أشواك الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
لم أكن أرغب
في أن أروى قصتي لك ... لكن تأثري برسالة نشرت في هذا الباب منذ فترة بعنوان "العيون
الخضراء" دفعني لأن أرويها .. لعل كاتبها يجد فيها السلوى عما يعانيه هو
وزوجته من آلام فقد طفلتهما الوحيدة أعانهما الله عليها.
فأنا سيدة
متزوجة .. كنت فتاة حاصلة على الثانوية العامة حين تقدم لي أحد أقربائي وهو في
بداية حياته العملية ليخبطني .. فواجه اختياره لي معارضة من أسرته وآلمني ذلك ثم
تزوجته وآثار هذا الاعتراض مازالت تخيم على نفسيتي خاصة من ناحية والدته التي كانت
أكثرهم معارضة .. وشيئا فشيئا بدأت أتناسى الاعتراض واندمج في حياتي الجديدة
وأسرني زوجي بأخلاقه الكريمة فصفت نفسي تماما وخلص قلبي له منذ أول يوم. وبعد شهور
حملت فشغلت بحملي وبتوجسي من آلام الولادة لأول مرة .. ثم بالأشياء الصغيرة التي أعدها
للمولود وقلبي يخفق بالأمل .. ثم جاءت ساعة الولادة وأنجبت طفلا تبارك الخلاق فيما
خلق .. عيون زرقاء وشعر ذهبي اصغر ووجه أبيض ملائكي کالبدر في تمامه .. حتى كان من
يراه يدهش بجماله ولا يصدقون أنه ابننا لأني وزوجي لسنا من أصحاب العيون الزرقاء
والشعر الأصفر فطرنا به فرحا .. ولم يلبث أن ملأ حياتنا فلم يعد فيها متسع لغيره
وتغير أهل زوجي من ناحيتي بسبب هذا الطفل، فارتاح خاطري .. وبدأ طفلي يحبو ثم يمشي
ثم يجري إلى أن بلغ سن الخامسة من عمره وقلوبنا تزداد تعلقا به يوما بعد يوم .. ثم
فجأة غاب عنا واسترده من أعطاه لنا ومن لا راد لقضائه بلا مقدمات وخلال أسبوع واحد
.. فهوت الصدمة على رؤوسنا وقلوبنا قاسية وكدت اجن .. ومازلت حتى الآن ينخلع قلبي
كلما تذكرت هذه اللحظات المريرة .. وزاد من مرارتها أن أهل زوجي لم يرحموا ضعفي
وفجيعتي في ابني فبدأوا يرددون على مسامع زوجي أن زواج الأقارب هو السبب في هذه
الفجيعة .. وأنه يجب أن يتخلص مني حتى لا تتكرر المأساة مرة أخرى وبدأ زوجي يتغير
من ناحيتي بسبب هذه الأقاويل وبدأت أخشى على مستقبل حياتي معه .. لكني قررت أن أعوضه
عما خسرناه فحملت مرة أخرى وضاعفت من عنايتي بنفسي خلال فترة الحمل وأنجبت طفلا آخر
.. فجاء - وسبحان من إذا أراد شيئا قال له كن فيكون - نسخة أخرى من ابني الأول بل وأكثر
جمالا سعدت به قلوبنا .. وشغلنا به عما أصابنا .. وضاعفنا من العناية الصحية به
فكان إذا ارتفعت حرارته أسرعنا به إلى الطبيب .. وإذا عطس سهرنا الليل إلى جواره
ولا اسمح له بأن يغيب عن أنظاري لحظة في الليل أو النهار حتى بدأ يمشي ويجري ويملأ
الدنيا مرحا وصخبا .. ومرت السنوات سعيدة هانئة وبدأنا نستعد لإدخاله مدرسة
الحضانة حين يكمل الخامسة بعد أيام فإذا بنفس الفاجعة تتكرر في حياتنا وبنفس
ظروفها البشعة وإذا بابني الذي تعلقت بي أمالي ليعوضني عن فقدي لطفلي الأول يصبح
هو أيضا فجيعتي .. ويغيب عن الدنيا .. وهيهات أن تغيب محبته وذكراه عن قلبي.
وفي هذه
الظروف القاسية بدأ زوجي يردد أمامي كلام أهله عن إنني السبب في ذلك وأن زواج الأقارب
هو المسئول عن المأساة .. وبدأ يهددني ويتوعدني إذا كررت تجربة الحمل مرة أخرى.
واستمر الحال هكذا عدة شهور حتى لم أعد احتمل حياتي فهجرت البيت باكية كسيرة القلب
وقد فقدت كل شيء .. الطفلين وزوجي .
وعدت إلى بيت أسرتي
مشتتة الفكر لأواجه الاختيار الصعب بين أن أحقق رغبتي في
أن أصبح أما من جديد وبين أن افقد زوجي إلى الأبد .. ويعلم الله وحده كم تعذبت في هذا الاختيار وكم أمضيت من ليال مسهدة مؤرقة أفكر فيما اختار وفيما افعل حتى اكتشفت فجأة أنني أطيل التفكير والعذاب فيما لا طائل وراءه .. فقد اختار الله لي وقضى الأمر واكتشفت أنني غادرت البيت وأنا حامل فعلا فقررت أن احتفظ بالجنين مهما حدث وليفعل الله بى و به ما يشاء .. وتعلق أملي في الله أن يرحمني من تجرع كأس المرارة مرة ثالثة وفي أن يعوضني عما لقيت خيرا .. فبقيت في بيت أسرتي إلى أن وضعت بنتا جميلة أحببتها بقلبي قبل أن أراها بعيني .. وخفت عليها من المصير المحتوم الذي لقيه شقيقاها .. وتحركت عاطفة الأبوة في قلب زوجي فعدت إليه وعشنا حياتنا معا في هدوء وسلام .. وقلوبنا تخفق كل يوم بالرجاء .. وكلما اقتربت ابنتي من السن الخطيرة التي ذوى فيها طفلاي ازداد هلعنا .. وازداد أملنا في الله أن يحفظ علينا ابنتنا .. حتى مضت المرحلة الحرجة واجتازت ابنتي سن الخامسة بسلام وألحقناها بالمدرسة .. وحين ارتدت لأول مرة "مريلة" المدرسة نظرت إليها بفرحة طاغية .. وانهمرت دموعي فهي أول أولادي التي أمهلتها الحياة إلى سن المدرسة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
القلب الذي يستقر فيه التسليم بقضاء الله وقدره
هو القلب المطمئن الذي يتقبل كل تقلبات الحياة بثبات ويتطلع دائما إلى رحمة الله
.. لهذا يقول بعض العارفين بالله في دعائهم : "اللهم ارحمني رحمة تغنني بها
عن رحمة سواك" حيث لا تفيد رحمة سواه ولا ترد عنا غوائل الزمن .. ولا تساعدنا
على تحمل وخز أشواك الحياة من حين إلى آخر .
ورسالتك يا سيدتي تقول كل ذلك وأكثر .. فعسى أن يتدبر معانيها كاتب رسالة العيون الخضراء رغم مرور فترة طويلة على نشر رسالته وعسى أن يتذكر قول الحسن بن على : من اعتمد على حسن اختيار الله لم يرض بغير ما اختاره له ولم يهنأ بغيره .. وقصتك خير دليل على ذلك فلقد اختار لك ربك وأنت غارقة في الوساوس والتفضيل والترجيح فكان اختياره رحمة وخيرا عميما .. وكان بك رفيقا فشكرا على رسالتك القيمة ودعاء لك أن يحفظ الله عليك أسرتك وسعادتك .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر