السيف البتار .. رسالة من أرشيف بريد الجمعة سنة 1992

  

السيف البتار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

السيف البتار .. رسالة من أرشيف بريد الجمعة .. عام 1992

من حسن الإيمان ألا يبخس الإنسان أقدار الآخرين ، وألا يسفه جهودهم وكفاحهم الشريف من أجله ، وألا يتعالى عليهم ويعيرهم بضعفهم وقلة حيلتهم وضيق أرزاقهم ، وألا يكتم الشكر لهم حين يستحقون الشكر ، والمديح حين ينبغي أن يمدحهم وألا ينكص عن تشجيعهم حين يلتمسون منه التشجيع والعطف .. فكتمان الشكر جحود ، وإنكار الفضل إثم .. أما البخل بالعطف على من يحتاجون إليه فهو ليس قسوة غير إنسانية فقط وإنما أيضا جهل بطبيعة الإنسان الذي يحتاج دائما إلى العطف النبيل .

عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة


أنا أرملة في الثانية والثلاثين من عمري ، وأريد أن أعترف لك أنني قد قتلت زوجي ! 

نعم .. أريد أن أعترف لك لأستريح .. وليهدأ ضميري الذي يؤرقني الآن ليل نهار .. لقد قتلت زوجي فعلا ، ولكني لم أقتله بساطور ولا بالبلطة ، وإنما قتلته بغبائي وکبریائي وعنادي وتكبري واستعلائي عليه، وبكثرة طلباتی منه .

فلقد تزوجته منذ ثماني سنوات وهو يعمل موظفا وأنا موظفة بإحدى الهيئات الحكومية ، ومنذ اليوم الأول لخطبتي له اشترطت عليه لقبوله ألا أعمل بعد الزواج وأن يهييء لي مستوي الحياة الذي أعيش فيه في بيت أهلي ، ونفس المستوى الذي تعيشه زوجات إخوتي ، رغم الفارق الهائل بين دخولهم ودخله .

وقبل ذلك راضيا ، وتزوجنا ، وتركت العمل وقبعت في البيت أطالبه كل يوم بالوفاء بوعده ، واستجاب والتحق بعمل إضافي مرهق لا علاقة له بطبيعة عمله الحكومي ، فكان يخرج كل يوم في السابعة صباحا ويعمل بوظيفته حتى الساعة الثانية بعد الظهر ثم يجري ليلحق بعمله الإضافي بلا غداء فيعمل به من الثالثة إلى الثانية عشرة مساء كل يوم .. واستمر على ذلك منذ الشهر الأول من زواجنا ، وكلما أحس بالإرهاق وهم بأن يناقشني في مسألة العودة للعمل لأساعده، خاصة حين كان الرجوع عن الاستقالة ممكنا ، ثرت عليه وعيرته بفقره وقلة إمكاناته وصحت فيه : لماذا تزوجتني وأنت غير قادر على نفقات حياتي ؟ .. ولعنت اليوم الأسود الذي تزوجته فيه ، فيسكت صابرا ويواصل العمل من الصباح حتى منتصف الليل ، وليتني بعد ذلك قدرت له كفاحه من أجلي أو محاولاته لإرضائي وإسعادی ، إذ لست أذكر "للأسف" أني قلت له مرة كلمة شكر أو كلمة حب تهون عليه شقاءه .. أو حتى كلمة تعاطف أو عطف وهو يعود منهكا في آخر الليل .. أو حين يقدم لي شيئا طلبته .. إذ كان أقصى ما أتكرم به عليه هو ألا ألومه أو ألا أنتقده أو ألا أبخس قيمة الأشياء التي جاءني بها ، وفي مثل هذه الحالات النادرة كان يسعد كثيرا ، حتى كانت سعادته في بعض الأحيان تغيظني فأكاد أفسدها عليه بكلمة قارصة من الكلام الذي تعودت أن أوجهه له.

 

ومضت 8 سنوات على زواجنا وزوجي يكرس حياته لإرضائي ولا يجرحني بكلمة ، إلى أن صحوت ذات ليلة على صوته وهو يصرخ من شدة الألم .. وأسرعت بنقله للمستشفى وهناك ذهلت حين عرفت أنه مريض بمرض خطير منذ فترة طويلة وأنه كان يتحامل على نفسه ويهمل العلاج خوفا من نفقاته الباهظة ، وتعجبت من أنه لم يشر إلى مرضه معي من قبل ، كأنه كان يشفق علي حتى من أن يشغلني بأمره .. وهو من لم يكن له شاغل سواي .

ولم يطل بقاؤه في المستشفى ، فلقد تدهورت حالته سريعا وفارق الحياة وهو يمسك بيدي ويشكرني على السعادة، التي منحتها له خلال السنوات التي عاشها معي .. وبكيت بحرقة عليه وأنا أتساءل في مرارة وحسرة لا يعرف عمقها غيري .. وأين هي هذه السعادة التي منحتها له .. لقد قتلته بالإرهاق .. وبالتدريج .. وظل يموت قطعة قطعة طوال السنوات الأخيرة وأنا لا أحس به ولا أدري ولا أشفق عليه ولا ارحمه ولا أرى إلا مطالبي وطلباتی ومقارناتي مع زوجات إخوتي .

والآن أبكي عليه بالدمع السخين بالساعات كل يوم .. أبكي الرجل الذي أحبني بكل ذرة في كيانه فكرهته وعذبته وأنكرته ومات قبل أن يسمع مني كلمة حب واحدة .

 إن الندم يقتلني الآن ولكن بماذا يفيد الندم يا سیدي ، لقد قررت أن أكتب إليك لتعرف كل زوجة تفعل مثلما فعلت بزوجي الطيب .. أنها ستشرب من نفس الكأس التي أشرب منها الآن ، وسينبذها الجميع بعد رحيل زوجها حين يتذكر لها الجميع ما صنعت وما فعلت ، فلا أحد في البيت يتكلم معي حتى إخوتي الذين يتهربون الآن مني ويوصون زوجاتهم بعدم الاختلاط بي حتى لا تصيبهن «العدوى» مني.

وآه یا سیدی ما أحسه حين أتذكر صورته .. وابتسامته المحرجة حين كنت أقسو عليه .. وأحس أني سألحق به قريبا .. لكن بأي وجه ألقاه

بعد أن فعلت به ما فعلت .. وهل يغفر الله لي حقا ذلك .. إنني أستغفره كثيرا وأبكي ندما طويلا .. فهل يغفر الله لي ما صنعت ؟.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لأحد الصالحين قول حكيم يقول فيه : " ليس البكاء بتعصير العيون ، وإنما بأن تترك الأمر الذي تبكي عليه " !

لهذا فإني أرجو أن يكون بكاؤك على زوجك ندما صادقا على ما فعلت به ، وبداية لتغيير نظرتك كلها إلى الحياة وإلى العلاقة الزوجية في مستقبل الأيام .. فلقد فاتك الكثير حقا خلال رحلة حياتك الماضية مع زوجك الراحل ، وأن لك أن تعرفي أنه من حسن الإيمان ألا يبخس المرء أقدار الآخرين ، وألا يسفه جهودهم وكفاحهم الشريف من أجله ، وألا يتعالى عليهم ويعيرهم بضعفهم وقلة حيلتهم وضيق أرزاقهم ، وألا يكتم الشكر لهم حين يستحقون الشكر ، والمديح حين ينبغي أن يمدحهم وألا ينكص عن تشجيعهم حين يلتمسون منه التشجيع والعطف .. فكتمان الشكر جحود ، وإنكار الفضل إثم .. أما البخل بالعطف على من يحتاجون إليه فهو ليس قسوة غير إنسانية فقط وإنما أيضا جهل بطبيعة الإنسان الذي يحتاج دائما إلى العطف النبيل .

 

 لقد قال عالم النفس الأمريكي آرثر جيتس : إن الجنس البشري كله يتلهف على عطف الآخرين منذ فجر التاريخ ، والزوج الذي يشقى لإسعاد زوجته .. والزوجة التي تناضل لإسعاد زوجها وأسرتها من أحق الناس بعطف كل منهما على الآخر لكي يهون عليهما معا عناء الحياة .. فلماذا تقسو القلوب أحيانا على من لا يحملون لها إلا أصدق الحب ؟

ولماذا لا نعرف لهم أقدارهم دائما ولا ندرك قيمة نبع الحب العميق الذي نهلنا منه بلا حساب إلا بعد أن يفارقونا . ونتلفت حولنا فلا نجد لأنفسنا أية قيمة إلا لدى من كانوا يتلهفون على كلمة حب أو عرفان واحدة منا فلا يسمعونها .

إن زوجك الراحل لم يمت بسيف المرض والإرهاق وحدهما وإنما مات أيضا بسيف النكد والنقد العقيم المستمر الذي لا يفيد ولا يغير من الأمر شيئا ، وسيف التكبر علیه وخنجر انتقاد التقدير ممن تفانى في حبها ، وكلها أسلحة فاتكة تقصف العمر وتسرع بالهلاك ، وما شكره لك عند الرحيل إلا استمرار لإنكار نفسه ورغبة منه في أن يجنبك عذاب الضمير وقبول منه لأقل القليل والرضا به .. فأي حب عظيم كان يحمله لك وأي خسارة فادحة قد خسرتها بافتقاد هذا الحب الطاغي الفريد ؟

لقد حذرنا الرسول الكريم من أن نحاسب البشر عما لا حيلة لهم فيه ، وهو رزقهم فقال ما معناه أنه سوف يأتي على الدنيا زمان يكون فيه هلاك المرء على يد زوجته وولده ، يعيرونه بالفقر ويطالبونه بما لا طاقة له به ، فيدخل المداخل التي يفقد فيها دينه وخلقه فيهلك .. فاذکری ذلك جيدا يا سيدتي واجعلي من ندمك على ما فعلت رجوعا عن كل أفكارك الخاطئة وتطهرا من كل ما فعلت .. ولتكن رسالتك نوعا من الشفاعة لك عند ربك .. والله يغفر لمن يشاء ويقدر والسلام.

رابط رسالة الباب المغلق تعقيبا على هذه الرسالة

  نشرت عام 1992 في باب بريد الجمعة بأرشيف جريدة الأهرام

شارك في الإعداد / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر/ نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات