا إلى 6 مساء وتعلمت عملي وتقدمت فيه بسرعة غريبة حتى زاد إنتاجي من ۳۰ کیلو جراما في الأيام الأولى إلى مائة كيلو جرام في اليوم ، وبدأت أزور زوجی كل 15 يوما وأحمل له الطعام والفواكه وألبي مطالبه من النقود التي يحتاج إليها لتدبير معيشته في السجن .. وواصلت العمل الشاق والصعود حين يتعطل المصعد من الدور الأرضي إلى الدور الخامس وأنا أحمل ۵۰ كيلو جرام من الحلوى والعودة في المساء في ليالي الشتاء الباردة بكل كلل .. ولا شيء يشغلني إلا انتظار موعد الزيارة وإعداد طلبات زوجي وكلما احتاج زوجي إلى مبلغ إضافي ليسهل عليه حياته في السجن ، فعلت المستحيل لكي أدبره له ، وأخيرا زف إلي زوجي في إحدى الزيارات بشری قرب الإفراج عنه قبل مضي المدة في ذكرى 6 أكتوبر ، وكدت أطير من الفرح لهذا الخبر السعيد وبدأت أستعد لخروجه بشراء ملابس مدنية له ، وفي زيارتي التالية له أبلغني محرجا أنه يحتاج إلى خمسين جنيها حتى يتم إخلاء سبيله في نفس اليوم المحدد للإفراج ولا تتعطل الإجراءات بضعة أيام فوعدته بإحضار المبلغ له في الزيارة التالية ، وأنا لا أعرف من أين احصل عليه .. ومضت الأيام وأنا لا أجد مصدرا للنقود ولا استطيع مطالبة أبي بالمبلغ وهو الذي توقف عن تقاضي الإيجار منا منذ سجن زوجي ، والمصنع لن يقرضني مبلغا كهذا وأنا عاملة باليومية وعدت من عملي في اليوم السابق للزيارة وأنا أحس بالضيق يكتم أنفاسي وأدعو ربي أن يفك ضيقتي، ويسترني أمام زوجي الذي احتملت كل شيء من أجله .. وسبحانك ربي تجيب دعوة الداعي إذا دعاك .. فلقد عدت للبيت فوجدت خطابا لي من عمي الذي يعمل بالخارج فوجدت فيه كارتا موسيقيا بمناسبة عيد میلادي وفي داخل الكارت ۳۲۰ دولار هدية عيد الميلاد لي ولم احتمل المفاجأة، فصرخت وبكيت وصليت ركعتين وشكرت ربي کثیرا ودفعت له المبلغ المطلوب في آخر زيارة ثم تركت العمل بالمصنع لأستعد لخروج زوجي وأجهز بیتي لاستقباله کأنني عروس جديدة.
ووصل زوجي إلى بيته وامتلأ البيت بالأهل والأصدقاء .. وكنت قد أعددت طعاما طيبا وملأت ثلاجتي بحيث لا يحتاج زوجی لشيء خلال فترة الراحة .. فعشنا معا أسبوعين من أجمل أيام العمر ، ثم خرج ليعد لنفسه أوراقا سليمة ويعيش في «النور» لأول مرة منذ عشر سنوات .. وبدأ يعمل من جديد واستخرج لنفسه جواز سفر وجاءته بعد شهرين فرصة للعمل في الخارج .
وكنت قد سمعت أن زوجي قد ثار ثورة عارمة على بعض
من نصحوه بأن يتزوج مرة أخرى لينجب ، وأنه قال لهم .. إن زوجتي قد اشترتني وتحملتني ووقفت إلى جانبي في فقري ومحنتی حين تخلى عنى الآخرون .. ولن أفرط فيها
أو أؤذي مشاعرها إلى نهاية العمر ، فبكيت فرحا وشكرت الله تعالى وعرفت أن ربي قد
هداني لأن أصبر على زوجي وأحتمل ما عانيته منه في البداية لتكون جائزتي التي تتحدث
عنها في ردودك هي الراحة بعد التعب ، والحمد لله الذي هدانا لذلك ، فزوجي طيب
وأصيل وشهم ولم يكن ينقصه فقط إلا أن يرشده أحد إلى الطريق الصحيح بدليل أنه حين
هرب من الخدمة العسكرية لم يبصره أحد بعواقب ذلك وخطورته ولم يرغمه أحد على العودة
وتصحيح وضعه .
إلى أن هداني
الله له ، وهداه لي . والحمد لله على ما أعطى ومنح ولقد كتبت هذه الرسالة لأقول
للزوجة التي قتلت زوجها بالمعايرة بالفقر والتكبر والتعالي عليه أن الزوج المحب
الطيب الذي يخلص لزوجته ويعمل على إسعادها هو نعمة كبيرة من عند الله يؤتيها من
يشاء وأن التنكر له والتكبر عليه ومعايرته بالفقر .. تبطر على هذه النعمة يعاقبنا
الله عليها بزوالها وأرجو أن تتعلم هذا الدرس وتستفيد به في حياتها کما تعلمت
واستفدت .. وأخيرا فقد كتبت هذه الرسالة أيضا لأقول لك أنني بعد زواج ۱۳ عاما مازلت أطمع في أن يرزقني الله بطفل ، لأنه لا
توجد امرأة
على وجه الأرض لا تتمنی شرف الأمومة ، لهذا فإني أحملك أمانة، هي أن تدعو إلى الله أنت وقراء بريد
الجمعة بأن يرزقني بالخلف الصالح ليكون هدية السماء لي بعد صبري وشكرا لك ولهم
والسلام .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
قد يعاشر
المرء الآخرين سنوات طويلة بغير أن يكتشفهم، ويعرف حقيقة جوهرهم إلى أن يواجه محنة
عاصرة فتكون كوهج النار الذي يذيب الصدأ عن معادن البشر فتظهر له على حقيقتها إما
نفيسة وإما رخيصة وفي هذا المعنى قال الشاعر العربي : جزى الله الشدائد كل خير.. عرفت بها عدوي من صدیقي.
وأنت يا سيدتي قد اكتشفك، زوجك لأول مرة بعد
سنوات من الزواج واضطراب العشرة في اللحظة التي فتحت فيها الباب المغلق في وجهه
حين جاء لأبيك معتذرا ، وخرجت إليه لتؤدي واجب الزوجة المخلصة في مساندة زوجها
وإعانته على ما يواجهه من محن ، بعد أن أدت قبلها أحسن الأداء لواجبها تجاهه حين
أخلصت له النصح بأن يسلم نفسه ويتحمل عواقب خطئه ليبدأ بعد ذلك حياة آمنة سليمة .
ولم تكن
نصيحتك هذه له مجرد نصيحة زوجة رشيدة ، وإنما كنت تمارسين بها واجبا دينيا، يبدو
أن كثيرين قد نسوه في زحام الحياة .. وفي غمار انكفاء كل إنسان على نفسه .. هو
واجب النصيحة للمنحرف بالعودة للطريق القويم فالدين النصيحة، وأنصح الناس لك كما
قال
أحد العارفين
هو من خاف الله فيك .. أي لم ينصحك إلا بما فيه خيرك
وصلاح أمرك في
الدنيا والآخرة .
وأنت قد أديت
هذين الواجبین فاكتشفك زوجك واكتشفته أنت أيضا حين أنضجته نار التجربة وليس کالمحن
نار تنضج الإنسان وترده إلى نفسه وتعينه على فهم حقائق الحياة التي كانت غائبة عنه
. لهذا عرفت في زواجك بعد المحنة شخصا آخر غير الذي عاشرته سنوات طوالا قبلها ،
وهذه هي أهمية ألا يغلق الإنسان باب الأمل في إمكان إصلاح من يهمه أمرهم وأهمية ألا
يسرع بالتسليم باليأس منهم قبل أن يجاهد معهم جهاد الأبطال ويستنفد معهم كل
الوسائل لتغييرهم للأفضل.
فالإنسان - وفقا لقانون التغير الذي يقول إن كل
شيء في الحياة يتغير إلا قانون التغير - لا يثبت على أفكاره وسلوكه أبدأ من
الميلاد حتى الممات ، وإنما يتغير بتغير مراحل العمر وتغير الظروف والأشخاص من
حوله .. والعقبى دائما للصابرين ، فلماذا نسارع دائما ومن أول جولة برفع الراية
البيضاء يائسين من تغيير من لو بذلنا بعض الجهد معهم لأمكن إلى حد كبير إصلاح بعض
أمرهم ؟
إنك لو كنت قد
سلمت بهذا المنطق العاجز من البداية .. لما صبرت على زوجك في سنوات طيشه ، ولما
حاولت تغييره ، ولا عرفت هذا الإنسان الجديد، الذي تتمتعين الآن بحبه وإخلاصه وشهامته
. وشريك الحياة المحب المخلص - رجلا كان أو امرأة - ثروة لا تقدر بمال ، ويستحق أن
نكافح لاستعادته إلى الطريق القويم إذا شرد عنه ، بل ويستحق أيضا أن نقول له مع "بوذا"
: "ليت لي أربع عيون لکی
أعطيك اثنتين
منها" .
والتبطر على
شريك الحياة المخلص إثم يسرع بزواله عن صاحبه كما تزول النعم عمن لا يحفظونها
بالشكر عليها .
ولاشك أن الجائزة عادلة تماما لكل منكما. فكلاكما يستحق صاحبه وينبغي أن يحرص عليه إلى النهاية .. والدعاء لك بلا حدود بأن يحقق الله لك أمانيك الطيبة .. لكن النصيحة الأخيرة هي أن تعملى بما أشار عليك به زوجك إذا ما ثبت لكما في النهاية وبالدليل القاطع أن الله قد اختار لكل منكما ألا يشاركه في الآخر وليد ، وأن تقبلا هذا الاختيار وترضيا به عن اقتناع وصبر .. فبالرضا أيضا تدوم النعم ، وبغيره تتعلق النفس الراغبة أبدأ في المزيد بالمفقودة ، وتنسى الموجود .. ويتعكر صفو الحياة عسى الله أن يحقق لك كل آمالك ، ويهيء لك من أمرك رشدا وشكرا لك على رسالتك المفيدة .
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر