الابتسامة المجهدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

 الابتسامة المجهدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

الابتسامة المجهدة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

هناك أشخاص كتبت عليهم التضحية باعتباراتهم الشخصية من أجل أعزائهم من البداية إلى النهاية‏..‏ وهم إذا قدموا حسابهم الختامي مع الحياة أدركنا على الفور أنهم قد أعطوا الكثير ولم يأخذوا إلا أقل القليل‏..‏ ولم ينتظروا حتى هذا القليل‏..‏ ولم يأسوا على ما فاتهم إدراكه منه.
عبد الوهاب مطاوع

أنا شاب في منتصف الثلاثينات‏,‏ بدأت معاناتي في الحياة وأنا طفل في سن الثالثة من العمر حين أصبت بمرض شلل الأطفال اللعين‏,‏ وبعد مرضي بعدة أشهر رحلت أختي الوحيدة‏ عن الحياة‏,‏ ثم انفصل أبي عن والدتي خلال نفس العام وتزوج من أخرى ورحل بها إلى دولة عربية إفريقية للعمل بها في حرفته‏,‏ وانقطعت عنا أخباره‏,‏ ووجدت أمي نفسها وهي في الخامسة والعشرين من عمرها مطلقة لا عائل لها وأما لطفل مريض بشلل الأطفال‏,‏ فودعت المدينة التي شهدت حياتها الزوجية القصيرة ورجعت إلى بيت أبويها بالقرية‏..‏ وبدأت معركتها مع الحياة لإعالتي وإعالة نفسها‏,‏ فحملت عن أبيها المسن عناء العمل في قطعة الأرض الصغيرة التي يملكها‏,‏ وراحت تخرج فجر كل يوم إلى الأرض لتقوم فيها بما ينوء به الرجال من أعمال وترجع في العصر إلى البيت لتساعد أمها الكفيفة في أعمال المنزل‏..‏ ثم تجلس بجواري لتراجع معي دروس المدرسة وتشرح لي ما يصعب علي فهمه في رفق شديد وحنان غامر‏,‏ ولا أرى منها سوى الابتسامة الدائمة التي تشي بإجهادها وعنائها أكثر مما تشي بابتهاجها‏..‏ فلا تنام حتى ينام الجميع ولا ينتهي يوم عملها الذي يبدأ في الفجر إلا بعد منتصف الليل.

 

 وهكذا  مضت بها الأيام وهي في كفاح مضن في الأرض وفي البيت‏,‏ لا يخفف من معاناتها شيء سوى نجاحي بتفوق في الدراسة‏,‏ وواصلت أنا النجاح حتى حصلت على الثانوية العامة والتحقت بجامعة القاهرة‏,‏ وفارقتها لأول مرة في حياتي‏,‏ وغابت عني ابتسامتها المجهدة‏,‏ وتولى رعايتي في القاهرة أحد أعمامي‏..‏ وأمضيت عامين مستمتعا بعطفه والإقامة في بيته‏,‏ ثم توفي إلى رحمة الله واضطررت إلى الإقامة بالمدينة الجامعية‏,‏ وواصلت كفاحي في الحياة حتى حصلت على البكالوريوس وسعدت أمي بذلك سعادة طاغية‏..‏ لكن فرحتها بجني ثمار شقائها لم تدم طويلا للأسف فقد أصيبت بالتهاب حاد في عينيها فقدت على أثره الإبصار بعينها اليمنى‏,‏ وضعفت إلى حد كبير قوة الإبصار بعينها اليسرى لكنها تماسكت كعادتها أمام الشدائد‏..‏ وطلبت مني مواصلة الكفاح للبحث عن عمل لكي أسعدها بالاطمئنان على مصيري في الحياة‏..‏ ورحت أنا أطرق الأبواب بحثا عن عمل إلى أن وفقني الله للعمل بإحدى الجهات الحكومية المرموقة بالقاهرة‏..‏ وهنا ظهرت مشكلة أخرى هي‏:‏ كيف أواجه الحياة في العاصمة وأنا بلا سكن فيها ولا أقارب يستطيعون استضافتي لبعض الوقت في مساكنهم‏..‏؟

 

 وبدت لي هذه المشكلة مستعصية على الحل‏..‏ لكن أمي التي ألفت مواجهة الشدائد والصمود لها قدمت لي الحل المستحيل ولم تتردد في التضحية بكل ما ورثته عن أمها من بضعه قراريط من الأرض فباعتها ودفعت لي ثمنها مقدم الإيجار لشقة بإحدى المناطق العشوائية بالجيزة‏,‏ ودفعت لي أيضا مقدم ثمن أثاث لأحد المعارض التي تبيع الأثاث بالتقسيط لكي استطيع الزواج‏,‏ على أن أقوم بسداد باقي الأقساط من مرتبي‏..‏ ورشح لي بعض المعارف فتاة تصغرني بعشرة أعوام وارتبطت بها وبدأت حياتي الزوجية معها وبدأت أمي تشعر بالاطمئنان علي وتوصي بي زوجتي خيرا‏,‏ لكن زوجتي ـ ولا أدري سببا لذلك حتى الآن ـ بدأت ومنذ الأيام الأولى تشعر بنفور غريب من أمي وترفض نصائحها لها كلما جاءت إلى زيارتنا محملة بالخيرات التي تخفف عنا عبء الحياة خاصة أننا قد بدأنا حياتنا الزوجية بدفع أقساط الأثاث التي مازلت أعاني منها حتى الآن‏.‏


وكان من نتائج هذا النفور أن تباعدت زيارات أمي لي في القاهرة‏,‏ وقصرت الفترات التي تقضيها معنا فيها‏..‏ ثم تطورت الأحداث سريعا عقب زواجي فأنجبت زوجتي طفلة تجاوزت الآن الرابعة من عمرها وطفلا تجاوز العامين‏,‏ ثم اشتد ضعف إبصار أمي بالعين اليسرى .. وقرر الأطباء إجراء جراحة لزرع القرنية بها‏,‏ لكن قضاء الله كان أسبق من جهودهم‏,‏ وانطفأ النور في عينها الوحيدة التي كانت تبصر بها الدنيا وأصبحت تتخبط في الظلام ببيتها في الريف وما يؤلمني حقا يا سيدي وأشعر بالعجز والقصور أمامه هو أن أمي للأسباب التي شرحتها لك‏,‏ ترفض الإقامة معي في بيتي بالقاهرة بإصرار شديد‏..‏ وتفضل أن تحيا وحيدة في مسقط رأسها وبيتها الذي شهد قصة كفاحها الطويلة على أن تكون سببا في هدم حياتي العائلية وتمزيق أطفالي بين أبويهما‏.‏




ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

حرمان طفليك من الحياة العائلية الآمنة لن يسعد أمك‏,‏ ولن تجد فيه ما تتوهمه أنت من رد لتضحياتها من أجلك‏,‏ فلقد خبرت جيدا مرارة انهيار الأسرة وحرمان الأطفال الصغار من الاستقرار العائلي ومظلة الأب الحامية لهم من صواعق السماء‏,‏ ولن ترضى أبدا بأن تتكرر مع حفيديها مأساة ابنها الوحيد مع الحياة‏.‏
كما أن هذا الحل المدمر ليس هو الوسيلة المثلى للبر بأمك أو رد تضحياتها لك‏,‏ وإنما يكون ذلك بإقناع زوجتك بالرفق بأمك وتقدير ظروفها وضعفها وعجزها‏,‏ والاشتراك معك  في الإلحاح عليها بأن تقبل ضيافتكما لها ولو إلى أن تسمح لها الظروف بإجراء الجراحة المنتظرة واسترداد بصرها‏,‏ والزوجة التي ترعى حدود ربها وترجو لأبنائها أن يبروها في ضعفها وشيخوختها لا تشجع زوجها على التقصير في أداء واجباته تجاه أمه‏,‏ ولا تضرب لأبنائها المثل السلبي في هذا المجال بنفورها من أم زوجها‏,‏ أو عدم إعانته على البر بها وأداء واجباته الإنسانية تجاهها‏..‏ إذ ليس من المتوقع في أغلب الأحوال من أبناء شهدوا عن قرب جحود أبيهم لأبويه أو تقصيره في أداء حقوقهما عليه أن يخالفوا قانون الحياة ويشبوا علي البر بهذا الأب الجاحد لأبيه أو أمه‏..‏ كذلك الحال مع أمهم التي لم ترع حقوق أبويها أو حقوق والدي زوجها إذ كيف يكتسب الأبناء مثل هذه القيمة الأخلاقية وقد لمسوا نقيضها في أقرب الناس إليهم؟ وكيف ترق مشاعرهم لأبويهم في الكبر وقد خبروا جفاء مشاعر أحد الأبوين لأجدادهما؟


وزوجتك بنفورها من والدتك مهما كانت أسبابها لذلك فإنها لا تعينك على الوفاء لها بدينها عليك‏,‏ ولا تعين طفليها كذلك على احترام قيمة البر بالأبوين والرفق بهما في قادم الأيام‏..‏ فكرر المحاولة من جديد مع زوجتك لكي تشاركك محاولة إقناع والدتك بالانضمام إليكما‏,‏ وإني لعلى ثقة من أن والدتك المضحية المنكرة لذاتها من أجل ابنها كما يؤكد سجلها مع الحياة لن تقبل بمثل هذه الضيافة ولن ترغب في أن تثقل بواجب رعايتها علي زوجتك‏..‏ التي أبدت هذا الجفاء المبكر تجاهها‏..‏ ليس فقط لأنها قد خبرت هذا الجفاء وتألمت له في صمت وفضلت الانزواء في بيتها ووحدتها وإنما أيضا لأنها من هؤلاء الأشخاص الذين كتبت عليهم التضحية باعتباراتهم الشخصية من أجل أعزائهم من البداية إلى النهاية‏..‏ ومن  هؤلاء الأشخاص الذين إذا قدموا حسابهم الختامي مع الحياة أدركنا على الفور أنهم قد أعطوا الكثير ولم يأخذوا إلا أقل القليل‏..‏ ولم ينتظروا حتى هذا القليل‏..‏ ولم يأسوا على ما فاتهم إدراكه منه‏..‏

ولهذا فان مشكلة والدتك الحقيقية ليست في المكان الذي تقيم فيه وهي في ضعفها وعجزها المؤلم الآن‏..‏ وإنما في الشعور بصدق الرغبة من جانبك في العطاء لها والاستعداد للتضحية من أجلها‏,‏ وأقول صدق الرغبة ولا أقول صدق الفعل لأنها لن تسمح لك بالتضحية من أجلها ولن تقبلها منك‏..‏ وإنما يرضيها فقط أن يستقر في ضميرها أن كل تضحياتها من أجلك لم تذهب هباء‏,‏ وان ابنها علي استعداد صادق لان يضحي من أجلها‏..‏ ولو تكبد العناء في حياته الشخصية إرضاء لها‏,‏ فتسعد هي بهذا الاستعداد وحده وتتعفف عن قبول التضحية‏..‏ لأنه هكذا الآباء والأمهات الأسوياء الذين فطرهم خالقهم علي العطاء لأبنائهم بغير أن ينتظروا منهم مقابلا لهذه التضحيات‏..‏ فابذل جهدك الصادق لإشعار والدتك بذلك ولن تطالبك هي بأكثر منه‏.‏


أما الجراحة التي تأمل في إجرائها لوالدتك فأرجو ألا يكون الأوان قد فات بالنسبة لها وان تكون حالتها الصحية مازالت تسمح بالأمل فيها فتفضل بزيارتي مساء الاثنين ومعك الملف الطبي الخاص بها وحبذا لو اصطحبت معك زوجتك الشابة في هذه الزيارة‏..‏ لعلي استطيع مشاركتك في إقناعها بتعديل موقفها السلبي هذا من والدتك‏..‏ وأعانتك علي البر بها‏..‏ والسلام‏.‏

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1998

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات