الطائر البعيد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

الطائر البعيد .. رسالة من بريد الجمعة 1992

الطائر البعيد .. رسالة من بريد الجمعة 1992


إن مشكلتنا ليست من المآسي التي أقرأ عنها في هذا الباب .. لكنك أنت أيضا يا سیدی الذي قلت أن كل ما يتعلق بالإنسان من شئون وشجون يستحق منا الاهتمام والاحترام ولو كان بسيطا وبهذا المنطق الذي أحببته أروي لك قصتنا .

لقد تفتحت عيناي فوجدت نفسي طفلة تلعب بين ثلاثة أشقاء يكبرني أخ وتليني أختان صغيرتان ولم أجد في بيتنا سوى أمي التي طلقت من أبي فترك لها الشقة بما فيها ، ثم هاجر إلى مدينة أخرى واستقر بها وتزوج واختفى من حياتنا نهائيا كأنه لم ينجبنا ولم يعرفنا وفي هذه البيئة نشأت فرأيت أمي مهمومة دائما بتوفير لقمة العيش لنا .. تتردد على أهل أبي تطالب بنفقة أبنائها فتعود مرات خائبة الرجاء وتعود ببضعة جنيهات مرة كل عدة شهور ، وينصحها البعض باللجوء إلى المحكمة فترفض حتى لا تقطع الشعرة الأخيرة بينها وبين أهل أبي حرصا على مستقبلنا وتقوم بكل ما تستطيع أن تقوم به أم مكبلة بأربعة أولاد لتكسب بضعة قروش توفر بها مطالبنا من الخياطة .. إلى رعاية أطفال العمارة القديمة التي نسكن بها خلال فترة عمل أمهاتهن مقابل أجر زهيد تتقبله شاكرة ولا تساوم فيه أبدا إلى تدميس الفول على موقد "یوش"  طول الليل ويحرمنا من النوم لنأكله ، وهو طعامنا الرئيسي ولتبيعه لمن يرغب من الجيران بأرخص من سعر المحل ، ويشتريه منا جيران السكن ليس فقط إشفاقا على حالها ، وإنها لثقتهم التامة في نظافتها .. فقد كنا رغم فقرنا البشع وبساطة ملابسنا آية في النظافة وشقتنا "تبرق"  دائما من نظافتها رغم الأثاث القليل المتهالك ولا أنسی في طفولتي حين انتقل إلى عمارتنا القديمة ساكن جديد لا يعرف ظروفنا وكان متزوجا حديثا ويبدو متعاليا ومتغطرسا وشکا من "وش" الموقد أثناء الليل وعرف حكاية الفول ، فإذا به يشكونا في قسم الشرطة بأننا نزعج السكان ونعرض العمارة لخطر الحريق.

وجاءنا شرطي يستدعی أمي للقسم لسؤالها فارتعشت من الخوف وبكت وبكينا معها وصرخنا عاليا والشرطي يحاول طمأنتها بأن الأمر بسيط ولا يعدو بضعة أسئلة بلا جدوى حتى خرج السكان من شققهم وعرفوا الحكاية وغضبوا لها جدا .. وإذا بثلاثة من جيراننا الأفاضل وأحدهم كان في هذا الوقت معاون نيابة شابا والآخر مهندسا والثالث مدرسا يطلبون من الشرطی الانتظار ، ثم يرتدون ملابسهم ويذهبون مع أمي إلى قسم الشرطة ويواجهون الساكن الجديد بأنهم مرتاحون جدا لوش موقد الست أم حسين وعلى استعداد لأن يأتوا بباقي السكان ليشهدوا بذلك ثم ينهالوا عليه لوما وتقريعا أن وقف ضد امرأة ضعيفة تعول 4 أطفال لا عائل لهم، وتكافح لتوفير لقمة العيش الشريفة لهم وشاركهم ضابط الشرطة بعد أن عرف القصة في تأنيبه ، فلم يملك إلا أن يتنازل عن الشكوى ، وسبحان الله الذي لا يتخلى عن عباده الضعفاء فإن هذا الساكن الذي كان يبدو متغطرسا قابل أمي على السلم بعد ذلك بأيام فبادرها بالتحية ثم قال لها "سماح يا ست أم حسين" لأني لم أكن أعرف ظروفك، فسامحته بنفس راضية وجاءتنا زوجته العروس الجديدة أيضا تعتذر ثم أصبحت من زبائننا المستديمين في طلب الفول، وبعد أسابيع اصطحب هذا الساكن أمي إلى محل عمر افتدى واشترى لها بوتاجاز مصانع صغيرا بالتقسيط باسمه وكان أول موقد بوتاجاز يدخل بيتنا ودفع لها مقدم الثمن مقابل خصمه من حساب الفول .

وبدأت تدفع أقساطه لزوجته كل شهر ثم أنجب مولودا فأقامت أمي له "السبوع"  في شقتهم وبعد انتهاء أجازة الوضع ورعاية المولود أصبحت زوجته تتركه عندنا وتذهب مطمئنة إلى عملها ، وما محبة أحيانا إلا بعد عداوة .

 

المهم يا سيدي أن أمي لم تترك شيئا تستطيع أن تفعله لإطعامنا وتعليمنا إلا وفعلته وحين بلغ شقيقي الأكبر سن الثانية عشرة بدأ يعمل طوال الأجازة في أي عمل إلى موعد الدراسة . أما أبي وهذا هو أعجب شيء رأيته أو سمعت عنه فقد اختفى من حياتنا نهائيا ولم يفكر يوما واحدا في زیارتنا أو رؤيتنا وظل كذلك إلى أن مات وعمر أكبر أشقائی 16 سنة ، ولم نعرف بوفاته إلا بعدها بشهور ولم نحزن عليه وكيف نحزن على من لا نعرفه ولم نر من عطفه أو حنانه شيئا أو كيف نحزن على من نشأنا ونحن لا نسمع ذكره من أمنا إلا مرتبطا بكلمة "النذل" الذي تخلى عن زوجته وأطفاله الأربعة جريا وراء أرملة لعوب تعرف بها

ونقل عمله إلى مدينتها وعاش معها حتى مات ، رغم أن أمي كانت شابة وجميلة أيضا.

 

ومضت الأيام بنا حتى وصل شقيقي الأكبر إلى الثانوية العامة فرسب فيها لأننا غير قادرين على توفير الدروس الخصوصية له وفي العام التالي نجح بمجموع ضعيف لا يؤهله للالتحاق بالجامعة وأشار علينا الجيران بأن يلتحق بأي معهد لمدة سنتين لكن شقيقي فاجأنا بشیء حول هدوء حياتنا إلى جحيم فلقد قرر السفر إلى أوروبا ليعمل هناك . وفجعت أمي فيه فجيعة كبرى وهو الذي كانت تحلم بأن يتحمل عنها مسئولية إخوته ويكون رجل الأسرة التي بلا رجل .. ثم كيف يسافر .. ومن أين يأتي بثمن التذكرة وكيف يتخلى عن أخواته البنات ؟

وأصبح العويل والبكاء هو المشهد اليومي في حياتنا ، ولم تنجح جهود الجيران في إقناعه حتى صاحت أمي بائسة منه مطالبة بأن ندعه لنفسه لأنه "نذل" کأبيه ويريد أن يهرب من مسئوليته عن ۳ بنات وأمهن ، يتركنا وهو رجل الأسرة الوحيد وخاصمته خصاما نهائيا ، ومضى أخي في الإجراءات بجنيهات قليلة كان يدخرها من عمله في الصيف ثم طلب مني قطعة الذهب الوحيدة التي كنت أمتلكها وهي غويشة خفيفة ولم استطع رغم معارضتي لسفره أن أرفض منحها له ثم سافر للإسكندرية ، ورفضت أمي أن تصافحه وهو يغادرنا بينما بكينا نحن طويلا ، ورفضت أنا مرافقته لمحطة القطار فرافقته شقيقتي الأصغر مني واعترف لها في المحطة بأنه اقترض مبلغا من صاحب العمل الذي يعمل معه كل صيف وسيرده إليه ، وقال لها أنه لا يهرب من المسئولية لكن حياتنا قاسية وفقرنا شديد ولا أمل لنا إلا في معجزة تنتشلنا من هذا الهوان .. وأنه سيحاول أن يصنع هذه المعجزة وطالبها بأن نعذره ولا نقسو عليه لأنه شقيقنا مهما حدث منه وعادت شقيقتي من المحطة محمرة العينين من البكاء .

 

وسافر شقيقي ولا نعرف كم بقي في الإسكندرية أو ماذا فعل حتى استطاع شراء ارخص تذكرة على ظهر سفينة مصرية إلى اليونان .. ولا متى سافر إليها ؟ .. فقد شغلتنا "الكارثة الجديدة" عن كارثة سفره .. وهي كارثة المبلغ الذي اقترضه من صاحب العمل بغير أن يصارحه بأنه ينوي السفر وإنما ادعى له أن أمي تحتاج لعملية جراحية وسوف يسدده له بالتقسيط على 4 شهور ، ولا تتخيل الأيام السوداء التي عشناها بعد سفره حين بدأ صاحب العمل مطالبتنا بالسداد .. ولا كيف أصبحت حياتنا أشد جفافا وحرمانا بعد أن بدأت أمي تقتطع من قوتنا القليل قيمة هذا القسط وكنت في السنة الثانية من دراستي الثانوية وشقيقتي الأصغر مني في الإعدادية والصغرى في أولى إعدادي .. وتحجرت الدموع في عيني أمي .. ولم يعد لها حديث إلا عند النذل الكبير ، وهو أبي رحمه الله .. و النذل الصغير ، الذي كرر سيرة أبيه وهو أخي .. وأصبحنا نتنفس الحزن والغم ليل نهار ، وزاد منه أن شقيقي الذي وعدني بأنه سيكتب لنا بمجرد وصوله .. وسيرسل لنا جزءا من أول نقود يكسبها لم يكتب لنا ولم يرسل لنا نقودا وانقطعت عنا أخباره عاما کاملا حتى بدأت رغم حبي الغريب لهذا الشقيق الذي طالما شاركني همومي ، أشك في صدق حكمي عليه .. وأكاد أصدق رأي أمي فيه وبعد عام طویل فوجئت بأول خطاب منه لى وبداخله شيك بمبلغ بسيط واعتذار طویل منه عن عدم كتابته لنا طوال العام الماضي، لأنه كان كما قال يلحس البلاط ويقاوم الموت جوعا أو تجمدا من البرد في أوروبا .. ويطلب العفو ويثق في أن قلبي سوف يدلني على أنه ما سافر وتغرب إلا من أجلنا.

 

وخفف المبلغ البسيط عنا بعض متاعبنا خاصة أنني كنت على مشارف امتحان الثانوية العامة .. ثم بدأت خطاباته تنتظم وتتوالى وفي كل منها شيك بمبلغ صغير وطلب جديد لأمه أن تعفو عنه وتعذره ، ونجحت في الثانوية العامة والتحقت بمعهد عال واستمرت خطابات أخي ومنها عرفت أنه استقر في إحدى دول شمال أوروبا وأنه يعمل لكنه لم يحقق بعد أي نجاح يذكر .

ثم بدأ المبلغ الذي يرسله إلينا يتزايد حتى أصبح هو دخلنا الأساسي وبدأ شقيقي يرسل لنا مع بعض العائدين ملابس لأمي ولنا ، وفي العام الثالث طلب مني في خطاب أن أطلب من أمي أن تستريح من العمل والشقاء لأنه قد أصبح قادرا على إعالة الأسرة وضاعف المبلغ الذي يرسله إلينا فاستقرت أحوالنا المادية وتنفسنا الصعداء لأول مرة ربما منذ ولادتنا ، ومضت خمس سنوات طويلة ونحن على هذا الحال وذات مساء دق جرس الباب ففتحته أمي فإذا بشقیقي واقفا أمامها ينظر إليها صامتا في خوف .. أي والله العظيم في خوف کما اعترف هو لي فيما بعد ثم يقول لها : هل أدخل يا أم حسين ؟

فصرخت أمي من الفرحة وجئنا على صراخها وكانت مناحة من الدموع والضحك والتهليل وجاءت وراءه حقائبه وأخرج منها هداياه لأمي، فكانت كلها ذهبا في ذهب وقال لها وهو يقدمها أنه لم ينس أبدا أنها باعت مصوغاتها قطعة وراء قطعة لتطعمنا وتحمينا من الموت جوعا وكانت هداياه لشقيقاته الثلاث .. ذهبا وملابس وحقائب يد وكشاكيل ملونة وأقلاما وساعات الخ.

وسامحته أمي من قلبها حين قال لها أنه ليس نذلا ولا جبانا لكنه رأی أن في عنقه "ثلاث عرائس" يتحمل مسئولية زواجهن فمن أين يجهزن إذا لم يغامر ويقدم على المستحيل ؟ وقبلته في جبينه راضية وداعية له بالستر والصحة وامضى معنا شقيقنا شهرا كان كالأحلام فقد عرفنا فيه لأول مرة أن في القاهرة دورا للسينما ومطاعم وكازينوهات على النيل وحدائق للحيوان وبرجا في الجزيرة بل ومسارح أيضا يضحك الناس فيها من قلوبهم .

 

وسافر شقیقی بعد أن دفع لنا ثمن تركيب تليفون في شقتنا ليتصل بنا من غربته ، ودخل التليفون بیتنا بعد سفره بشهر وأصبح يتصل بنا مرة كل أسبوع ويرسل لنا المبلغ المقرر كل أول شهر وبدأ يعود كل سنة في الصيف ويمضي معنا شهرا ، وتخرجت من معهدی وبدأت أعمل والتحقت شقيقتي الأصغر مني بالجامعة ، وأصبح هدف أخي في حياته هو أن نتعلم جميعا ونتزوج ممن يسعدنا ويعوضنا عن أيام الشقاء ، وتقدم إلي شاب وافقت عليه لكني أجلت رأيي النهائي إلى حين عودة شقیقي وجاء والتقى به واستراح إليه من أول لقاء وأصبحا صديقين وأنفق شقيقي على زواجي بكرم وسخاء وجهزني بأحسن جهاز كان يمكن أن أحلم به ، وتزوجت وأنجبت وكسبت أسرتي رجلا طيبا هو زوجی .

 

وبعد ثلاث سنوات تخرجت أختي التالية وخطبت بنفس الطريقة وكانت الكلمة الأخيرة في زواجها لشقيقي ، الذي جاء وأنفق على زواجها بنفس الكرم ونفس السخاء ، وشاء الله أن يكون زواجها بداية تغيير جديد في حياته فقد لفتت نظره في فرحها إحدى صديقاتها وسألني عنها وكلفني بجس نبضها فرحبت به مما عرفته عنه من شقيقتي ومني وخطبها قبل السفر .. وعاد بعد ستة شهور وعقد قرانه عليها واصطحبها وسعدت معه وأنجب منها بنتين حتى الآن وأعطاه الله على قدر كفاحه ونيته الطيبة وبره بأمه وشقيقاته فأصبح يمتلك نصف فندق صغير يعمل فيه في المدينة التي يقيم فيها .

ويملك سيارة ورصيدا في البنك ويسكن في شقة جميلة وحافظ على العودة لنا كل صيف فإذا شغله عمله أرسل زوجته وطفلتيه ثم يعود بعدهما بشهر أو أكثر وقد أعاد في إحدى زياراته طلاء شقة أمي وأعاد فرشها بأثاث حديث قائلا لها أنها عروس ، أيضا ويجب أن يكون بيتها لائقا بها.

ولم يبق منا دون زواج سوى أختي الصغرى التي تدرس الآن بالسنة النهائية بالجامعة وتنتظر حظها هي الأخرى وقد أغدق عليها شقيقي بالهدايا والملابس ، ووعدها بأن يجهزها كأفضل ما يكون الجهاز والحمد الله كثيرا على ذلك وعلى نعمته علينا بهذا الأخ الكبير ومن قبله بأمنا الصالحة المكافحة التي أدمنت الكفاح ولا تريد أن تستريح حتى الآن فتفصل لأطفالنا ملابسهم وأعادت فتح "الحضانة" المنزلية التي كانت تفتحها في الماضي ولكن بلا أجر هذه المرة .. فتطالبنا بإيداع أطفالنا عندها كل يوم رغم ما في ذلك من مشقة عليها ويتصل بها شقیقي تليفونيا كل يومين على الأكثر ، ويتصل بكل منا كل أسبوع ويعود كل سنة وقد أصبح شقيقي الآن في الثامنة والثلاثين من عمره ومضى على هجرته 19 عاما طويلة وأصبحت ابنته الكبرى في التاسعة من عمرها ، وأصبحت المشكلة التي بيننا وبينه الآن هي أننا نريده أن يعود ليستقر بيننا ويقيم لنفسه أي عمل يناسبه فقد اكتشفنا أن حاجتنا النفسية إليه ونحن زوجات وأمهات لم تقل عن حاجتنا إليه ونحن فتيات صغيرات، وربما زادت مع تقدمنا في السن واستقرار حياتنا فهو أبونا الذي لم نعرف لنا أبا غيره ، وحرام أن نحرم منه ويظل بعيدا تفصله عنا بحار وآلاف الأميال ما بقى لنا من عمر ونريده إلى جوارنا لنستشيره في أمورنا .. ويشكونا إليه أزواجنا إذا غضبوا منا كما يفعل الأزواج الآخرون ونشكوهم نحن إليه إذا أغضبونا .



ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

قرار العودة بعد رحلة عشرين عاما من الهجرة ، من القرارات المصيرية في حياة الإنسان التي ينبغي أن تنبع من داخله وتصدر عنه باقتناع تام ولدوافع ذاتية وشخصية لا تقل قوة عن الدوافع العائلية والاجتماعية التي تدعوه لذلك ، وإلا فان القرار إذا جاء لمجرد الاستجابة للضغوط العائلية والاجتماعية بغير اقتناع داخلی به فإنه يحمل معه بذور فشله واحتمالات النكوص عنه بعد فترة قصيرة أو طويلة.

فالإنسان يتحمل دائما تبعات القرارات التي يتخذها بملء إرادته واختياره واقتناعه الخاص سواء أكانت صائبة أم خاطئة ، ولا يتحمل بنفس القدر تبعات القرارات التي تجيء استجابة لضغوط خارجية أو بغير اقتناع أصيل بها.

ومع اتفاقی معك في حاجتكن النفسية لقرب شقيقكن الوحيد منكن

وبأهمية دور الشقيق الأب في حياتكن إلا أني أفضل في مثل حالة شقيقك أن تتركوه لنفسه بعض الوقت إلى أن يتحول نداؤكن الخارجي له بالعودة إلى نداء داخلی هتف به في باطنه بأنه قد آن للغريب أن يهجع إلى جوار من يحبونه ، ذلك أننا في النهاية لا نسعد أبدا في المنفى الأبدي ولا يطمئن قلب الطائر البعيد إلا إذا عاد ذات يوم إلى عشه بعد رحلة بطولية طار فيها طويلا ضد الريح .

 

وغريزة العودة للوطن من أقوى الغرائز التي يشترك فيها الإنسان والطيور والحيوان والأسماك .. وثعابين الماء مثال عجيب على هذه الغريزة الكامنة في النفوس فهی تهاجر متى اكتمل نموها فإذا كانت في أوروبا مثلا قطعت آلاف الأميال في مياه المحيط قاصدة الأعماق السحيقة جنوب جزيرة برمودة ، وهناك تضع بيضها وتموت ثم تخرج صغارها للحياة وهي لا تملك أية وسيلة تهتدي بها إلى موطنها الأصلي ، ورغم ذلك فإنها تعود أدراجها قاطعة نفس الرحلة الخارقة إلى الشاطىء الذي جاءت منه أمهاتها.

 

وهذه الغريزة أصيلة إلى حد كبير في الإنسان أيضا فهو يحب الأرض التي نشأ عليها ولا يفارقها غالبا إلا مضطرا ، والرسول الكريم أشار ذات يوم إلى جبل أحد وقال : "هذا جبل يحبنا ونحبه" وحين اضطر للهجرة من مكة فارقها موجع القلب شاكيا لربه قومه الذين أرغموه على فراقها .

وعملية الإقناع بقرار مصيري کهذا القرار لا تتحقق دفعة واحدة أو بمجرد مناشدة مؤثرة ، وإنما تتم عبر مراحل متدرجة تبدأ بهز الأفكار

المستقرة الثابتة ثم محاولة تعديلها وإلغائها ثم محاولة زرع الفكرة الجديدة والإقناع بصوابها ، والمرء قد يرفض الفكرة التي تعرض عليه بإصرار لكنه لا يستطيع رغم ذلك أن يمنع تأثيرها التلقائي على عقله وتستقر بعض رواسبها في وجدانه ومع تراكم الرواسب تتغير الأفكار وتلين المواقف .

والحق أنكن لستن في حاجة إلى جهاد طویل لإقناعه بصواب فكرة العودة لأن بذورها مستقرة في وجدانه وفي وجدان كل مصري يغادر بلاده مهما طال به الاغتراب .

فالمصري قد يغيب عشر أو عشرين سنة أو أكثر لكنه لا يتصور لنفسه في النهاية إلا مصيرا واحدا هو العودة لبلده ذات يوم ويعيش في غربته بنفسية المسافر الذي سيؤوب يوما ما من سفره لهذا قلت ذات مرة أننا شعب "مسافر" ، ولسنا شعبا مهاجرا كالشعوب المهاجرة الأخرى التي تمد جذورها لأعماق الأرض في البلاد التي تهاجر إليها .

وإلى جانب ذلك فهناك في ظروف شقيقك الخاصة ما سوف يسرع به إلى الاقتناع بالعودة إليكن بعد سنوات معدودة وهما بنتاه ! فالبنات على وجه الخصوص هن أقوی حافز لعودة الغريب إلى أرضه حين يبلغن سن الصبا والشباب خوفا عليهن من تأثيرات الحياة في المهاجر ، ورغبة في ربطهن ببلادهن .

والمرء يعود في النهاية يا سيدتي لمن يحب ولمن يحبونه وأنتن إلى جانب مصلحة بناته ورغبة زوجته "دوافع" لا يمكن مقاومتها إلى ما لا نهاية ومن أجمل ما قرأت مؤخرا في قصة أمريكية هذه العبارة الجميلة التي تقول: إن الوسيلة الوحيدة لإعادة غائب بعيد هو أن تحبه حبا صادقا نقيا من القلب فيشع إشعاعاته عليه في غربته ويجتذبه للعودة إليك ذات يوم ، تماما كما يجتذب قطب المغناطيس .. رؤوس الدبابيس الشاردة بعيدا عنها.

 

فإلى أن يأتي الوقت الذي يراه شقيقك مناسبا لعودته في "كل مكان ينبت العز طيب" كما يقول الشاعر ، ومادام شقيقك يؤدي واجباته العائلية تجاهكن جميعا ويفيض عليكن من حبه وعطفه ورعايته الكثير ومادامت الصلة موصولة بینکن وبينه دائما ، فلترافقه عناية الله في أي ارض يحل بها ، فبأمثال شقيقك هذا الذي يرعی حدود الله في نفسه وأسرته وأخواته ، تطيب الحياة وتتخلص من كثير من أسباب العناء ، والطائر البعيد الذي يستشعر واجباته العائلية تجاه من يتحمل مسئوليتهم النفسية والمادية أقرب كثيرا لمن يرعاهم من طائر يقيم في الجوار لكنه لا يؤدي واجباته ولا يرعى الله في رعيته ، ولقد كان أبوكم يعيش على بعد عشرات الكيلو مترات منكن ، فكان أبعد عنكن بآلاف السنين الضوئية من هذا الأخ القريب للغاية وإن بعدت به الديار .

فانتظرن فلسوف يعود الغائب إليكن ذات يوم قريب بإذن الله ولسوف تفاجأن به واقفا مرة أخرى أمام باب شقة الأسرة ولسان حاله يقول مع الشاعر العربي :

فلما عرفت الدار قلت لربعها     ألا عم صباحا أيها الربع واسلم.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر عام 1992

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

  


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات