القائمة الرئيسية

الصفحات

العيون الخضراء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

العيون الخضراء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

العيون الخضراء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


 إن الابتلاء يا صديقي حق لا مرية فيه. وأكثر الناس ابتلاء في الدنيا هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل هكذا وكل ما يصيب الإنسان مما لا حيلة له فيه يحسب له ويجزيه الله عنه في الدنيا وفى الآخرة خير الجزاء. وبعد ذلك فلا مفر من أن نواجه أقدرانا بشجاعة.
عبد الوهاب مطاوع


سأبدأ رسالتي يا سيدي دون مقدمات، لأقول لك إنني شاب عمري 37 سنة، تعرفت خلال السنة الأخيرة من دراستي الجامعية، بفتاة عربية مقيمة في مصر مع أسرتها، وارتبطت بها بعاطفة حب قوية صادقة، فقررنا أن نتزوج، ولم يكن هذا أمرا سهلاً على الجانبين ، فلقد كانت أسرتها تفضل لها الارتباط بأحد أبناء وطنها، كما كانت أسرتي تفضل لي بالطبع الارتباط بإحدى قريباتي أو بنات بلدي ، لكننا صمدنا وأصررنا على تحقيق سعادتنا، واتفقنا على أن يقوم كل منا بإقناع أهله بالمبدأ ثم نبدأ الخطوات التقليدية، واستغرق الأمر عدة شهور أدينا خلالها الامتحان ونجحنا.

وذات يوم دعتني لمقابلة أبيها وهو تاجر متوسط الحال يقيم في مصر منذ أوائل الستينات، فتوجهت إليه في مسكنه بأحد أحياء القاهرة الشعبية.. واستقبلتني فتاتي على الباب بابتسامة مشرقة، وهمست في أذني قبل أن ادخل بأن أباها صارحها بأن موافقته علي ستحدد بعد هذه المقابلة، فاضطربت أعصابي ودخلت إلى الصالون وانتظرت حتى جاءني يرحب بى بكرم.. وتحدث معي و سألني عن أسرتي و إمكاناتي، فأجبته عن تساؤلاته وصارحته بأن أسرتي لن تقدم لي الكثير، وأنى سأعتمد على نفسي في بناء حياتي ومستقبلي وتحدثنا طويلاً.. ثم نهض ودعا زوجته للتعرف بى.. فجاءت تسبقها ابتسامتها فعرفت أن فتاتي قد كسبتها لصفها وأن الأمر معلق الآن على قرار الأب، وطال الوقت فاستأذنت في الانصراف ففاجأني الأب بقوله: بل انتظر حتى تتناول طعام العشاء مع أسرة خطيبتك، فلم اشعر بنفسي إلا وأنا أعانقه واقبله، وهو يضحك ضحكة مجلجلة وزوجته وفتاتي لا تسعهما الفرحة، وانصرفت من بيته سعيداً وشاكراً.. وفى اليوم التالي اصطحبت أبى الموظف الكبير بوزارة المالية و أمي إلى بيت الأسرة للتعارف وقراءة الفاتحة. ودخلت فتاتي الصالون فما أن رأتها أمي ببشرتها العاجية وعيونها الخضراء وجمالها الهادئ وابتسامتها الرقيقة حتى هتفت بغير وعي (تبارك الخلاق فيما خلق) وفتحت لها ذراعيها، أما أبى فكان يقول في ختام حديثه مع صهري (إنما المؤمنون أخوة) حين رآها فلم يستطع أن يداري دهشته لجمالها ورقتها، وانتهز أول فرصة التقت فيها عيوننا ليشير لي بيده عن حسن اختياري.

وجمع الله بين قلوب أسرتينا سريعا فأحب أبي أباها، وصار صديقين وفيين، ونشأت صداقة عميقة بين أمي وأمها منذ اللحظة الأولى، عمق منها اغتراب أسرة خطيبتي وقلة أقاربها ومعارفها في مصر، وسعى أبى لتعييني وتعيين فتاتي في إحدى الشركات الاستثمارية التي ظهرت فجأة في مصر في أواخر السبعينات، وقدم كل ما يستطيع من عون مادي في حدود قدرته، فاستطعت بعد عامين من العمل الحصول على شقة مناسبة في المعادي الجديدة، وتم زفافنا في حفل عائلي صغير، وبدأت أيامنا الجديدة فأكملت العشرة معرفتي بزوجتي وتكشفت لي أنها أستاذة في الطهو وخصوصاً للأصناف الشامية التي لا نجيدها .. وأستاذة في التدبير المنزلي .. وفى الحب ورعاية زوجها، فسعدت بها سعادة لا توصف، أما أمي فكانت لا تناديها إلا ( بالسنيورة) وأحبتها حباً عميقاً وأحبتها زوجتي بإخلاص، ووجدت فيها أماً ثانية ، ورغم عزلتنا في المعادى الجديدة فلم نشعر بالوحدة ولا بالملل أبدا. فكانت شقتنا دائماً تستقبل شقيقاتها الصغيرات فيمضين معنا من حين لآخر بعض ليال..

وكنا نذهب للإقامة مع أبي وأمي بإلحاح من زوجتي، ونذهب كل فترة للإقامة لليلة في بيت أبيها.. وأتذكر هنا حادثة طريفة عندما اشتاقت زوجتي لقضاء ليلة في بيت أسرتها لأول مرة بعد زواجنا فاصطحبتها إليه وأمضيت السهرة مع الأسرة ثم استأذنت لقضاء الليل في بيت أبي القريب.. فقال لي صهري بانطلاقه المعتاد: هذا لن يكون فالرجل عندنا يبيت مع حرمته في المكان الذي توجد فيه، وأنت كذلك. يا فلانة كوني معه دائماً في بيت أهله أو في أي مكان يذهب إليه، فازددت حباً له وإعجاباً به.

ومضت حياتنا على هذا النحو الحافل بالمحبة والمسرات العائلية، ثم حملت زوجتي ووضعت طفلة صورة مصغرة من أمها بعيونها الخضراء وبشرتها البيضاء، وأضافت إلى جمالها شيئاً جديداً هو الشعر الأصفر الذهبي، مع إن شعر زوجتي بني اللون فطارت بها أمي فرحاً وأسمتها (بالخواجاية) لجمالها الأوربي الطابع.

وأصبحت (الخواجاية) محور حياتنا مع نموها.. وبدء حركتها وكلامها.. ثم مع شقاوتها وأمراض طفولتها المعتادة، وأصبح ترددنا على بيت أسرة زوجتي أكثر لأننا أصبحنا نودع طفلتنا كل صباح فيه ونعود في العصر لاصطحابها إلى البيت، بعد أن رفضت الشركة الاستثمارية أن تعطى زوجتي أجازة لرعاية الطفلة أكثر من ستة شهور وإلا فصلتها.. وفى هذه الأيام عرضت على زوجتي الاستقالة لكي تتفرغ للطفلة لكنها فضلت الاستمرار لفترة أخرى، لأن مصاريف الحياة كثيرة ولم اعترض رغم تفضيلي لتفرغها لكي تتجنب الإرهاق، لا سيما أننا كنا نستعمل المواصلات العامة وسيارات الأجرة، لكن كل شيء كان محتملاً في ظل الحب والتفاهم، فمضت خمسة أعوام سعيدة..لم ننجب خلالها مرة أخرى رغم إلحاح أم زوجتي وأمي علينا، بأن ننجب شقيقاً أو شقيقة لابنتي لكي يتربيا معاً.. لكن زوجتي رأت أن تؤجل الإنجاب إلى حين تستطيع الاستقالة من العمل وبعد أن نكون وقد وفرنا قدراً معقولاً من النقود يسمح لنا بمواجهة أعباء رعاية طفلين.

وبينما نحن نخطط لذلك فوجئنا أنا وزوجتي بخطاب من الشركة يخطرنا بكلمات قاسية بأن الشركة ستصفى أعمالها وأنها ستضطر آسفة للاستغناء عن خدماتنا خلال ثلاثة شهور.

ووقع على الخطاب وقع الصاعقة.. واهتززت له رغم أنى كنت قد سمعت بعض الأحاديث المتناثرة عن أن بعض شركات الاستثمار ستصفى أعمالها عقب انتهاء إعفاء السنوات الخمس من الضرائب، الذي يكفله لها قانون الاستثمار، وأما زوجتي فرغم حزنها فقد استقبلت الأمر بهدوء وشدت من أزرى وقالت لي أنها كانت عاجلاً أو أجلاً سوف تستقيل.. وأن لدينا من المدخرات ومن مكافأة نهاية الخدمة. ما يكفل لنا الحياة لمدة عامين على الأقل.. أكون خلالها قد وجدت عملا . ولو اضطررت إلى شراء سيارة أجرة والعمل عليها. وخففت عني كلماتها الكثير ولجأت إلى أبي الذي أحيل إلى المعاش فحاول أن يوجد لي عملا .. بلا جدوى.

وصفت الشركة أعمالها فعلا.. وخدعتنا فلم تصرف لنا سوى ربع مستحقاتنا.. ولم أجد مبرر لإنفاق المال والجهد في قضية سيتأخر الفصل فيها وقد لا تثمر ففضلت تركيز جهدي في البحث عن عمل. ودخلت عشرات المسابقات. وعرض على زميل فصل معي من الشركة أن نتشارك في مزرعة دواجن في أرض بعض أقاربه .. فدخلت هذا الميدان وبذلت كل جهدي فيه لمدة سنة انتهت بالخسارة وبفشل المشروع بعد أن التهم نصف مدخراتي، ولولا أن زوجتي منعتني من وضع كل مدخراتي فيه لخسرت الجلد والسقط..

ولم تتغير زوجتي مع تغير الحال إنما ازدادت رعاية لي .. وبحكمة فطرية فيها خفضت مصروفاتنا كثيرا بغير أن اشعر بفارق كبير، واشتريت سيارة أجرة بحال لا بأس بها وعملت عليها وحققت منها دخلاً معقولاً رغم مشاكلها. فأصبحت زوجتي تستقبلني كل مساء بجردل ماء ساخن لأضع قدمي فيه وتجلس هي على الأرض تدلكهما، ومن حولنا طفلتنا( الخواجاية) تلهو وتمرح واستمررت في هذا العمل عامين لم تتوقف خلالهما محاولات أبى مع زملائه السابقين الذين عملوا في الخارج لإيجاد عمل لي، كما لم تتوقف مراسلات زوجتي مع أقاربها في الدول العربية لنفس الغرض.

وأخيرا جاء الفرج على يد مرءوس سابق لأبى كان قد ساعده في الحصول على أجازته للسفر إلى الخارج، وفى تجديدها له أكثر من مرة وأثمرت معه العشرة الطيبة، فأرسل ليستدعيني للعمل تحت رئاسته في إحدى الدول العربية، وفرحت زوجتي فرحاً لا يوصف وسعدت الأسرتان. فبعت السيارة الأجرة وأنهيت الإجراءات وسافرت وحدي لاستلم العمل وارتب أموري. وافترقت عن زوجتي وطفلتي لأول مرة منذ جمع الله بيننا، وأقمت في غرفة مشتركة مع زميل آخر لمدة أربعة شهور حتى يتم تعييني ويصبح من حقي الحصول على بدل سكن، ثم حصلت على الشقة وانتهيت من تأثيثها وأنهيت إجراءات استقدام زوجتي وابنتي.. وطلبت من زوجتي إرسال أوراق الطفلة قبل مجيئها لأحجز لها مكاناً في مدرسة ابتدائية قريبة من مسكني، وحجزت لها بالفعل مكاناً ودفعت الرسوم وأرسلت تذاكر الطائرة وحدثتني زوجتي بالتليفون تحدد لي موعد وصولها بعد أسبوعين ، وكان شوقي لزوجتي وطفلتي قد بلغ أقصى مداه.. فمرت بى الأيام الباقية كأنها شهور.. وحاولت أن اقطع مللها بإعداد كل ما تحتاجان إليه من مطالب ، فاشتريت لزوجتي بعض الهدايا والبارفان .. ولطفلتي عدة لعب كبيرة، ونظفت الشقة وغسلت جدرانها بالماء والصابون، وجاء اليوم الموعود فرتبت الشقة.. ورششتها بمعطرات الجو وأشعلت فيها عدة أعواد من البخور الطيب، ثم جاءني زميل متزوج تعرفت به في الغربة وتصادقنا جاءني بسيارته ليصطحبني مع زوجته لاستقبال زوجتي في المطار والتعرف عليها كعادة من تجمعهم هنا الغربة والوحدة. ووصلنا إلى المطار. ووقفت في مكان المستقبلين أشب على قدمي لأرى زوجتي وطفلتي حين تدخلان الدائرة الجمركية.. ومع كل وافد جديد أتطاول لأبحث عنهما حتى رأيت زوجتي بصعوبة ترتدي فستانا كحلي اللون، فلوحت لها بيدي بشدة لكنها لم ترني.. فقفزت مرة أخرى لأرى ابنتي فلم أرها في زحام القادمين.. وتابعت زوجتي وهى تقف أمام ضابط الجوازات ثم غابت عن عيني في منفذ الجمارك، فأسرعت إلى الباب لاستقبالها ومن خلفي صديقي وزوجته، ورحت أتفحص القادمين واحدا وراء الأخر حتى ظهرت أخيرا زوجتي تدفع أمامها عربة فوقها حقيبة واحدة، وصرخت من الفرحة واندفعت إليها ثم توقفت قليلا لأني لم أر طفلتي معها.. وكدت اجن من الغضب ربما لأول مرة منذ عرفتها.. إذ كيف هان عليها أن تتركها وحدها في مصر؟ وكيف تتخذ هذا القرار وحدها ونحن نتشارك في كل أمور حياتنا؟ ومع ذلك فقد غلبت فرحتي بلقائها على كل شيء فاندفعت إليها وأمسكت بيديها ووقفنا نترامق ودموعي تترقرق في عيني ودموعها تنساب في صمت على ابتسامتها الشاحبة الرقيقة. وسألتها بلهفة فين الخواجاية؟ فلم ترد.. فترددت قليلا ثم قالت اللي أخذها من قدامك.. يأخذ حبها من قلبك، ولم افهم شيئا فكررت نفس الجملة الغريبة ودموعها تتساقط كالمطر فوقفت ذهلا انظر لزوجتي ثم انظر لصديقي ثم إلى زوجته. كأني التمس منهما المساعدة.. فلا أجدها.. ولم أجد شيئا سوى صديقي يحاول أن يسحبني برفق إلى السيارة وزوجته تفعل نفس الشيء مع زوجتي، ولفت منظرنا بعض الواقفين وبعضهم من مواطني زوجتي فشاركوا صديقي دفعي إلى السيارة.. وهم يقولون.. اركب مع صديقك.. اركب .. الله معك. فركبنا السيارة.. وفيها فهمت معنى العبارة الغريبة أنها دعاء مألوف في مجتمعهم للمحزون أن يخفف الله أحزانه بانتزاع حب العزيز الراحل من قلبه..كما غادر الدنيا. لكن كيف .. ومتى.. وأين وقد تحدثت معها منذ أسبوعين فقط وعرفت كل شيء في الرحلة المريرة من المطار إلى المدينة. ومن بين دموعها وشهقاتها فهمت بصعوبة شديدة أن ابنتي الجميلة بنت السابعة التي كانت تمتلئ نشاطاً وحيوية قد هاجمها مرض غريب بدا بارتفاع مذهل في درجة الحرارة ثم..ثم.. ثم انتهى الأمر في عشرين يوماً ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله فلا حب أغاث ولا مال أجدى ولا شيء رد القضاء الذي لا راد له، وقد نفذ السهم قبل مجيئها بأسبوع.. فرأت عدم إبلاغي به في حينه لتوفر علي أسبوعا من الجحيم. ثم أتت إلي لنتشارك في العذاب كما تشاركنا في السعادة.

ودخلت شقتي التي عطرتها قبل ذهابي للمطار محطماً منهاراً وكان همي الأول هو أن أغلق بالمفتاح الغرفة التي أثثتها (للخواجاية) لكيلا لا تراها زوجتي وترى اللعب التي كان تنتظرها.. وحاول صديقي وزوجته بكل جهدهما أن يصطحبانا للإقامة عندهما في هذه الليلة لكيلا يدعانا وحدنا، لكنى رفضت بإصرار وأكدت لهما أنى في حاجة للاختلاء بنفسي، وتوالى الزملاء ومعارف الغربة على زيارتنا لتقديم العزاء، واتصل بى أبى وأبوها ليواسياني، وفتحت زوجتي حقيبتها الوحيدة فإذا بكل ما فيها من الملابس السوداء، وخيم الحزن الثقيل على عشنا الذي تصورت انه سيجمع بيننا لنعرف فيه من جديد أنغام السعادة. وقد مضى الآن شهر ونحن على هذه الحال.. وكل يوم نتعذب لكي ننام ونبتلع أقراص الفاليوم لكي تخمد أفكارنا قليلا، ثم اصحو فى الفجر فيكون أول ما افتح عيني عليه هو خيال طفلتي الحبيبة .. بعيونها الخضراء وشعرها الذهبي فاسأل نفسي.

 



ولكاتب هذه الرسالة أقول:


يا الهي.. كأن معايشة الآلام قد علمتني توقع الأحزان قبل أن تجيء بظلها الرمادي الكئيب.. فمنذ بدأت تشير إلى ابنتك الجميلة وشعرها الذهبي وعيونها الخضراء وتركز عليها أكثر من مرة ، وأنا أتوجس خيفة من شر قد يصيبها في نهاية الرسالة، فما أن وصلت إلى مشهد المطار المفجع حتى خفق قلبي معك وأصبحت الهواجس حقيقة محزنة. فماذا استطيع أن أقول لزوجتك الملائكية الرقيقة ولك أنت أكثر مما قلت من قبل لرفاقكما من جرحى الحياة! لقد بكى أحد الحكماء ولده فقيل له أتبكى وأنت اعرف الناس بأن الحزن لا يفيد! فقال أن هذا بالذات هو ما يبكيني.

وهكذا نفعل بغير إرادة فنبكى ونحن اعرف الناس بأن الحزن لن يرد غائباً، ولن يعيد راحلاً.. ولا بأس بذلك في حدود الحكمة حتى تستشفي الصدور، ولو تحملنا لكان أفضل .. لكن من يستطيع ذلك إلا ذو صبر عظيم؟ إن الابتلاء يا صديقي حق لا مرية فيه. وأكثر الناس ابتلاء في الدنيا هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل هكذا وكل ما يصيب الإنسان مما لا حيلة له فيه يحسب له ويجزيه الله عنه في الدنيا وفى الآخرة خير الجزاء. وبعد ذلك فلا مفر من أن نواجه أقدرانا بشجاعة، ومن الحكمة أن نحاول تحجيم خسائرنا، فإذا كنا قد خسرنا ما لا نستطيع استرداده.. فليس من العقل أن نضيف إلى ذلك ما نستطيع بالإيمان والتسليم بإرادة الخالق منعه من خسائر أخرى كخسارتنا لأنفسنا وصحتنا وسلامة جهازنا العصبي ونظرتنا السليمة إلى الحياة، فنشقى بما خسرنا ما بقى لنا من العمر.. والزمن في النهاية كفيل بمداواة الجراح.. ولكل جذوة ألم أوان تخمد بعده.. وتهدأ ويستجاب الدعاء لا بانتزاع حب الأعزاء من قلوبنا بل بالصبر على فراقهم.. وفى كل ذلك فإن لإرادة الإنسان دوراً عظيماً في مساعدة نفسه على الخروج من المحنة ولولا نعمة الإيمان والنسيان ما تصبر احد على ما تقذفه به أمواج الحياة من ألام وأمير الشعراء يقول:

وصابر تلهج الدنيا بنكبته          تخاله من جميل الصبر ما نكبا

وما أكثر من يدبون في الأرض وتخالهم من جميل الصبر ما نكبوا.. فاعتصما بجميل الصبر والتمسا السلوى والنسيان بالخروج من عزلتكما، وبأن تشغلا نفسيكما بزيارة الأصدقاء وباستقبالهم وبالتماس الصحبة والإيناس معهم، وبالمشاركة في النشاطات الاجتماعية المفيدة، وافتحا مسامكما للحياة من جديد.. فأن كانت زهرتكما الجميلة قد ذوت فلسوف تهديكما الحياة باقة من الزهور تنشر أريجها في عشكما الصغير بإذن الله.. وأنتما شابان مثاليان صنعتما بالحب والكفاح والإرادة حياة سعيدة مثالية.. وجرح الشباب مهما كان غائراً أسرع في الالتئام من جروح غيرهم، ومثلكما قادر بإذن الله على أن يعيد أنغام السعادة إلى حياتكما ويستعيد الأيام الجميلة الماضية من جديد، لأن كلا منكما قادر على أن يهب السعادة لشريك الحياة وعلى أن يتذوقها، والقادرون على السعادة قلة وأنتما منهما فلا تبددا الحلم الجميل في اجترار الأحزان التي لا تفيد وثقا بالله واعتمدا عليه وسارعا بإنجاب زهرة جديدة تعيد السعادة إلى عشكما، وتذكرا دائما أن سيد الخلق أجمعين قد ابتلى في ولده فبكى ولم يقل ما يغضب ربه، وأن أحسن الناس عملاً هم أصبرهم على البلاء كما يقول الشاعر الانجليزي ميلتون، واسألا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج.. له العتبى حتى يرضى .. ولكما نعم الجزاء أن شاء الله.. ورضوان من الله أكبر ونعم أجر الصابرين.

  *نشرت سنة 1988 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة

 شارك في الإعداد

ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي

reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود