الانتقام الشهي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

الانتقام الشهي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003 

الانتقام الشهي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003


 

بعض مواقف الحياة تذكرني بما يرويه الرواة عن الحوار الذي جري ذات يوم بين الإسكندر الأكبر ومعلمه الفيلسوف أرسطو قبل أن يبدأ حملته الكبرى‏,‏ حين راح الإسكندر يحدثه عن طموحاته وأحلامه فسأله أرسطو عما يريد أن يفعل‏,‏ فأجابه بأنه يريد أن يستولي أولا على كل المقاطعات والممالك اليونانية ويبسط سلطانه عليها
فسأله‏:‏ وماذا بعد ذلك؟
فأجاب‏:‏ أنطلق إلى الشرق فأخضع مصر والشام وفارس‏.‏ فسأله أرسطو‏:‏ وماذا بعد ذلك؟
فأجاب‏:‏ أنطلق إلى الهند والصين فاخضعهما‏.‏
فسأله‏:‏ وماذا بعد ذلك
فأجاب‏:‏ ارجع إلى بلدي وأهدأ واستريح‏!‏
فسأله أرسطو في هدوء‏:‏ وماذا يمنعك من أن تهدأ وتستريح من الآن؟

عبد الوهاب مطاوع

  
كنت فتاة كغيري من الفتيات تتمنى فارس الأحلام وتنتظر اللحظة التي تتزوج فيها وتحيا في سعادة مع زوجها وتنجب الأطفال، وتكتشف الجانب الآخر من الرجل‏..‏ وتقدم لي الطبيب والمحامي والمهندس والمدرس ‏..‏ لكني اخترت الضابط لأني سعدت ببدلته الميري وأملت فيما تمثله في مخيلتي من رمز للرجولة‏..‏ وتزوجنا وبدأت المأساة منذ الليلة الأولى ‏..‏ وظللت زوجة عذراء ‏40‏ يوما‏ ..‏ وزوجي يتهمني بأنني لا أساعده‏,‏ وأنا حائرة في أمري‏ ..‏ ثم انتهى بنا الأمر إلى اللجوء إلى الطبيب لحل المشكلة‏..‏ ولم يغير ذلك من الأمر في شيء‏..‏ وبعد عدة شهور أخبرني زوجي أنه يائس من الحياة ولا يستطيع شيئا‏..‏ فاستسلمت لأقداري ومضت بنا الحياة وهو يحمل لي كل الحب والاحترام والتقدير والعرفان بالجميل‏ ..‏ ويقول لي إن الله قد ستره بي ويبكي ‏..‏ وأنا أطمئنه إلى أنني سأقف إلى جواره طوال العمر‏,‏ لأن كلا منا هو نصيب الآخر من الدنيا‏..‏ ولابد أن نسعد بما اختارته لنا الأقدار‏..‏ وأفاض علي زوجي من حبه وحنانه‏..‏ ورضيت بذلك وسعدت به‏,‏ وبعد عام أنجبت طفلة جميلة سعدنا بها كثيرا وطار زوجي بها فرحا‏,‏ وقال إنها ستر من السماء له أمام الناس‏ ..‏ ومضت حياتنا بعد ذلك هادئة‏..‏ وبعد خمس سنوات أنجبت طفلة أخرى وكرست حياتي لتربية الطفلتين عشرين سنة‏,‏ وهو يعدني من حين لآخر بأنه سوف يطلب العلاج لحالته‏..‏ وأنا لا أضغط عليه في هذا الأمر لكيلا أجرح مشاعره‏.

 

 وكبرت الابنتان والتحقتا بالجامعة ولا أحد خارج نطاق زوجي وأنا يعرف عنا أي شيء سوى أننا زوجان متحابان ومتفاهمان‏..‏ وفجأة اكتشفت وبعد 23‏ سنة من الزواج والكتمان أن زوجي الفارس الذي حفظت سره وراعيت مشاعره متزوج من أرملة من قريباته منذ ثلاثة أعوام‏..‏ وأن أهله جميعا يعرفون ذلك ويتكتمونه عني حرصا على مشاعري ولكيلا أهدم أسرتي كما قالوا‏.‏

والأغرب من ذلك أن هذه السيدة كانت تزورني وهي زوجة لزوجي وأستقبلها بكل الترحاب باعتبارها إحدى سيدات الأسرة‏,‏ وأرد لها الزيارات في بيتها وأمضي معها أنا وزوجي الوقت الطويل‏,‏ بل لقد حضرنا معا زفاف أحد الأقارب وجلسنا إلى مائدة واحدة مع زوجي‏,‏ وكل من في الحفل يعرف أنها زوجة ثانية له إلا صاحبة الحق الشرعي في أن تعرف ذلك من البداية وهو أنا‏!‏
وانفجرت براكين غضبي وثورتي حين علمت بكل ذلك وواجهته فلم يجد ما يدافع به عن نفسه سوى أنها غلبانة ومريضة‏,‏ وكأنه "سامحه الله"  قد عف زوجته الأولى وأم أبنائه وبقي لديه ما يفيض به على أخرى‏,‏ وهرولت إلى المرأة الأخرى أعاتبها على عدوانها على حقي وخداعها لي طوال السنوات الثلاث الماضية وأسألها لماذا فعلت ما فعلت‏..‏ وماذا أرادت من زوجي‏..‏ وهو كما تعرف وأعرف؟‏!‏ فأجابتني في هدوء أنها قد زهدت الزواج مع زوجها الراحل ولا تريد سوى رجل يؤنس حياتها ويدخل إليها ويخرج من بيتها‏..‏ وأنها تأمل في أن نكون أختين متحابتين بالرغم مما حدث‏!‏ وازدادت النار اشتعالا في جسدي‏..‏ وطلبت من زوجي أن يطلقها فرفض ‏..‏ وطلبت منه أن يطلقني فرفض أيضا بإصرار‏,‏ وأراد أن يجمع بيننا ووقفت مذهولة أمام منطقه لتبرير ما فعل بي‏ ..‏ فلقد قال لي مدافعا عن نفسه إن الرجل الذي ينكسر أمام زوجته فإنه يكرهها ولابد له من أن يكسرها ذات يوم ويقوم بإذلالها بامرأة أخرى‏!!‏

ولم أطق صبرا بعد أن سمعت ذلك وكررت عليه طلب الطلاق فرفض‏,‏ فقمت برفع قضية خلع ضده‏..‏ وما أن علم هو بنبأ القضية وجديتي فيها حتى سارع بتطليق الأرملة طلاقا بائنا‏,‏ وعاد إلى بيته وهو يطالبني بحسن رعايته لكيلا يفر مني مرة أخرى‏!‏
واستقرت الأسرة من جديد وهدأت البنتان من الناحية النفسية‏ ..‏ لكني لم أهدأ بعد‏..‏ ولم يخمد لهيب ناري‏,‏ فأنا مصرة على عقابه بالخلع أو الطلاق على الإبراء‏..‏ وفي كل يوم وكل لحظة أفكر كيف فعل بي ذلك هو وأهله‏,‏ وكيف سمح لنفسه بأن يذلني بامرأة أخرى ويكسرني على هذا النحو‏..‏ إنه رجل لا يستحق الرحمة فقد خدعني أنا وبناتي وأهلي مع أني كنت سترا عليه‏,‏ وتنازلت عن حقي الشرعي لديه طوال رحلة العمر‏..‏ إنني أرجوك ألا تطالبني بالتنازل عن الخلع أو الطلاق على الإبراء لأني لن أفعل‏,‏ ولأني مصرة على أن أعاقبه بأحدهما أولا‏,‏ فإذا عرف قدري بعد ذلك وشعر بأنه لا غنى له عني فلسوف أعود إليه بعد أن أكون قد أخذت حقي منه‏,‏ ونصيحتي لكل فتاة ألا تتنازل عن حقوقها الشرعية لدى زوجها‏,‏ وأن تعلم أن من لا يؤديها إليها قد يكون مريضا نفسيا‏,‏ وقد يبدأ انتقامه منها بعد فوات الأوان .. كما فعل معي زوجي‏!‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

أنت محقة في ثورة غضبك على زوجك وانفجار براكينك ضده‏,‏ فلقد أساء إليك بالفعل حيث كان ينبغي له أن يحسن ويحفظ لك الجميل‏,‏ وطعن مشاعرك في الصميم ليس فقط بزواجه من أخرى دون أن يصارحك بذلك من البداية ويخيرك بين الاستمرار معه أو الانفصال عنه‏,‏ وإنما أيضا بأن رضي لك الظهور بمظهر الزوجة المخدوعة التي يعلم كل من حولها بخديعتها ويشفقون عليها من اكتشافها‏,‏ وتمادى في هذا الخداع إلى حد اصطحابك لزيارة زوجته الأخرى‏,‏ أو استزارتها في بيتك والجلوس معها إلى مائدة واحدة في حفل عام‏,‏ دون أن تعرفي حقيقة علاقته بها‏..‏ وفي ذلك قمة الخداع والإساءة لشريكة العمر أمام الآخرين‏.‏
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد ذلك هو ماذا تستهدفين من الإصرار على الانفصال عنه بالخلع أو الطلاق؟

هل ضاقت نفسك بعشرته نهائيا فلم تعودي قادرة على احتمال الحياة معه يوما آخر بعد ما كان من أمره معك؟
لو كان الأمر كذلك لأصبح الانفصال عنه مفهوما أو مبررا‏,‏ لكنك تقولين أنك تصرين على خلعه أو الطلاق منه لإشعاره بفداحة جرمه‏.‏ فإذا أحس بعد ذلك بحاجته إليك وبأنه لا غنى له عنك فلسوف تعودين إليه وتستأنفين حياتك معه‏.‏ وبالتالي فهو انفصال لا مبرر له سوى العقاب والاستسلام لشهوة الانتقام على طريقة الشاعر الإغريقي هوميروس حين قال‏:‏ الانتقام أشهى من العسل‏!‏ ولو كان الأمر يتعلق بك وحدك لوافقتك على ما تعتزمين‏..‏ بل ولربما طالبتك بأن يكون انفصالك عنه نهائيا وليس مؤقتا ولا محدد المدة‏,‏ لكن الأمر لا يتعلق بك وحدك وإنما أيضا بابنتين شابتين هدأت خواطرهما أخيرا بعد هذه العاصفة التي اجتاحت حياتهما‏..‏ ورجعتا للاطمئنان إلى يومهما وغدهما في ظلال أسرة مستقرة وبين أبوين‏,‏ يجمعهما سقف واحد‏.‏ فما معنى تكدير صفوهما مرة أخرى بهدم الأسرة وانفصال الأبوين وهما لا جريرة لهما فيما فعل أبوهما‏..‏ ولا ذنب لهما أيضا في أقداره التي دفعته للإقدام على هذا الزواج الثاني لإيهام النفس والمحيطين به بجدارته بدليل قدرته على الزواج من اثنتين وليس من واحدة فقط‏!‏

إنها حيلة نفسية دفاعية‏..‏ مفهومة دوافعها ومبرراتها‏,‏ ولقد تدعو إلى الإشفاق عليه بأكثر مما تدعو للانتقام منه‏..‏ ذلك أن هاجس احتمال النجاح مع امرأة أخرى قد يلاحق بعض المعذبين والمحكومين بأقدارهم فيوردهم موارد العناء‏,‏ ولقد انتصرت لكرامتك‏..‏ ورفع زوجك الراية البيضاء وطلق الأخرى ورجع إليك نادما أو مهزوما حتى ولو كابر بطلب إحسان عشرته لكيلا يفر منك مرة أخرى‏,‏ فلماذا تريدين استقضاء رطل اللحم منه كاملا كما أراد المرابي اليهودي شايلوك أن يفعل في مسرحية شكسبير الخالدة تاجر البندقية؟ انك كما فهمت من رسالتك في الحادية والخمسين من عمرك وليست لديك أية خطة لأن تبدئي حياتك من جديد بعد الانفصال‏,‏ وإصرارك على الانفصال عن زوجك بالخلع أو الطلاق الآن ولفترة ما حتى ولو كان بهدف التأديب والتهذيب والإصلاح فإنه يحمل معه مخاطر غير محسوبة إذ يجعل عودة الأمان والاستقرار إلى حياتك وحياة ابنتيك رهينة بطرف آخر سواك‏,‏ هو زوجك فإن شعر بحاجته إليك عاد‏.‏ وإن تحقق لديه الأثر العكسي لإصرارك على عقابه بعد استسلامه لك واصل حياته بعيدا عنك وعن ابنتيه‏..‏ وربما رجع إلى الأرملة التي تقبل بظروفه وترحب به فمن سيكون الخاسر في هذه الحالة إذن سوى ابنتيك؟

ومادمت لا تخططين سوى لعقابه وإشعاره بأهميتك في حياته وتعتزمين العودة إليه في النهاية أفلا يذكرنا ذلك بما يرويه الرواة عن الحوار الذي جري ذات يوم بين الإسكندر الأكبر ومعلمه الفيلسوف أرسطو قبل أن يبدأ حملته الكبرى‏,‏ حين راح الإسكندر يحدثه عن طموحاته وأحلامه فسأله أرسطو عما يريد أن يفعل‏,‏ فأجابه بأنه يريد أن يستولي أولا على كل المقاطعات والممالك اليونانية ويبسط سلطانه عليها
فسأله‏:‏ وماذا بعد ذلك؟
فأجاب‏:‏ أنطلق إلى الشرق فأخضع مصر والشام وفارس‏.‏ فسأله أرسطو‏:‏ وماذا بعد ذلك؟
فأجاب‏:‏ أنطلق إلى الهند والصين فاخضعهما‏.‏
فسأله‏:‏ وماذا بعد ذلك
فأجاب‏:‏ ارجع إلى بلدي وأهدأ واستريح‏!‏
فسأله أرسطو في هدوء‏:‏ وماذا يمنعك من أن تهدأ وتستريح من الآن؟
وبنفس هذا المنطق أتساءل‏:‏ ماذا يمنعك من أن تصبري على نفسك حتى تهدأ خواطرك وتخمد نيرانك ثم تواصلي حياتك مع زوجك وابنتيك كما ارتضيتها طوال‏23‏ عاما بلا هدم للأسرة ولا قلاقل لحياة الأبناء‏.‏ إن على زوجك خلال هذه الفترة أن يصبر عليك ويتحمل ما يمور في أعماقك من تفاعلات ضده‏..‏ وأن يبذل كل جهده لتقديم الترضية الكافية لك‏..‏ ولا داعي للطلاق بنية العودة إلي نفس الزوج بعد حين‏!‏

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات