القائمة الرئيسية

الصفحات

ثمن الحرمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 ثمن الحرمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

ثمن الحرمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 

إنَّ خير ما ننتقم به ممن أساءوا إلينا هو ألا نصبح مثلهم ، وألا ننجرف إلى نفس صَغَارهم ودناياهم معنا !

عبد الوهاب مطاوع

 

لا أعرف ماذا ستقول عني بعد أن تقرأ هذه الرسالة .. لكني أكاد أجزم بشيء واحد ، هو أنك ستهتف بينك وبين نفسك قائلاً : سبحان الله ! ثم تقول لي بعدها ما تشاء من رد أو تعليق .. وأبدأ معك القصة من البداية فأقول لك : إنني قد تعرفت بها وهي تعمل خارج مصر .. وتآلفنا سريعًا واتفقنا على الارتباط .. وتم الزواج بالفعل وبدأنا حياتنا الزوجية ، ثم ما لبثت أن رجعت إلى مقر عملها لتقضي العام الأخير من إعارتها .. وانتهى العام سريعًا أو بطيئًا لست أدري .. ورجعت زوجتي ، فإذا بها تدخر لي مفاجأة غير متوقعة هي فرصة عمل في نفس البلد الذي كانت تعمل به ، ولم أكن في الحقيقة شديد التحمس للسفر ، فعملي في بلدي مستقر ودخلي لا بأس به ، وزوجتي كما يقولون (مستورة) ولديها رصيد في البنك ، وقد تزوجنا في الشقة التي تملكها ولم ننجب بعد ، لكن زوجتي أقنعتني بضرورة السفر لتأمين مستقبلنا أكثر وأكثر ، وألحَّت عليَّ بتأجيل الإنجاب إلى أن تنتهي فترة غربتي ونرجع للاستقرار معًا في مكان واحد ، واقتنعت بمنطقها الحكيم .

 

 وسافرت وفي نيتي ألا تطول غربتي عن عامين ، وعشت وحيدًا أؤدي عملي بإخلاص ، وأرسل إلى زوجتي ما يزيد على متطلبات حياتي من نقود كل شهر لتضعها في حسابها في البنك .. فليس لي حساب باسمي ، ولم يتسع الوقت لأن أفتح لنفسي حسابًا جاريًا قبل السفر ، وزوجتي محل ثقتي .. وهدفنا واحد وهو تأمين مستقبلنا معًا ، مضى العام الأول والثاني أيضًا على نفس الوتيرة ..والخطابات متصلة بيني وبين زوجتي .. أبثها شوقي وتبثني لهفتها على اجتماع شملنا ذات يوم قريب ، وبدلاً من أن أكتفي بعامين من الغربة كما خططت لنفسي ، انسقت وراء إغراء تأمين المستقبل ، وللرغبة للاستفادة القصوى من الفرصة التي قد لا تتكرر مرة أخرى .. فمضى عام ثالث ورابع حرصت خلالهما أيضًا على تحويل كل مدخراتي إلى زوجتي في مصر ، ثم انتهى عقدي أخيرًا ، فرجعت راضيًا عن نفسي وحياتي ومتلهفًا على الحياة والاستقرار في بلدي وبين أهلي وبجوار زوجتي وبعد طول العناء .. فلم تمضِ بضعة أيام .. أي والله يا سيدي بضعة أيام وليس شهورًا .. حتى فوجئت بزوجتي تطالبني بالطلاق !

 

لماذا .. وماذا حدث بيننا من مشاكل أو خلافات ونحن لم نلتقِ خلال أربع سنوات سوى فترات قصيرة للغاية ؟ لا جواب سوى طلب الطلاق والإصرار عليه ، وجن جنوني وحاولت أن أعرف سبب هذا الانقلاب المفاجئ .. وسألت وتحرَّيت ، فقيل لي : إن هناك مشروعًأ قديمًا للزواج سبق ارتباطي بها وفشل لأسباب لا أعلمها ، وأنه قد تم إحياء هذا المشروع القديم في الفترة الأخيرة من غربتي ، ولم يبق إلا التخلص من العقبة التي تعترضه وهي الزواج الحالي .. لهذا كان طلب الطلاق والإصرار عليه دون إبداء أسباب !

 

ولم أواجه زوجتي بما سمعت ، فقد كرهت لنفسي أن أستجدي إخلاصها لي .. وقررت أن أستجيب لطلبها للطلاق بعد تسوية الأمور المعلقة بيني وبينها ، وأهمها مدخراتي التي حولتها إليها في أربع سنوات ، فإذا بها تقول لي بجرأة عجيبة إنه لا حق لي في معظمها .. لأنها (ثمن الحرمان) الذي تحملته راضية طوال أربع سنوات وهي تعيش وحيدة ، وأنه بعد خصم مؤخر صداقها ونفقتها لمدة عام ونفقة المتعة .. و(فارق) ثمن الشبكة التي كان ينبغي أن أقدمها لها وليست تلك التي قدمتها ، و(فارق) المهر اللائق بها وليس ذلك المهر الاسمي المتواضع الذي دفعته ، وبعد خصم بعض التكاليف الإضافية للزواج التي تحملتها هي متطوعة وبغير أن أطالبها بذلك ، وخصم (ثمن الحرمان) الذي لا يقدر بمال ، فإنه لا يبقى لي من شقاء غربتي لديها إلا حوالي الربع فقط ، وسوف تدفعه لي راضية بمجرد إتمام الطلاق .

 

ذُهلت لما سمعت واسودَّت الدنيا في عيني ، ولم أدْرِ ماذا أفعل وأنا أرى شقاء غربتي يضيع أمامي ، إلى جانب ما أحس به من هوان وطعن لرجولتي ، فلجأت إلى الوسطاء بيننا لنتوصل معًا إلى حل عادل لا تغتصب به مالي وشقاء غربتي ولا يبخسها في نفس الوقت حقها ، فلم تفلح أية مساعٍ للتوفيق بيننا ، ويئست تمامًا من محاولات التوفيق ، فسلمت بالهزيمة والعجز ، وجمعت كل ملابسي وأوراقي وهجرت بيت الزوجية ، ورجعت إلى بيت أمي أجر ورائي أذيال الخيبة وأشعر بقهر مرير .

 

ومضت ثلاثة أيام أكاد أجزم بأنني لم أذُق خلالها طعم النوم ، فإذا بزوجتي تتصل بي لتطالبني بالإسراع بإجراءات الطلاق ، ولم يكن أمامي مفر سوى الاستجابة ، فنهضت لأبحث بين أوراقي عن قسيمة الزواج لأطلقها وأستخلص منها بعض مدخراتي بحسابها الظالم ، ورحت أقلب بين الأوراق ، فإذا بي أعثر على توكيل قديم موثق في الشهر العقاري منحته زوجتي لي خلال عام زواجنا الأول لكي أسحب من حسابها بالبنك مبالغ أسلِّمها لوالدها ووالدتها حسب رغبتهما ، ونظرت إلى هذا التوكيل القديم الذي لم أره ولم أستعمله منذ

سنوات وأنا أرتجف وأتصبب عرقًا ، وتساءلت : ترى هل أراد لي الله أن أحفظ به حقي من الاغتصاب ؟ لقد غبت أربع سنوات لم يَرِد خلالها ذكر هذا التوكيل على لساني أو لسان زوجتي مرة واحدة .. فلماذا تجاهلته هي ؟ هل لأنها قد ألغته بغير أن أدري وأبطلت أثره ؟ أو هل لأنها أبلغت البنك بعدم صرف أية مبالغ من حسابها بمقتضى أي توكيل من أي نوع ؟ لم أعرف شيئًا من ذلك .

 

وكان الوقت – حين عثرت على هذا التوكيل – قرب الفجر ، فلم أُطِق صبرًا على البقاء في البيت ، ونهضت فارتديت ملابسي وغادرت بيت والدتي إلى شوارع القاهرة أجوبها ذاهلاً ومتفكرًا ، وأجلس في مقاهيها الساهرة لأقطع الوقت ، حتى أشرق الصبح بنوره على القاهرة ، وتعجلت الوقت أن يتحرك بكل لهفة إلى أن جاءت الساعة الثامنة والنصف ، فكنت أول من دخل البنك ومعي جواز سفري وبطاقتي الشخصية ، وقدمت التوكيل لموظف البنك وأنا أترقب في كل لحظة أن يصدمني بأن لديه ما يمنعني من صرف أية مبالغ مالية به ، فإذا به يقدم لي أمر دفع ويطلب مني أن أسجل به ما أريد من النقود ، فأمسكت بالقلم وغالبت ارتعاش يدي حتى أستطيع السيطرة عليه ، وكتبت الرقم الذي يمثل كل مدخراتي في السنوات الأربع بدون العدوان على مليم واحد من مالها وقدمته لموظف البنك ، فاستمهلني لحظات مضت وكأنها دهر ، ثم فوجئت به يضع أمامي رزم أوراق البنكنوت ويقدم لي مظروفًا كبيرًا لأضعها به ، فتنفست الصعداء وحملت المظروف ، وغادرت البنك وأنا أشعر بأن الدماء قد سرت من جديد في عروقي ، وأنني قد استعدت حيويتي التي فقدتها تمامًا خلال الأيام الثلاثة الماضية .

 

ومن البنك توجهت مباشرة إلى مكتب المأذون وانتظرته حتى جاء وأتممت الطلاق ، ثم رجعت إلى بيتي خفيفًا كالطائر المرح ، واتصلت بزوجتي وأبلغتها بما فعلت بالتفصيل .. وأعلنتها أن ورقة الطلاق في الطريق إليها ، وأن التوكيل لديَّ ينتظر أن ترسل لي من يتسلمه مني لأنني لا أغتصب مال أحد ؛ فهاجت وماجت وتوعدت وهددت وبكت ، وأنا صامت وسعيد ومبتهج .. وانتهت المكالمة .. وعلمت فيما بعد أنها قد اتصلت بزوج المستقبل وطالبته بأن يفعل شيئًا ليعيد به إليها (مالها) ، فأعلنها بعجزه عن أن يفعل أي شيء .. لأن ما فعلته أنا كان بمقتضى توكيل قانوني موثق ولا شيء فيه من الناحية القانونية .

 

ألم أكن على حق حين قلت لك في البداية إنك ستقول حين تقرأ هذه الرسالة : سبحان الله !




* ولكاتب هذه الرسالة أقول :

نعم قلت : سبحان الله تعليقًا على رسالتك وعلى سرعة تغيير المواقع في قصتك بين من كان يمسك بيده خيوط القوة ويملي رغباته ويفرض تسويته الظالمة ولا يقبل فيها رجاءً ولا مراجعة ، وبين من كان لا يملك إزاء جبروت القوة سوى الإحساس بالعجز المهين والقهر المرير ، لكني أقول لك ذلك بعد ذلك إنه من تمام الشكر لله – سبحانه وتعالى – على نصره لك ورده لكيد الكائدين بك إلى نحورهم .. ألا تستسلم لإحساس الزهو بالانتصار والاعتداد بإحساس القوة فيجرفك ذلك إلى موقف التعنت ، ورفض أداء الحقوق لأصحابها التي كنت قبل قليل ضحية له وتستجير بالسماء لإنصافك منه . ذلك أن أسوأ ما في النفس البشرية – كما يقول لنا المؤرخ الانجليزي أرنولد توينبي – هو أن نفعل بالآخرين ما كنا نجأر بالشكوى من ظلمه وجبروته قبل حين .

 

وقد استلفت نظر المستشرق الألماني الدكتور مراد هوفمان خلال دراسته للقرآن ، أن سورة النصر تأمر المؤمنين ألا يتملكهم الزهو ساعة النصر ، وأن يستغفروا ربهم في خشوع يذكرهم بأن النصر من عند الله ، وأن للمهزومين حقوقًا إنسانية ينبغي الوفاء لهم بها مهما كان من سابق عداوتهم وجبروتهم قبل انكسارهم . فالسورة الكريمة تبدأ بمقدمة منطقية هي : ﴿إذا جاء نصر الله والفتح 1 ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا﴾ .. أما النتيجة المنطقية المترتبة عليها فليست مما يمكن أن يخطر بوجدان بشر فُطروا على التخاذل والانكسار عند الهزيمة ، وعلى الزهو والشموخ عند الانتصار فتقول :

﴿فسبِّح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا﴾ ، وقال الدكتور هوفمان في تعليقه على هذه السورة التي توقف أمامها مذهولاً ومتعجبًا : إن التاريخ الإنساني كله كان من الممكن أن يتغير وأن يتجنب العالم ويلات الحرب العالمية الثانية لو كان الحلفاء المنتصرون على ألمانيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى قد عملوا بنصيحة سورة النصر في محادثات فرساي 1919 عقب انتهاء الحرب بهزيمة الألمان ، ولم يستسلموا لشهوة الكراهية والرغبة في الانتقام من ألمانيا وإذلالها ، مما بذر بذور الثأر في نفوس الألمان وأدَّى إلى بزوغ نجم هتلر واشتعال الحرب العالمية الثانية بعد عشرين !

 

وأنت يا صديقي قد انتصرت بفضل من الله واسترددت مالك ، فلا تدع زهو النصر وغرور القوة يجرفانك إلى ارتكاب نفس الخطيئة التي ارتكبتها معك زوجتك حين أرادت أن تفرض عليك تلك التسوية الظالمة لما زعمته من حقوق لديك ، وأغربها "ثمن الحرمان" .. هذا ، وخير ما تفعله هو أن تسرع بطي هذه الصفحة المؤلمة كلها من حياتك لتبدأ صفحة أخرى واعدة بالسعادة والأمان بإذن الله .. ولن يتحقق لك ذلك إلا إذا تخلصت من كل ذيول المشاكل المعلقة بينك وبين مطلقتك ، وإلا إذا ترفَّعت عن شهوة الانتقام منها والإعسار عليها في نيل حقوقها المشروعة ومنازعتها فيها ، فليس كالعدل حامٍ للحقوق ، ولا حافظ لسلام الإنسان النفسي ، وكلما كانت تسوية أي نزاع عادلة خفت حدة الضغائن .. وفقد الخصوم أية دوافع للانتقام منا ، فنحيا حياتنا في سلام .

 

"فسبِّح بحمد ربك" يا صديقي أن نصرك على من أرادت اغتصاب مالك وثمرة شقاءك .. واستغفره من همس النفس الأمارة بالسوء لك بالاستسلام لشهوة الانتقام والامتناع عن أداء الحقوق ، واحتفل بنصرك المبين بأن تخلِّص ضميرك من كل عبء عليه ، فتتمتع بسلامة النفس ، وتتهيأ لاستقبال السعادة التي ستعوضك بها الحياة قريبًا بإذن الله .. وإذا كان لزوجتك السابقة عليك أية حقوق مادية عدا مؤخر الصداق والنفقة فلا تتردد في أدائها إليها وبالطريق الودي بعيدًا عن المحاكم وعنائها ، وثِقْ أنك إن فعلت ذلك فإنك لا تريح ضميرك وربك فقط ، بل وتنتقم أيضًا من مطلقتك بإشعارها بفداحة الفارق بين قِيَمَك الأخلاقية وقيمها ، وبعمق خسارتها لك . والإمبراطور الروماني الحكيم ماركوس أورليوس كان يقول : إن خير ما ننتقم به ممن أساءوا إلينا هو ألا نصبح مثلهم .. وألا ننجرف إلى مثل صَغَارهم ودناياهم معنا . فافعل ذلك بلا تردد ، وانتقم منها بألا تكون مثلها .. وترقَّب بعد ذلك تعويض السماء لك عما تكبدته من آلام ، ولن يطول الانتقام حتى ترى بشائره بإذن الله .

 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود