الأسلوب المقنع ..رسالة من بريد الجمعة عام 1992
نشأت في أسرة متماسكة متحابة , وكان أبي يعمل بالتجارة ويخشى المال الحرام .. فمّن الله عليه بالربح الوفير وبالحياة الآمنة المطمئنة مع زوجته وبناته الثلاث، وكرست أمي كل طاقتها لرعايتنا فتعلمنا في المدارس الأجنبية وارتدينا أجمل الملابس ومضت سنوات طفولتنا وصبانا سعيدة هادئة فتزوجت شقيقتاي وواصلت دراستي ثم مرضت أمي وتوفاها الله وخلا بيت الأسرة علي مع أبي ولم أستطع الحصول على مجموع كبير فى الثانوية وعجزت عن الالتحاق بالجامعة .. وقرأت ذات يوم اعلانا لهيئة تطلب خريجي مدارس اللغات فتقدمت إليها وشغلت نفسي بالعمل، ثم استوقفني شاب أثناء عودتي من عملي ذات يوم وقدم لي نفسه وأبلغني على عجل بأنه صديق لأحد جيراني ويراقبني منذ فترة وشديد الاعجاب بي ويريد أن يتعرف علي قبل أن يتقدم لخطبتي ورجاني بلهفه ألا أرفض طلبه وأقنعني بأسلوب رقيق ومهذب بذلك فاجتذبني حديثه ولم أستطع صده .. وتكرر اللقاء عدة مرات ثم طلب مني أن يتقدم لأبي وعبر لي عن مخاوفه من أن ترفضه أسرتي لفارق المستوى الاجتماعي والمادي .. وكنت قد اقتنعت به وأحببته وسحرني بأسلوبه المقنع في الحديث، فطلبت منه أن يدع هذا الأمر لى .. وفاتحت أسرتي فاعترضوا جميعا، ورفض أبي "بإصرار" الموافقة عليه .. لكني أعلنت تمسكي به وإصراري عليه وتريث أبي في الرفض وطلب مقابلته وبعد أن قابله عدة مرات على انفراد عاد يحاول إقناعي بكل الطرق بأنه ليس الشخص المناسب لي وبأنني صغيرة ولم أكمل تعليمي ولا خبرة لي بالحياة، ويعدد لي سلبيات هذا الزواج والمشاكل التي تنتظرني ولكن هيهات أن أقتنع وصوت حبيبي وصدى حديثه المقنع يتردد في أذني.
واستسلم أبي راغما، وتم زفافي في حفل صغير ضم أفراد الأسرتين فقط، وفي أضيق نطاق .. وكان حفلا كئيبا لم تظهر فيه على أفراد أسرتي أية ملامح للبهجة بالرغم من محاولاتهم المصطعنة لافتعال الفرح والابتسام مجاملة لي , وقدم لي أبي هدية الزفاف مبلغا من المال لأستعين به على حياتي الجديدة كتعويض عن حفل الزفاف الذي لم يقم.
وأقمت مع زوجي في شقة صغيرة وبأثاث محدود .. وأقبلت على حياتي الزوجية بسعادة ورضا بكل ظروفها، وتفننت في تدبير حياتنا بمرتبي ومرتبه المحدودين وحافظت على أناقتي ومظهري، بشراء بواقي الأقمشة وتفصيلها .. وانتظار الاوكازيون لشراء ما أريد في أضيق الحدود , وراحت أسرتي تترقب أخباري وتتوقع نشوب الخلاف بيني وبين زوجي بسبب مشاكل الحياة وتختبر مدى قدرتي على تحمل الحياة المتقشفة .. لكني صمدت لظروفي بصبر وتحد .. وكان أبي كلما زارني يمنحني مبلغا من المال لأواجه به حياتي .. فكنت أتأذى نفسيا من ذلك وقررت الاعتماد على النفس ورحت أعطي الدروس الخصوصية لطالبات المرحلة الاعدادية لقاء مبالغ زهيدة واستمر في بعض الأحيان في إعطاء الدروس حتى منتصف الليل .. وعشت راضية سعيدة بحياتي الزوجية ولم تشهد حياتنا إلا بعض الخلافات المعتادة في كل زواج وأحببت زوجي دائما وعملت ما في وسعي لإرضائه لأوفر لنفسي وله الحياة الأسرية السعيدة التي عشت في ظلالها.
ثم عاد زوجى ذات يوم وأبلغني أنه قرر الهجرة إلى الخارج كما فعل بعض أصدقائه واستغربت هذا التفكير المفاجئ لكنه أقنعني بأسلوبه أن فرصتنا هنا محدودة وأنه يريد أن يحقق لي الحياة التي استحقها .. وسلمت برغبته وبدأنا فى اتخاذ اجراءات الهجرة وسط دهشة الأهل والأصدقاء .. وهاجرنا إلى الولايات المتحدة وبعد فترة حصلت على وظيفة سكرتيرة إدارية وحصل هو على وظيفة موظف حسابات بأحد المصانع , وأدركت من البداية أن مرتبه لا يكفي لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة فقدمت له مرتبي راضية بعد خصم نفقاتي الشخصية المحدودة .. واستقرت بنا الحياة في المهجر وأنجبنا طفلتين وتحسنت ظروفنا المالية بعد فترة بالصبر والكفاح وأصبحت لنا مدخرات اتاحت لنا أن نعود لزيارة الأهل مرة كل سنة.
وتحقق الحلم الذهبي الذي طالما حلمت به وتمنيته وهو أن ينجح زواجي وتزدهر أحوال الأسرة .. وتنقل زوجي خلال سنوات بين عدة وظائف ثم بدا له أن عدم اتقانه للغة يقف في سبيل ترقيته لوظائف أعلى ففاجأني ذات يوم بأنه قد مل الوظائف الروتينية وتعرف على بعض الأشخاص واتفق معهم على انشاء مصنع صغير, وراح بأسلوبه المقنع يعدد لي مزايا المشروع الجديد وعائده إلخ , واقتنعت برأيه كالعادة وبدأ ينفذ مشروعه ووضع كل مدخراتنا المشتركة فيه وعدنا من جديد لحياة التقشف إلى أن يؤتي المشروع ثماره .. ومضى عامان من العمل المضني أصبح بعدهما المشروع في كامل طاقته وبدأنا نشعر بثمرة الكفاح .. لكن زوجي لم يكتف بذلك وإنما قرر أن يشتري نصيب شركائه ويقوم بتوسعات جديدة في أعمال المصنع , وبالتالي لابد من شد الحزام مرة أخرى , فواصلت شد الحزام , لكني لاحظت أني وطفلتي فقط من نعاني من هذا التقشف أما هو فيرتدي أفخر الملابس ويشتري احتياجاته من أرقى المحلات وينفق على نفسه بكرم ويعلل ذلك بأنه رجل أعمال ولابد أن يحافظ على مظهره , ثم حدث أن زرت المصنع ذات مرة فعرفت أنه مستقر منذ فترة وليست هناك توسعات , وبالتالي فليست هناك ضرورة لشد الأحزمة .. فامتنعت لأول مرة منذ زواجنا عن اعطائه مرتبي, وثار هو ثورة هائلة واتهمني بالأنانية وعدم التعاون وطالبني به بجرأة بدعوى أن ميزانية البيت قد "اعتادت" عليه ورفضت فأقام الدنيا وأقعدها وكثرت الخلافات بيننا لأول مرة على أسباب تافهة إلى أن سقطت خلال احدى هذه المشاحنات مغشيا علي وأفقت في المستشفى الذي أمضيت به ثلاثة أيام عولجت خلالها بالمهدئات وعدت للبيت ولم يتغير شئ في حياتنا التي سادها الشقاق للأسف .. فقد عاد هو لاختلاق أسباب الشجار معي , وآلمني ليس فقط الشجار والخلاف .. وإنما الاحساس المر بأن ما كنت أقدمه له من مال طوال سنوات زواجنا كان له مفعول السحر عليه في حسن معاملته لي , وربما كان السبب الأساسي في ذلك .. وتولاني الإحساس بضياع العمر والحب والاطمئنان فكرهت هذا الوجه الذي تكشف لي من زوجي ونفرت منه نفورا شديدا .. وطوال هذه المحنة كنت قد أخفيت متاعبي عن أسرتي , خاصة عن أبي الذي أدركته الشيخوخة , ثم حدث أن اشتد عليه المرض فطلب أن يراني، وحزمت حقائبي وسافرت لمصر ووجدته في غيبوبة النهاية .. وتوفي إلى رحمة ربه.
وبعد انتهاء العزاء واجراءات الوراثة التي استغرقت بعض الوقت , عدت إلى بيتي بالمهجر فإذا بمفاجأة قاسية تنتظرني .. لقد طلقني زوجي العزيز يا سيدي غيابيا عن طريق سفارتنا وقام بتعزيز الطلاق مرة أخرى وحسب قوانين المهجر , وأصبت بانهيار نفسي أشد وأقوى لي أفقدني هذه المرة القدرة على العمل .. لكن رحمة الله لا تنسى أحدا .. فقد استضافتني بمنزلها صديقة لي بدون مقابل وعرضت علي صديقة أخرى الإقامة عندها في أي وقت أشاء ولأي مدة أراها .. وامتدت لي يد المساعدة من هنا وهناك.
وكنت بالطبع قد فقدت خلال ذلك وظيفتي وبدأت النقود القليلة التي بحوزتي تتناقص , ولم أجد موردا لأن زوجي سامحه الله قد حرمني من كل مستحقاتي وسحب رصيد حساب البنك المشترك بيني وبينه وقيده تحت بند مشتريات للمصنع لم يتم تصفيتها بعد , وقدم مستندات "مقنعة" تفيد أن المصنع في مراحله الأولى ولم يؤت ثماره بعد وأنه انفق عليه الكثير, وقدم الفواتير والمستندات "المقنعة" أيضا التي تثبت ذلك لكي يفلت من دفع النفقة الشهرية التي تفرضها قوانين المهجر كما أسرع وبنفس هذه القدرة بإثبات أني في حالة نفسية ومرضية لا تسمح لي بحضانة الطفلتين لأني في حاجة لمن يرعاني أنا نفسي ! فازدادت حالتي النفسية سوءا وفقدت قدرتي على الدفاع عن نفسي من هول الصدمة .. وفقدت شهيتي للطعام وتملكني الإحباط واليأس من الحياة وفقدت حيويتي ونشاطي وأصبحت مسلوبة الارادة أعيش بلا تفكير ولا تركيز في أي شئ .. وكثيرا ما فوجئت عند استيقاظي في الصباح بالوسادة التي أنام عليها مبللة بدموع غزيرة انهمرت من عيني أثناء نومي بلا إرادة .. وسلمت أمري إلى الله فيما فقدت من حياتي وشبابي وصحتي ومالي وعرفت أسرتي في مصر بالخبر من أسرة زوجي، فجاء خالي أكرمه الله لزيارتي واستطلاع أمري فرآني في حالة يرثى لها، وأصر على أن أعود معه وعدنا لمصر بعد أن يئس من استرداد مستحقاتي بسبب إحكام تدبير زوجي ومستنداته الجاهزة.
وعدت لمصر وحيدة وضمني خالي لأسرته وأحاطني وزوجته برعايتهما حتى استعدت نشاطي وعادت لي قدرتي على العمل وبدأت احرص على زيارة ابنتي كل فترة , أو تأتيان لزيارتي كلما سمحت ظروفهما.
ومضت 8 سنوات على ذلك ثم دق جرس التليفون فوجدت ابنتي تتحدثان إلي من وراء البحار وتبلغانني برغبتهما المشتركة في ترك منزل أبيهما وتطلبان مني العودة للمهجر لأعيش بالقرب منهما لأنهما يحتاجان إلي بعد أن كبرتا وبلغت الأولى مرحلة الجامعة وتقيم في المدينة الجامعية والأخرى المرحلة الثانوية , وقالت الفتاتان الطيبتان لي أنهما لا تستطيعان أن تنسيا لي سهري على راحتهما ورعايتي لهما طوال السنين الماضية وتريدان أن تعيشا معي أو بالقرب مني ليهتما بي واهتم بهما .. ووجدت الدموع تترقرق في عيني من شدة التأثر وغمرتني الفرحة والسعادة إلى حد لم أتخيله من قبل .. واستنشقت نفسا طويلا كأني أستعيد به نسيم الحياة .. ونهضت بنشاط غريب فأديت ركعتي شكر لله، وأنا أتمتم بلا توقف .. "إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا" .. فقد كافأني الله على رعايتي لابنتي في طفولتهما بعودتهما إلي في شبابهما .. فالحمد لله كثيرا .. وسبحانه بكرة وأصيلا.
وأنا الآن يا سيدي استعد للحاق ابنتي لكي أعيش بقربهما وأرعاهما في هذه المرحلة الحرجة من العمر التي يحتاجان فيها إلى قلب الأم وعقلها ورعايتها .. وتحتاج لهما الأم أكثر .. أما من ظلمني واغتصب حقي وحرمني من ابنتي فلقد علمت مؤخرا أنه قد خسر كل ماله وأصاب الكساد تجارته وتركه العاملون وقدموا شكاوى ضده لعجزه عن دفع أجورهم .. فعرفت أن عدالة السماء لا تنام .. وأن المال الحرام لا يربح أبدا في النهاية كما كان يقول أبي صادقا طوال حياته رحمه الله وعفا عني وعن الجميع .. ولقد كنت طوال السنوات الماضية اتعزى بما أقرأه في بابك من هموم المهمومين عن وحدتي وحرماني من ابنتي .. حتى جاء فرج الله .. فقررت أن أكتب قصتي لك لعل بعض المهمومين يجدون فيها ما يتعزون به عن آلامهم .. أو يستفيدون منه والسلام.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـاتــبة هــذه الـرســالـة أقــــول:
بآلامنا يا سيدتي نتعلم فن الحياة الذي قد يفنى العمر وما تعلمنا منه إلا أقل القليل .. وفي رسالتك الكثير والكثير مما يستحق أن نتعلمه ونستفيد منه أوله هو أن نتحفظ قليلا فيما يتولانا أحيانا من حنق وضيق شديدين بأعزائنا حين يعارضوننا في رغباتنا وأهوائنا فتعمينا الرغبة المتأججة في نيل ما نريد ليس فقط عن صوت الحكمة في منطقهم بل وعن ادراك نبل دوافعهم لمعارضتنا حتى لقد نكرههم جهلا وحمقا في بعض الأحيان ونضعهم في معسكر الخصوم , ثم قد تثبت لنا الأيام بعد حين كم ظلمناهم حين أنكرنا عليهم موقفهم وعمينا عن تجردهم من أي غرض سوى ما يرونه في صالحنا وسعادتنا .. والمؤسف أننا لا ندرك هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان وربما بعد رحيل الأعزاء .
أما ما تولاك من ذهول افقدك القدرة على الدفاع عن نفسك حين احكم زوجك السابق تدبيره وانتزع منك حق رعاية ابنتيك فضلا عن حقوقك المادية , فلقد توقفت أمامه متأملا ومتفكرا .
نعم يا سيدتي إن في الحياة أشخاصا يعقل "الإحساس بالظلم الشديد الواقع عليهم" لسانهم وتفكيرهم فلا ينشطون للدفاع عن أنفسهم ورد هذا الظلم عنهم , بعكس المفترض فيمن يتعرض للافتراء الشديد , وللأسف فإن هذا العجز يُعين غالبا خصومهم عليهم ويعتبرونه عجز الخذلان والاقرار بما يفترونه عليهم , وهو في الحقيقة عجز المرارة والضيق الشديد بما هوت إليه بعض النفوس من حضيض .. إنه عجز نبيل شبيه بعجز سيد شباب أهل الجنه الحسين بن علي حين يئس من النجاة وهو محاصر بقتلته فزفز قائلا : " كل ما حُم نازل عند الله نحتسب أنفسنا وظلم الظالمين لنا " .. فلا نامت أعين الجبناء والمفترين فى كل زمان وأوان.
أما الدرس القديم الجديد فهو أن الشر لا ينتصر إلى النهاية .. والخير لا ينهزم إلى النهاية أبدا , ومهما بدا لنا في بعض الأحيان عكس ذلك .. ذلك أننا كما يقول صادقا أمير الرواية العربية نجيب محفوظ في أحد أعماله , لا نشهد من الزمان إلا اللحظة الراهنة ويحول الموت والعجز بيننا وبين أن نشهد الجولة الأخيرة التي لابد أن ينتصر فيها الخير ويهوى الشر خاسرا مدحورا .. ولعل هذه الحقيقة البديهية التي تغيب عنا أحيانا هي سر ما يبدو لنا في الحياة أحيانا من تناقضات خادعة توهمنا بأن بعض الأشرار في نعيم وبعض الاخيار في جحيم .. في حين أننا لا نشهد من الزمان سوى اللحظة الراهنة ولا نعرف ماذا سيكون من أمر هؤلاء وهؤلاء لو طال الزمن .. وشهدنا جولاتهم الأخيرة .
وقد كان من رحمة ربك بك يا سيدتي أن سمح لك الزمان بشهود لحظة استواء الميزان المائل .. ولحظة الاعتبار بعثرة شريكك السابق فيما اغتصب من حقوقك ولحظة السعادة بعودة ابنتيك إليك واعترافهما بفضلك وحاجتهما إليك .. فإن كانت عيناك قد اغرورقتا بالدمع حين لمست عرفانهما لك وسرى دبيب الحيوية والنشاط في عروقك وقتها فلقد عرفت بالدليل أيضا أن الله لا يضيع أجر المتقين وأن جوائز السماء والأرض تنتظر المحتسبين الصابرين .. فلتمتني إذن بجائزتك العادلة ولتطب أيامك وليرع الله ابنتيك ويعوضك فيهما خيرا كثيرا .. وشكرا لك على رسالتك المفيدة .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر