ميراث الريح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا فتاة في التاسعة عشرة من عمري .. طالبة بإحدى الكليات ولي أخت وحيدة بالمرحلة الثانوية وقد نشأنا بين أبوين مختلفي الطباع والعادات .. فأبي يتسم بهدوء الأعصاب الذي يصل إلى حد البرود أحيانا , ويعاملنا بالحكمة والكلمة الهادئة .. وأمي تتفجر عصبية وتفقد أعصابها لأتفه الأسباب , وتعاملنا بالعصا والصراخ , ونتيجة لهذا الاختلاف كنت دائما ابنة أبي المدللة .. وكانت أمي تضيق بمعاملة أبي لي على هذه النحو , وبدأت المشاكل تتزايد بينهما بسببي .. وأعترف لك يا سيدي بأنني كنت أبالغ أحيانا في استفزازها كأنما كانت تسيطر علي عقدة "اليكترا" تجاهها .. وفي كل مرة تهيج أمي وتنهال علي بالاتهامات بأني ابنة عاقة .. ويدافع عني أبي ويشرح الأسباب التي دفعتني لما فعلت .. ثم تضاعفت المشاكل بينهما حين جاءت عمتي لتقيم معنا بعض الوقت بسبب ظروف عائلية خاصة بها , وكانت عمتي بمثابة الأم لأبي بعد وفاة أمهما وعلاقته بها حميمة ووثيقة , فبدأت مشاكل من نوع جديد بين أبي وأمي بسببها وأصبحت أمي كثيرة الشكوى لأبي من شقيقته وهو يقابل شكواها بتعقل وهدوء وسلبية أيضا لأن الأمر يتعلق بشقيقته الكبرى التي لا يستطيع أن يطلب منها الرحيل عن بيته .. واستفحلت المشاكل بين أمي وعمتي وبيني وبين أمي رغم تدخل الأهل والجيران فلم يجد أبي حلا لذلك سوى أن ينتقل مع شقيقته إلى شقة أخرى قريبة من مسكننا , خاصة بعد أن تهورت عليه أمي في آخرمشادة بينهما وسبته سبابا جارحا بالرغم من أنه لم يتلفظ بكلمة سباب واحدة لأمي طوال عشرتهما .. وبقيت أنا وشقيقتي مع أمنا وعرفت حياتنا بعض الهدوء .. وبعد فترة من الزمن نجحنا في اقناع أمي بالاعتذار لأبي عن سبابها الجارح له فاعتذرت , وتصورت أنه سوف يرجع للإقامة معنا بمجرد الاعتذار لكنه قال أنه لا يستطيع أن يترك شقيقته وحدها ويرجع على الفور .. وإنما سيعود بالتدريج وفي الوقت المناسب.
وصدمت أمي في ذلك .. وبطريقتها العصبية في ردود الفعل طالبته بالطلاق .. فأعتبر أبي المطالبة تهديدا لا يقبله على كرامته وطلقها .. والحق أن أبي تصرف مع أمي بعد الطلاق بشهامة .. فتركها تقيم معنا في شقة الزوجية إلى أن تجد سكنا لها .. كما حافظ على عفة لسانه معها فلم يذكرها بكلمة سوء واحدة أمامنا أو في غيابنا ولم يبرر طلاقه لها إلا بأنه لا يقبل على كرامته التهديد ولا يقبل الاستمرار في الارتباط بسيدة تطلب منه الطلاق.
ورغم ذلك أقدمت أمي على تصرف تصورت انه يرد لها كرامتها التي جرحت بالطلاق بالرغم من أنها التي طالبت به .. فانتهزت فرصة زيارتنا أنا وشقيقتي لأبي وغيابنا عنده وقامت بنقل أثاث شقة الزوجية كله وتركتها على البلاط إغاظة لأبي.
واستاء الجميع لهذا التصرف خاصة أنا وشقيقتي واضطررنا للانتقال للحياة مع أبي وعمتي .. وقاطعنا أمنا .. وقامت لنا عمتنا بدور الأم الحنون إلى أن توفاها الله بعد عام من هذه الأحداث .. ثم توليت بعدها مسئولية البيت ومر عام آخر تغيرت خلاله أشياء كثيرة في نظرتي للحياة وازددت نضجا فبدأت وأنا الابنة العاقة كما تتهمني أمي في الاتصال بها وانهاء القطيعة بينها وبين شقيقتي ولاحظت أنها قد انهزمت خلال فترة الطلاق وبدأت الأمراض تهاجمها , وأحسست بأهمية وجود الأم في حياتنا خاصة بعد أن بدأت شقيقتي الصغرى ترفض أن تكون لي أية سلطة عليها .. ولها بعض العذر في ذلك .. كما بدأت أفكر في حياة أبي في المستقبل فبعد سنوات تطول أو تقصر سوف أتزوج وأنتقل إلى بيت جديد وكذلك ستفعل شقيقتي , فلماذا يعيش أبي وحيدا .. وأمنا في الجوار .. وهو ليس مرتبطا بأي إنسانة وهى كذلك ؟ ولماذا نحتاج إلى زوجة جديدة لأبي أو لمديرة منزل ترعى شئونه في وحدته .. وأمنا على قيد الحياة ؟ وقد تغيرت الظروف .. وأصبح كل منهما يعامل الآخر الآن بود واحترام ويتصلان ببعضهما من حين لآخر للاطمئنان .. وأمي تقول لي أنها إذا كانت قد خسرت أبي كزوج فلن تفقده كصديق , وأبي يقول لي أنها أمنا في البداية والنهاية وأنه يتعامل معها على هذا الأساس.
وأكثر من ذلك فإن كلا منهما قد اعترف لي بحبه للآخر وبأنه لا ينسى العشرة التي كانت بينهما .. ورغم ذلك كله فلقد فشلت في الجمع بينهما مرة أخرى , ولكل منهما أسبابه التي لم أستطع اقناعه بالتخلي عنها , فأبي يقول أنه لم ينس لها غدرها به حين نقلت أثاث مسكن الزوجية دون سابق إنذار , فكيف يأتمنها على نفسه بعد ذلك ؟ وكيف يستعيد الثقة المفقودة فيها ؟ وكيف يحترمها بعد أن أهانته ؟ وكيف يضمن ألا تتجدد المشاكل بيني أنا وبينها مرة أخرى ؟ ثم كيف يكون موقفه أمام الناس حين يردها بعد أن فعلت ما فعلته ؟
أما أمي فتقول أنها لن تنسى لأبي أنه لم يتمسك بها حين طلبت منه الطلاق وأنه استجاب لطلبها بلا ممانعة !
وكل منهما ينظر إلى الماضي ولا يتطلع إلى المستقبل .. ويضع كرامته فوق كل اعتبار آخر .. ولا يفكر في مستقبلنا كفتاتين وفي حاجتنا لأمنا وأبينا معا.
إنني على ثقة يا سيدي أنك إذا وجهت لأبي كلمة عاقلة من كلماتك الرزينة فسوف يرجع إلى نفسه ويعرف أن الناس لن يلوموه إذا أعاد جمع شمل أسرته .. وأن أمي عندما نقلت أثاث الشقة إنما كانت تحاول مضايقته فقط لأنه لم يتمسك بها حين طلبت الطلاق .. وأن المشكلة في النهاية لا تخصهما وحدهما وإنما تشملنا نحن أيضا لأن لنا حقوق عليهما , وأن أمي إذا شعرت برغبة أبي في إعادتها فسوف تقبل بكل تأكيد والزمن كفيل بعد ذلك بإعادة الثقة بينهما مرة أخرى .. فهل تكتب له بكل ذلك تحقيقا لأمنية غالية لي ولشقيقتي في أن يجتمع شمل أسرتنا مرة أخرى تحت سقف واحد !
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكـــاتــبة
هـــذه الـــرسالــة أقـــول :
لم يكره الإسلام شيئا مباحا كما كره الطلاق ونفر منه .. فهو في نظره جراحة مؤلمة لا ينبغي للمرء رجلا كان أو امرأة اللجوء إليها إلا تفاديا لآلام أشد قسوة من آلام الجراحة نفسها .. وبلغ من تنفير الدين السمح من الطلاق أن بغض فيه ولو كان الدافع إليه هو الكراهية "فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا" كما جاء في التنزيل الحكيم , كما وضعت الشريعة قيودا وضوابط عديدة على الطلاق لو تم الأخذ بها كاملة لضاقت حلقته أشد الضيق , حرصا على رابطة الزوجية من أن تنهدم لأوهى الأسباب ، وحرصا على صالح الأبناء ومستقبلهم.
وإسعاد الأبناء ولو على حساب السعادة الشخصية للأبوين في بعض الأحيان واجب إنساني مقدس لا يصح النكوص عنه لاعتبارات واهية .. كاشفاق المرء على نفسه مثلا من نظرة البعض إليه إذا هو أعاد جمع شمل أسرته بعدما كان من نزاع بينه وبين زوجته .. أو للسبب الأعجب لدى والدتك وهو أن أباك لم يتمسك بها حين طالبته هي بالطلاق ! فالحق أن كل ذلك مما لا يجوز التوقف عنده بالنظر إلى ما يحققه جمع الشمل من جديد من مصلحة مؤكدة لكل منهما ولكما على وجه الخصوص .. فأنتما فتاتان في مقتبل سن الشباب وعما قليل سوف يطرق بابكما الخطاب , وليس هناك ما يؤلم نفس الفتاة أكثر من أن تبدو أمام شريك الحياة الجديدة من أسرة ممزقة انفصل فيها الأب والأم وتفرقت بينهما السبل , ولهذا فمن واجب أبويكما أن يتعاليا على خلافاتهما بل وعلى جراحهما الشخصية لكي يجنباكما هذا الحرج الإنساني الذي لا يدركان عمق تأثيره عليكما في سن الزواج .
والحق أيضا أن في كلمتك العاقلة لأبيك كل ما يكفي وزيادة لكي يغير من موقفه ويصفح عن أمك ويعيدها إلى عصمته , فالزمن كفيل بمداواة الجراح وإذابة المرارة التي ترسبت في النفوس .. وبإعادة غرس الثقة التي تأثرت بشدة بتصرف أمك السابق , أما عن تخوفه من تجدد المشاكل بينك وبينها بعد العودة , فأنت وحدك القادرة على طمأنته من هذه الناحية , وأنت وحدك أيضا المسئولة عن ضمان عدم تجددها بينكما .. فالحقيقة أنك تتحملين قدرا كبيرا من المسئولية عن تفاقم الخلافات بينهما .. وعقدة "اليكترا" التي أشرت إليها والمقصود بها تعلق الابنة الزائد عن الحد بأبيها إلى حد الغيرة عليه من الأم أحيانا لا تكفي وحدها لتفسير تصرفاتك السابقة مع أمك خاصة وقد اعترفت بأنك كنت تبالغين في استفزازها مع علمك بسرعة تهيجها العصبي , استنامة إلى حماية الأب لك , وكل ذلك يلقي عليك مسئولية مضاعفة في اقناع أبيك لجمع شمل أسرتكم من جديد وطمأنته إلى أن المشاكل لن تتجدد بينك وبينها.
وفي تقديري أنك قادرة على ذلك الآن فلقد نضجت وعرفت الكثير من حقائق الحياة ومن أهمها إن علاقتك الحميمة بأبيك لا تغنيك ولا تغني شقيقتك عن دور الأم في حياتكما , ولعلي أضيف إلى ذلك أيضا أن دورها في المرحلة الحالية من حياتكما أكثر ضرورة من دور الأب الآن وإن كانت لكل منهما ضرورته وأهميته في حياتكما في كل أوان.
فضاعفي من جدك إذن في اقناع أبيك .. واشركي معك أيضا شقيقتك السلبية في هذا الجهد النبيل .. بل واشركي معك أيضا أمك فيه لأنها تتحمل مسئولية أكبر من مسئولية الأب في وقوع الطلاق إذ كانت المبادرة إلى طلبه فضلا عن مزاجها العصبي الذي ساهم في تصعيد الخلافات وليس عيبا أن تكون أكثر إيجابية في سعيها لإعادة المياة إلى مجاريها بينها وبين أبيك إدراكا لمسئوليتها عنكما ولصالح الجميع .. فالرجوع عن الخطأ أكرم من الاستمرار فيه .. وهي إن كان لها بعض العذر في استجاباتها الانفعالية لاستفزازاتك السابقة إلا أنها قد أخطأت خطأ جسيما باهانتها لزوجها ثم بطلبها الطلاق ثم بنقلها لأثاثها من مسكن الزوجية , وكل ذلك يفرض عليها , ليس فقط أن تقبل العودة إلى زوجها إذا رغب في ذلك , بل ان تسعى للعودة إليه وفتح صفحة جديدة معه.
وإذا كان أبوك يتساءل كيف يستعيد ثقته بها من جديد فإني أقول لها أن أول خطوة لاسترداد هذه الثقة هى الاعتراف بالخطأ والاقرار به فلعلها تعينك وتعين نفسها على إعادة جمع شمل الأسرة وتجاوز الخلافات بهذا الاعتراف الذي لا أشك بأن تجربة الأيام قد أقنعتها به وإن لم تصرح بذلك حتى الآن.
وما أسهل استئناف الحياة بعد ذلك بين شريكين يعترف كل منهما بأنه مازال يحب الآخر ولا ينسى عشرته .. إذ لا يبقى بعد هذا إلا التنازل عن اعتبارات الكرامة الشخصية والحساسية التي لا مبرر لها .. والكف عن انتظار الخطوة الأولى من الطرف الآخر وخيرهما من يبدأ بمد يده لشريكه ويهجع إلى جواره من يحمل له أنبل المشاعر رغم الذكريات المريرة .. ويعيش معه أيامه في وئام وسلام مستفيدا من تجربة العمر وأخطاء الماضي , فيفوز براحة القلب واطمئنان النفس .. ويرث ميراث السعداء في الحياة .. وينجو بنفسه من مصير التعساء ومن حكمت عليهم الأقدار بالوحدة والمعاناة .. أو حكموا هم بعنادهم ومكابرتهم على أنفسهم بذلك فورثوا ميراث الريح الذي عناه السيد المسيح عليه السلام بقوله : من يكدر بيته .. يرث الريح !
وما أقسى "ميراث الريح" من الكدر والبغضاء والوحدة في سن الجلال وتلمس الإيناس والأمان في صحبة شريك عطوف للحياة !
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يوليو 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر