الضيف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الضيف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

                            الضيف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990 

قرأت رسالة "شجرة الصبر" للقارئ الذي يبكي أخاه الأكبر ويتحسر على أنه مات قبل أن تتيح له الظروف أن يسعده وأن يقدم له ما يعوضه عن أيام الشقاء ويروي في رسالته عن تضحيات أخيه من أجله منذ كانا طفلين .. والحب العميق الذي جمعهما.

قرأت هذه الرسالة يا سيدي فتندت عيناي بالدموع .. فأنا مثل كاتب هذه الرسالة وحيد ويتيم .. فأنا شاب في السادسة والعشرين من عمري فقدت أبي وعمري 4 سنوات وفقدت أمي وعمري 18 عاما, ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش وحيدا فى شقة أبي بمدينة من مدن الوجه البحري, وكانت أمي هي الزوجة الثانية لأبي وكان له أبناء كبار من زوجته الأولى يقيمون فى القاهرة ويعملون فيها لكني لم أرهم ولم أتعرف عليهم وحين رحلت أمي عن الحياة كنت على أبواب دخول الجامعة .. وأتقاضى معاش أبي وأدبر أمري به فقدمت أوراقي لمكتب التنسيق وقبلت بإحدى كليات التجارة بالقاهرة فأحسست أنه من العار أن يكون لي إخوة ولا أعرف أشكالهم فبحثت عن عناوينهم فى القاهرة وقررت أن أذهب إليهم لأتعرف عليهم واستمد منهم بعض ما يعوضني عن فقد أمي, وسافرت يا سيدي إلى العاصمة المزدحمة وبحثت عن عنوان أكبر إخوتي وهو ضابط كبير يقيم فى احدى الضواحي وتخبطت في الشوارع حتى وصلت إلى باب فيلته ودخلت وكلي شوق لأن أرى من سوف أقول له يا أخي لأول مرة وطرقت الباب وقادني من فتحه لي إلى الصالون .. وجلست انتظر فإذا بشخص يتقدم مني أحسست بحنين إلى الدم إلى من تربطنا بهم صلته إنه أخي .. ونهضت وأنا أرتجف من الانفعال لأصافحه وأحييه .. فصافحني بلا انفعال وجلس وبدأت أحدثه عن آمالي فى المستقبل وأني قد التحقت بكلية التجارة وسأقيم فى المدينة الجامعية وهو يسمعني في جمود, ثم فوجئت به ينصحني بألا أدخل الجامعة لأني سأفشل فيها وبألا أحضر إلى القاهرة وأن أختصر الطريق وأبحث عن أرض لأزرعها فى محافظتي لأن الجامعة ليست لمن مثلي .

 

ونزل كلامه علي كالصاعقة .. فكيف لمثلي أن يزرع أرضا وأنا لم أعمل بالزراعة ولا أعرف شيئا عنها ولست أملك أرضا لكي أتفرغ لها ولو كنت كذلك لما ترددت .. وأحسست بغصة فى حلقي وسألت نفسي .. هل لو كنت ابنه لكان قد نصحني بنفس هذه النصيحة ؟ ولماذا لا أكون أهلا للجامعة ثم أبحث عن مستقبلي بعد تخرجي في أي مجال .. واستمعت لحديثه صامتا ثم نهضت محييا وشاكرا وقد ندمت على ما تكبدته من مشقة فى السعي إلى بيته وزيارته فلقد رفضني يا سيدي بلا مبرر مع إني لا أريد منه شيئا سوى عاطفة الأخوة ولست مسئولا عن أن أمي كانت الزوجة الثانية لأبي ..أو عن أني لم أعرفهم من قبل فلربما حاولت أمي أن تجمع بيني وبينهم فلم يرحبوا بذلك.

وحدث نفس الشئ تقريبا بدرجة أقل مع باقي إخوتي وعدت إلى بلدتي ثم بدأت الدراسة وعدت للقاهرة وأقمت فى المدينة الجامعية وكرست جهدي للنجاح والتفوق لكيلا أفقد فرصة الاقامة فى المدينة إذا رسبت وصممت على أن أثبت لإخوتي أني جدير بالنجاح في الجامعة وجدير باخوتهم وهم فى مراكزهم الكبيرة .. فلست أحتاج إلى شئ منهم سوى الصلة الإنسانية التي تجمع بين الاخوة وإلى أن أحس بأن لي إخوة كبارا أفتخر بهم بين زملائي .. ورغم ما حدث فقد حرصت على ألا أقطع الصلة بيني وبينهم وواظبت على زيارتهم من حين لآخر فكنت أجد نفسي حبيس الصالون كأني شخص غريب ولم أر أولادهم إلا مرات معدودة رغم شدة تلهفي على أن أعرفهم واقترب منهم إذ ليس لي أقارب من سني وأصغر أبناء أعمامي وعماتي لا يقل عمره عن 50 عاما, لكن هيهات يا سيدي .. فلقد عوملت دائما كضيف ثقيل من الريف لا أعرف لماذا, ولم يخفف عني هذه الوحشة فى القاهرة سوى أخت غير شقيقة زرتها فكانت أكثر عطفا وأحببتها من كل قلبي ووجدت في حنانها بعض ما عوضني عن فقد أمي, وكنت أذهب إلى بيتها وأزورها إلى أن جاء يوم زارها فيه أخي القائد الكبير وكنا نجلس فى الصالون ونهضت لتحيته فإذا به يصافح الجميع ويتجاهلني وحدي ولا يصافحني وأحسست بخجل شديد .. وانسحبت من الصالون إلى غرفة داخلية.




ولــكــاتــب هــذه الـرسـالـة أقـــول:

 

قلتها دائما ومازلت أكررها .. لا تنتظر من الآخرين الكثير لكي تسعد بالقليل الذى تسمح طبعائهم أو ظروفهم بتقديمه إليك ! فلو آمن الإنسان بهذه القاعدة الذهبية فى علاقته بالآخرين لما صدم في أحد ولما انقطعت علاقته بأحد, فمن أهم أسباب فتور العلاقات الانسانية بين البشر هو احساس الصدمة والمرارة الذى ينتاب الإنسان حين يحس بأن ما قدمه له الآخرون أقل كثيرا مما كان يتوقعه منهم بحكم الصداقة أوالقرابة أو الزمالة ..ويبدو أنك بطبيعتك العاطفية الريفية كنت تنتظر الكثير من اخوتك القاهريين الذين رأوك لأول مرة وأنت فى سن الثامنة عشرة ومن هنا جاءت صدمتك فيهم, ولعلك لو لم تندفع للاقتراب منهم وكنت أكثر تحفظا أو تدرجا فى الاقبال عليهم لاستقامت صلتك بهم ولنمت علاقتك بهم ببطء إلى أن تتعمق مع المعاشرة والزمن وتأكدهم عمليا أنك سوف تكون إضافة إنسانية لهم ولست عبئا جديدا فوجئوا به على حين غرة .

 

فلا تبتئس يا صديقي .. فهكذا هي الحياة في هذا الزمن الصاخب وخاصة فى مدينة متوحشة كالقاهرة, فحتى بعض الأقرباء خاصة من كانوا فى مثل ظروف اخوتك الذين تباعدت الصلات بينك وبينهم طويلا يحتاج الإنسان إلى ألا يندفع فى الإقبال عليهم لكيلا يدبروا عنه, تماما كالدنيا التي إذا أقبلت أنت عليها أدبرت عنك والعكس بالعكس, لكن العلاقات الإنسانية السوية بين الأخوة موجودة على أية حال وهي الأصل دائما ولكن بين الأسوياء ومن يخشون الله واليوم الآخر ولا يقطعون ما أمر الله به ألا ينقطع, فلا تحزن لما فاتك ولا تلم أحدا لكيلا تفقد ما بقي من خيوط بينك وبينهم وصلهم برسائل الود من حين إلى آخر غافرا للجميع ما تقدم منهم وما تأخر .. فللكلمة الطيبة مفعول السحر فى النفوس واحرص على أداء وجباتك العائلية تجاههم فى المناسبات الإنسانية وأصنع أهم من كل ذلك حياتك ونجاحك بكفاح السنين وصبر الصابرين يجدوا فيك ما يدفعهم لأن يفخروا بإنتمائك إليهم ويسعوا إليك كما تسعى الدنيا إلى الناجحين وتعرض عن الفاشلين.

 

أما عن العمل فلعل الله محدث أمرا عن طريق هذا الباب قبل أن يأتي شهر نوفمبر وينقطع معاشك عن أبيك إن شاء الله.. وبهذه المناسبة لماذا لم نفكر فى إعادة النظر فى هذا القانون الذي يقطع معاش الأب عن الابن فى سن السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين إن لم يعمل قبل ذلك وهو قد صدر حين كان الشباب يتخرجون من الجامعات فيجدون خطابات التعيين من القوى العاملة فى انتظارهم, فلقد تغير الحال وكثرت اعداد الشباب العاطلين إلى ما بعد هذه السن وبينهم كثيرون من مستحقي هذا المعاش .. ولا شك أنه ليس من صالح مجتمعنا أن يزداد عدد من لا يجدون فيه عملا ولا موردا بسبب انقطاع معاش الأب .. فلم لا يكون استمرار هذا المعاش لعدة سنوات ؟ أو حتى يجد الابن العمل أيهما أسبق بديلا عن تأمين البطالة لمن لا مورد لهم إلا هذه الجنيهات الشحيحة .. حقا لماذا لم نفكر فى ذلك قبل أن تزداد أعداد الألغام الموقوته التى ترقد تحت سطح هذا المجتمع المثقل بالأعباء ؟

رابط رسالة شجرة الصبر

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو 1990

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات