الابتسامة الذابلة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003
أريد أن أروي لك
قصتي بصراحة كاملة.. وأرجو ألا تتسرع في الحكم علي قبل أن تصل إلى نهايتها ..
فأنا سيدة شابة نشأت في أسرة متوسطة الحال, وكنت الابنة الصغرى لأبوين فاضلين,
ولي أختان تكبرانني ولأمر ما وهبني الله سبحانه وتعالى جمالا مميزا ولافتا للنظر
على عكس شقيقتي متوسطتي الجمال, فصرت منذ طفولتي ابنة الأسرة المدللة المميزة
التي لا يرد لها طلب, وأكسبني ذلك درجة عالية من الاعتداد بالنفس, لا أخجل من
أن أقول لك إنه قد بلغ بي حد الصلف والغرور, وتضاعف هذا الغرور بعد زواج
الشقيقتين وأنا في بداية مرحلة الجامعة وخلو بيت الأسرة علي مع أبي وأمي, حيث
أصبحت محور حياتهما.
وقبل ذلك كان
كثيرون من الشبان قد بدأوا يتهافتون على التعرف علي في الجامعة وفي النادي وفي
العمارة التي نقيم فيها فضننت بنفسي على أي شاب منهم.. ولم أسمح لنفسي بالخروج
على التزامي الأخلاقي, وتعاملت مع هؤلاء الشبان جميعا بجفاء شديد واستعلاء كبير
كأنني أستكثر عليهم أن يطمح أحدهم إلى الفوز بي, وحين بدأ الخطاب يتوافدون علي
رفضتهم جميعا بعد أول أو ثاني زيارة. هذا لتواضع امكانياته وذاك لثقل ظله وذلك
لأن حديثه لم يعجبني.. ولم أكن أكتفي بالرفض فقط وإنما أجعل كلا منهم موضوعا
لسخريتي وتهكمي عليه لفترة طويلة حتى حذرتني أمي من عواقب الغرور والتبطر.. وبالفعل فلقد انقضت فترة تقرب من
العام لم يتقدم خلالها لي أحد, وراحت أمي تندب حظي.. وتقول لي إنني قد طفشت
العرسان مني بكبريائي وغروري وسخريتي منهم.. وتطلب مني التواضع واحترام من
يتقدمون لي أو يحاولون الاقتراب مني بهدف الزواج.
وفي هذه الفترة رشح
لي أحد أقاربي شابا من أصدقائه وطلب مني رؤيته.. وألح علي أن أتعامل معه برفق
وألا أتسرع في الحكم عليه, وجاء الشاب في موعده.. ودخلت عليه الصالون وهو يجلس
مع أبي وأمي وأختي فما أن وقع عليه نظري حتى ركبتني عنجهيتي القديمة, وكدت أرجع
من حيث دخلت.. لولا نظرة صارمة من أبي, فجلست ولم أنظر تجاهه.. وتشاغلت
بالحديث مع أختي, وأبديت اللامبالاة بما يجري حولي وكاد الضحك يغلبني حين تكلم
هذا الشاب, فوجدته يتلعثم في حديثه ويرتبك وما أن انتهى اللقاء حتى انطلقت أسخر
منه وأقلده وأنتقد طريقة كلامه وجلوسه.. وملابسه وكل شيء فيه.. وأصررت على
رفضه, ولم أستجب لضغط أبي علي للتفكير في عرضه.. ولم أتوقف أمام كل ما قاله
عنه من أنه شاب طيب ومستقيم ومشهود له بحسن الخلق ومن أسرة طيبة وميسورة ويعمل
عملا ممتازا ولديه كل إمكانات الزواج..
وتردد الشاب على
أبي أكثر من مرة يتعجل القرار في أمره, فكان أبي يعده خيرا ويطلب منه الصبر,
ويرجع للحديث معي فلا يجد مني إلا الإصرار على الرفض حتى ضاق بي وهددني بأن يزوجني
لأول طارق على بابي أيا كان رأيي فيه, وشاركته أمي وأختاي في الضغط علي.. وحذرتني
من التبطر على النعمة وإلا حكمت على نفسي بالعنوسة والوحدة, خاصة أنني قد اقتربت
من الثامنة والعشرين ولم أوفق في الزواج بالرغم من جمالي, وبدأ أبي يضيق علي في
الخروج والدخول لأول مرة في حياتي ويطالبني بقبول هذا الشاب أو بإحضار من أراه من
وجهة نظري جديرا بالارتباط بي, فضقت بدوري بكل ذلك وأعلنت موافقتي على هذا الشاب
وفي نيتي ألا أكمل المشوار معه.. لأنني أستحق من هو أفضل منه.. وجاء الشاب
فرحا بقبولي له مع أسرته.. وتمت قراءة الفاتحة.. وسئلت عن الموعد الذي أراه
مناسبا لتقديم الشبكة فحددت موعدا بعد عام, وأصررت عليه في وجه معارضة أبي وأمي
وأسرة الشاب بدعوى أنني أريد أن أعرف خطيبي جيدا قبل إتمام الارتباط معه..
وتعمدت منذ الأيام الأولى للخطبة ألا أبدي له أية استجابة عسى أن يضيق بي هو بعد
فترة وينصرف عني فأتزوج من هو أحسن منه.. وتعاملت معه دائما بتحفظ وصل في بعض
الأحيان إلى حد الجفاء, ولم أشفق عليه مرة وهو يحاول أن يخطب ودي أو يتقرب إلي
أو يعبر لي عن مشاعره ولم أتردد في إشعاره بالخجل من نفسه في بعض هذه المواقف
وتهربت دائما من مقابلته أو الخروج معه, وكلما جاء لزيارتي جلست معه بضع دقائق
ثم ادعيت إصابتي بالصداع وانسحبت وتركته يستكمل الجلسة مع أبي وأمي حتى قال لهما
ذات يوم إنه يعرف أنه لم ينجح حتى الآن في اكتساب مودتي.. لكنه يأمل فقط في أن
أعطيه الفرصة لكي أعرفه.. وأدرك عمق ما يحمله لي من مشاعر.
وحين بدأنا الحديث
عن استعدادات الزواج, تعمدت تصعيب كل الأمور عليه.. ومخالفته في كل رأي
يبديه.. وبدلا من أن يتوقف ويشعر برفضي له ويثور لكرامته.. ويفسخ الخطبة..
كان يرجع في المرة التالية ليبلغني بأنه قد استجاب لما طلبت وأرهق نفسه لكي
يرضيني, لهذا صفعتني أمي على وجهي لأول مرة في حياتي حين صارحتها بأنني لا أريد
هذا الشاب مهما يفعل من أجلي لأنه لا يستحقني وانفجرت في وهي تلعن غروري وبطري
وتوعدتني بالخراب والشقاء إذا استمررت في ذلك.. وهكذا ضاقت الحلقة حولي ولم أجد
مفرا من تحديد موعد لعقد القران والزفاف وتم الزفاف. ولاحظت سعادة زوجي الغامرة في
الحفل وأنا أنظر إليه في فتور وأرتب للخطوة التالية من خطتي لفك هذا الارتباط قبل
بدايته!
وحين انفردنا
بنفسينا عقب الحفل شعرت باشمئزاز غريب من كل شيء ولم أترفق بزوجي وصارحته على
الفور بأنني لا أحبه, بل وأشعر بالنفور منه ولن أسمح له بأن يمسني لأن هذا الزواج
لن يستمر, ولابد لنا أن ننفصل بعد فترة مناسبة بحيث لا نثير أقاويل الناس
علينا.. وراقبت وجهه وأنا أقول له ذلك ورأيت ابتسامته الواسعة وهي تذبل وتنكمش
شيئا فشيئا ويحل مكانها تعبير غريب عن الألم والخجل.. والارتباك ولم يزد عن أن
قال لي بصوت خفيض: ولماذا قبلت بي وتزوجتني ولم أرغمك على شيء ؟ فلم اجبه
بشيء.. فتحرك إلى خارج الغرفة وهو يقول لي: سامحك الله فيما آذيتني فيه بغير
ذنب جنيته.
وتغيرت طريقة
تعامله معي من هذه اللحظة, وتغيرت روحه كذلك فأصبح لا يتحدث معي إلا للضرورة
القصوى وبأدب شديد.. واكتسى وجهه على الدوام بملامح الألم فإذا ابتسم لوجود أبي
وأمي أو أحد من أسرته لدينا جاءت ابتسامته ذابلة وحزينة أكثر منها سعيدة, حتى
شكت أمي في الأمر وسألتني فادعيت لها كذبا أن كل شيء على ما يرام, فلم تصدقني
وسألته هو فلم يبح لها بشيء ومدحني لها كثيرا واتفقنا على أن تستمر عشرتنا ثلاثة
أشهر ثم نفتعل خلافا وأرجع إلى بيت أسرتي وأطلب الطلاق فيستجيب له على الفور وتتم
تسوية كل الأمور المادية وديا.. واسترحت إلى ذلك وواصلت حياتي متظاهرة
بالسعادة, وبعد شهرين ونصف الشهر, رجعت من عملي ذات يوم وبدأت في تحضير مائدة
الغداء.. فرن جرس التليفون وسمعت صوت أبي يطلب مني مقابلته في المستشفي التخصصي
القريب من مسكني على الفور لأمر مهم, وانزعجت للنبأ وخشيت أن تكون أمي قد تعرضت
لأزمة صحية طارئة فهرولت إلى هناك ووجدت أبي ينتظرني ويبلغني بأن زوجي قد أصيب في
حادث تصادم بسيارته قبل ساعتين, وأنه في غرفة الجراحة الآن واهتززت للنبأ
المفاجيء.. ووقفت مع أبي وأمي وأسرة زوجي أمام غرفة العمليات ننتظر خروجه,
ورأيته محمولا فوق سرير المرضى ووجهه شاحب شحوب الموت, وخرج
الطبيب فطمأننا على حياته وقال إن الحادث قد نجم عنه كسر في الساق اليمنى ورضوض
شديدة في الحوض وقد تم تجبير الساق وسيظل الجبس فيها لمدة شهر.. وبعدها يزال
وتبدأ فترة علاج طبيعي بسيطة ثم يرجع كل شيء إلى أصله.. وطلب مني أبي أن ألازم
زوجي في المستشفى .. وكلف أمي بإحضار ملابس لي ولزوجي من بيتي.. فشعرت
بالاختناق والاكتئاب لكني لم أفكر في النكوص عن القيام بالواجب وتلفت زوجي حوله
فرآني ورأى أبي وأمي وأفراد أسرته فابتسم ابتسامته الذابلة واعتذر عن إزعاجه لنا.
وحين خلت علينا
الغرفة في المساء.. نظر إلي في تردد وقال لي إنه آسف لما سببه لي من إزعاج..
وآسف أكثر لما سوف يؤدي إليه ما جرى من تأخير بسيط في تنفيذ اتفاقنا لأنه لن يكون
لائقا بي كزوجة فاضلة أن ننفصل وهو مكسور الساق ومريض, فوافقته على ذلك..
وطلبت منه ألا ينشغل بأي شيء آخر سوي صحته.. وأكدت له أنني سأكون سعيدة بملازمته
في المستشفى ورعايته فيه وفي البيت بعد خروجه منه إن شاء الله..
وكنت صادقة فيما
قلته له.. وشعرت بالرضا عن نفسي لوقوفي إلى جواره ورعايته خلال مرضه.. وشعرت
أيضا بالرضا وأنا أقوم له بدور الزوجة المخلصة وأستقبل زواره وأهله وأطمئنهم
عليه.. بل وسعدت بكل هؤلاء الزوار العديدين الذين جاءوا لزيارته من رؤسائه في
العمل إلى زملائه وزميلاته إلى سعاة العمل إلى أصدقائه وأقاربه وبدعواتهم الصادقة
له.. وحديثهم الطيب عنه وعن أخلاقه وطيبته واستقامته وتدينه وبره بالضعفاء,
ودهشت حين زاره ذات يوم خمسة أشخاص وجوههم سمحة وابتساماتهم عذبة.. تهلل وجه
زوجي حين رآهم ورحب بهم بحرارة وسلموا عليه بشوق ثم تحلقوا حول فراشه وأمسك كل
منهم بمصحف صغير في يده وبدأوا في قراءة آيات الذكر الحكيم بصوت جماعي مؤثر لمدة
ساعة, شعرت خلالها بأن الملائكة ترفرف على الحجرة ثم اختتموا قراءتهم بترتيل أسماء
الله الحسني ترتيلا جميلا ساحرا طفرت له عيناي بالدمع, ثم بالدعاء له بالشفاء
العاجل.. وقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين وهموا بالانصراف فأقسمت عليهم ألا
ينصرفوا قبل تناول الشاي, وبعد مغادرتهم سألت زوجي عنهم فأجابني بأنهم جماعة من
الناس الطيبين المتصوفة بعضهم من التجار وبعضهم من كبار الموظفين كان يتردد عليهم
من حين لآخر للصلاة معهم وقراءة الأوراد والأدعية وأنه لم يزرهم منذ ثلاثة أشهر
ويعجب كيف علموا بمرضه !!
وغادر زوجي
المستشفي إلى البيت.. ورجعت إلى بيتي فشعرت حين دخلته بالاشتياق إليه لأول مرة
وتأملت حجراته وأثاثه.. بإحساس جديد وأتاحت لي نقاهة زوجي وقضائي لأوقات طويلة
معه استكشاف شخصيته الحقيقية لأول مرة.. وشعرت بالألفة تجاهه والارتياح له,
وسألت نفسي لماذا نفرت من هذا الشاب.. ولماذا سددت عليه كل الأبواب للوصول إلى
قلبي ومشاعري.. وقد وجدته إنسانا رقيقا ومهذبا وطيبا وراغبا بصدق في السعادة
؟.. وبعد تفكير عميق وجدت أن السبب الأساسي لذلك هو غروري واعتقادي أنني أستحق
من هو أفضل منه؟ وسألت نفسي وماذا يعيب زوجي وهو ابن أسرة طيبة وناجح في عمله
وظروفه المادية مقبولة إن لم تكن ميسورة, وأخلاقه وهو الأهم طيبة وليس منحرفا ولا
مدمنا ولا مستهترا ولا خائنا للعشرة.. فضلا عن أنه وسيم ومريح وتتمناه أية فتاة
أخرى.
وحان موعد فك الجبس
وصاحبت زوجي إلى المستشفى ورجعنا إلى البيت وهو يعتمد على عصا تساعده على حفظ
توازنه إلى أن تسترد ساقه طبيعتها.. وبدأنا مرحلة العلاج الطبيعي وحققت نجاحا
ملحوظا وزوجي يشكرني على كل خطوة أخطوها معه.. وكل شيء أقدمه له كأنني أفعل
المعجزات من أجله.. ثم جاءت اللحظة التي أراد أن يتحدث فيها في أمرنا.. فقال
لي ذات مساء وهو ينظر إلي في خجل أنه قد آن الأوان لأن ننفذ خطتنا بعد أن تأخرت
شهرا كاملا عن موعدها. فوجدتني أسأله: ألم تعد تحبني؟ فنظر إلي طويلا ثم قال لي إنه قد أحبني
منذ رآني لأول مرة في صالون بيتي وظل على حبه لي بالرغم من كل ما لاقاه من جفائي
له وتحفظي معه.. وصدمتي له في ليلة الزفاف وأنه يفكر في دائما ولا أغيب عن خاطره
أبدا, وقد كان سارحا في التفكير في حين أرتكب الحادث الذي وقع له وهو يقود
سيارته, لكنه لا يريد أن يفرض علي حياة لا أريدها وهو الآن مستعد لتنفيذ ما
أريده فهل أريد الطلاق منه؟
فوجدتني أقول له
بصدق وانفعال ووجهي يتضرج بالاحمرار بل أريد الزواج منك فهل لديك اعتراض على ذلك ؟
فعلا الفرح
وجهه.. وضحك منتشيا فارتميت على صدره.. وقبلت رأسه ويده وطلبت منه أن يسامحني
في كل ما سببته له من آلام وأحزان سابقة, وأن نبدأ معا من جديد بعد أن تعلمت
حقائق الحياة.. وتخلصت من غروري وتكبري وبطري.. وطلبت منه أن يعلمني كيف أعيش
في سلام مع نفسي ومع الحياة ومع الآخرين وأن يشركني معه في الأوراد التي يقرؤها
بعد كل صلاة.. وأن يصحبني معه إلى جلسات الناس الطيبين لكي أتزود بالعلم الذي
يعينني على الالتزام بالطريق القويم.. وزوجي لا يرد علي كل عبارة من هذه
العبارات إلا بقوله: الحمد لله.. الحمد لله..
والآن يا سيدي فلقد
عرفت الحياة السليمة والسعادة الحقيقية وتغيرت نظرتي إلى كل شيء في الدنيا..
وأصبحت علاقتي بأبي وأمي وأختي الاثنتين وأسرتي كلها أفضل مما كانت عليه كثيرا
كثيرا, وتراجعت مساحات الضيق والحنق والعصبية والأنانية في حياتي, وازدادت
مساحات السلام النفسي والتعاطف والتراحم, وقد من الله سبحانه وتعالى علي
بالحمل.. وأصبحت الآن في شهري السابع وكل من حولي سعيد بي ويرجو لي الخير, وفي
كل يوم أكتشف في زوجي الجديد والجديد من السمات الطيبة والمزايا الغالية وأنعم
بحبه وحنانه وعطفه وزهوه بي أمام أسرتي وأسرته, وقد أردت أن أكتب قصتي لك لأن
زوجي قد علمني قراءة بابك الجميل ولم أكن أقرأه من قبل, وأريد أن
أناشد كل فتاة مقبلة على الزواج أن تترفق بمن يطلب يدها ويخطب ودها وألا تتسرع في
الحكم عليه ببعض المظاهر العابرة كالتلعثم في الكلام أو الارتباك أو الملابس,
فلقد يكون هذا المتلعثم هو من تتمناه في أعماقها وقد يكون هو القادر وحده علي
إسعادها, وأناشدهن جميعا التخلص من الغرور والتكبر والأنانية.. ولكيلا يضيعن
فرصهن في السعادة كما كدت أن أضيعها علي نفسي, والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
يقول بعض الصوفية إن الشيطان يمني الإنسان بالمفقود لكي ينسيه الشكر
علي الموجود وهذا صحيح يا سيدتي ولقد تحقق في قصتك هذه في فصولها الأولى, فشغلك
عن الشكر علي نعمة الزوج المحب الراغب فيك بصدق والذي تتوافر فيه كل مقومات الزوج
الملائم من أسرة طيبة وأخلاق كريمة وعمل مرموق ودخل كاف وإمكانات الزواج.. ومناك
بمن هو أفضل منه لغير سبب سوي لاعتقادك أنك تستحقين الأرفع والأفضل استمرارا
لإحساسك بالتميز والجدارة والاستعلاء علي الآخرين.. فلقد كانت اعتراضاتك عليه لا
تستند إلي نقائص في شخصيته أو أخلاقياته أو وضعه العائلي والاجتماعي, وإنما إلي
أسباب تتعلق بأفكارك أنت عن نفسك وأحقيتها في نيل جوائز الدنيا المثلى, ولهذا
فحين تغيرت أفكارك وتخليت عن غرورك وصلفك وأدركت حقائق الحياة الأولي بالاهتمام,
زالت الحواجز علي الفور بينك وبين زوجك, وتغيرت نظرتك السابقة إليه.. ولمست
فيه الكثير والكثير مما يستحق الاعتزاز به وعدم التفريط فيه, وتفتحت له مسامك
التي كانت مغلقة دونه بركام من الغرور والتكبر والصلف, فصدقت عليك الحكمة
البوذية القديمة التي تقول إن مفاتيح الجنة هي نفسها التي قد تفتح أبواب الجحيم
بمعني أن الإنسان قد يؤتي مفاتيح الجنة وبدلا من أن يديرها في أبوابها ويدخل لينهل
من نعيمها, فإنه يفتح بها علي نفسه أبواب الجحيم بخطله وسوء تقديره ولقد كان هذا الزوج المحب الراغب فيك
بصدق هو مفتاحك للسعادة الزوجية, لكنك فتحت علي نفسك وعليه أبواب الجحيم وكدت
تضيعين السعادة المتاحة لك لحساب مجهول لا يعرف أحد ماذا قد يحمل لك في المستقبل,
فالحمد لله الذي هداك إلي ذلك وما كنت لتهتدي إليه لولا أن هداك الله.. والحمد
لله أن أفقت من غرورك وتكبرك وبطرك قبل أن تدمري كل فرص السعادة التي أتيحت لك
ويحكم عليك بسقم النفس والوجدان وعدم التواصل السليم مع البشر والحياة إلي ما لا
نهاية, فالغرور كما يقول لنا العظيم شكسبير هو نعمة الله لأصحاب النفوس الصغيرة!!
بمعني أنه يعوضهم عن صغرهم ويشغلهم عن هوانهم وتفاهتهم, أما أصحاب النفوس
الكبيرة فهم أبعد الناس عن الغرور والكبر والبطر لأنهم يعرفون مع الحسن البصري أن
من مدحك فإنما قد مدح مواهب الله فيك فالشكر لمن منحك وليس لمن مدحك.
ويعرفون
أيضا مع البصري أن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا!
لأن الشكر
هو الحافظ للنعم, والاغترار بالنفس والإدلال بها علي الآخرين والتكبر عليهم كل
ذلك ليس من الشكر الذي يحفظ النعم, وإنما من البطر الذي يعجل بزوالها, وقد
يورث أصحابه الذلة من حيث توقعوا أن يرفع من أقدارهم مصداقا لقول إمام المتقين علي
بن أبي طالب كرم الله وجهه: من طلب عزا بالباطل, أورثه الله ذلا بالحق!
انك تبدئين الآن
فقط يا سيدتي الحياة الطبيعية التي ترفرف عليها رايات الإيمان بالله والعيش وفقا
لتعاليمه ونواهيه ونسائم الرضا والسعادة والسلام النفسي.. والعزة الحقيقية وليست
المفتعلة, ولعله من حسن طالعك أن فترة إبحارك في بحار الكبر والغرور والصلف
وبالرغم من أنها قد أخرت زواجك حتى الثامنة والعشرين إلا أنها في النهاية لم تطل
كثيرا ولم تدمر ما أتيح لك من سعادة ووفاق مع زوجك المحب واسترددت نفسك في الوقت الملائم وبدأت حياة جديدة من وسط
ركام الماضي البغيض فهنيئا لك عودة البصر والبصيرة وهنيئا لزوجك اقتحامه الناجح
لحصون قلبك بعد طول العناء.
رابط رسالة الإحساس المؤلم تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر