الجزاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا في الرابعة والعشرين من عمري تخرجت في إحدى الكليات النظرية منذ أربع سنوات .. وحين كنت طالبا بالسنة الثانية تمنيت في أعماق نفسي أن يمكنني الله سبحانه وتعالى من أن أساعد إنسانا يحتاج إلى المساعدة، فإذا بي أتعرف على زميلة بالكلية لم أكن قد رأيتها من قبل لأنها لا تحضر إلى الكلية لمرضها بضمور العضلات الذي يعجزها عن الحركة ورأيتها لأول مرة , وعرفت منها أنها تواجه صعوبة شديدة في متابعة المنهج الدراسي لعدم قدرتها على الحضور للكلية بانتظام .. فعرضت عليها أن أزورها بإنتظام في بيتها لأقدم لها المحاضرات وأكتب وأتابع معها دراستها , وتم ذلك بفضل الله .. ونجحنا معا في السنة الثانية ثم الثالثة .. وفي السنة الأخيرة نجحت أنا ولم يحالفها التوفيق فرسبت.
وبعد تخرجي لم أنقطع عن زميلتي وتابعت معها دراستها في السنة التالية إلى أن وفقها الله وتخرجت وحصلت على شهادتها.
ولم يذهب جهدي معها سدى وإنما وقف الله إلى جواري كما وقفت إلى جوارها وعوضني عن ذلك خير الجزاء وأفضله .. لقد حصلت على وظيفة بإحدى شركات القطاع العام , رغم اشتداد أزمة البطالة بين الخريجين ورغم إني لست من أصحاب الصلات ولا أعرف أحدا يمكن أن يوفر لي هذه الفرصة , وكانت الوظيفة التي يحسدني عليها كثيرون هي هدية السماء لي .. فأدركت حين حصلت عليها مغزى الدعاء الذي يقول : "اذكروه في الرخاء يذكركم في الشدة , والحمد لله من قبل ومن بعد".
والمهم أنه طوال تلك السنوات التي كنت أتابع خلالها دراسة زميلتي هذه كانت تعيش مع والدها المسن ووالدتها المسنة أيضا , وبعد أن تخرجت زميلتي توفيت والدتها الفاضلة التي كانت تقوم لها بكل شئونها الخاصة وانقطع الإخوة المتزوجون عن بيت الأسرة وشغلتهم مشاغل الحياة عن هذه الأخت القعيدة كأنما نسوا أمرها .. ولم أر أباها المسن منذ ذلك الحين إلا باكيا كل يوم على زوجته الراحلة .. لعجزه عن القيام بشئون ابنته الخاصة التي لا تقوم بها إلا سيدة , ولإشفاقه الشديد عليها من أن يحم عليه القضاء فيتركها وحيدة في الحياة وهي غير قادرة على رعاية نفسها ويبكي الأب بكاء يمزق قلبي فتجاوبه الابنة المسكينة بسيل من الدموع يتواصل مع دمعه .. وأقف بينهما عاجزا وحائرا ومتألما.
إن والد زميلتي يتمنى أن يجد سيدة فاضلة لا لكي يتزوجها ولكن لتقوم عنه بشئون هذه الفتاة ولو دفع إليها أجرا رمزيا من مرتبه الضئيل , فهل أجد من بين قرائك هذه السيدة الفاضلة التي تقبل أن تقوم بشئون هذه الفتاة الخاصة وأنا واثق تمام الثقة من أن الله سبحانه وتعالى سوف يعوضها عن كل ما تقدمه لها بأفضل الجزاء .. كما عوضني بما لم أكن أحلم به أو أتوقعه.
وهل أجد بين قرائك أيضا طبيبا فاضلا يتفضل مشكورا بمتابعة حالة زميلتي عسى أن يحقق الله لها الشفاء على يديه ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكـــاتـــب هـــذه الـــرســـالـــة أقول :
أما عن السيدة الفاضلة التي تقبل أن تقوم لهذه الفتاة بشئونها الخاصة فإن كثيرات قد يرحبن بزيارتها وتناوب رعايتها حبا وكرامة .. وبلا أجر سوى أجر السماء الذي لا يطاوله أجر .. فإن لم يكن ذلك ملائما لظروف زميلتك فكثيرون أيضا في مقدمتهم بريد الأهرام يرحبون بأن يرفعوا عن كاهل هذا الأب الحزين عبء مرتب السيدة التي تقوم لها بهذا العمل بانتظام.
وأما عن الطبيب الذي يتابع حالتها الصحية فما أكثر من سوف يسعدهم أداء هذا الواجب الإنساني لها , وأن كان الأفضل دائما هو أن يوفق الله هذا الأب لشريكة حياة ملائمة تشاركه العناية بابنته وتنتظر جوائز السماء تأتي إليها .. تترى .. كما نلت أنت جائزتك العادلة من لدن عزيز حكيم والأفضل أيضا هو أن يتذكر " الإخوة المتزوجون" أن لهم أختا تحتاج إلى عونهم ورعايتهم .. فيشاركون أباهم في رعايتها أو يشاركوننا على الأقل في التفكير فيما يلائمها من حلول .. أما أنت يا صديقي فليس لك عندي إلا كل الحب وكل الاحترام لدورك النبيل في إعالة هذه الفتاة على ظروفها فاهنأ بما تفعل واحمل لنفسك من الاحترام ما أنت جدير به وتفضل بزيارتي مساء الاثنين.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يوليو 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر