اللغة السرية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

اللغة السرية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 اللغة السرية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

قرأت رسالة العيون الخضراء وحزن قلبي المريض لصاحب الرسالة الذي فقد طفلته الجميلة ودعوت له بالصبر وأردت أن أروي له قصتي لعلها تخفف عنه بعض همومه .. فأنا یا سیدي طبيب عمري ٤٦ سنة عشت طفولة شقية لا أذكر منها سوى المشاكل المستمرة بين أبي وأمي التي انتهت بالطلاق وعمري عشر سنوات، وتزوجت أمي وعمری ۱۲ سنة وضمت إليها أخوي الصغيرين .. وعاد أبي إلى زوجته الأولى وبقيت أنا مع جدتي العجوز حتى حصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير فالتحقت بكلية الطب وعانيت كثيرا في الحصول على كتب الدراسة فكنت استذكر دروسي بمكتبة الكلية لأني لا استطيع شراء الكتب .. وأتناول معظم وجبات طعامي في مطعم الكلية لقاء قروش زهيدة .. وافعل المستحيل لأحصل على تقدير جيد جدا لأتمتع بالمكافأة المالية للمتفوقين ، وظللت انجح بتقدير جيد جدا حتى وصلت إلى سنة البكالوريوس وتركز أملي في النجاح بتقدير متقدم لأعمل بهيئة التدريس فشاءت إرادة الله أن أمرض بالحمى قبل الامتحان بشهرين وعولجت منها وعز علي أن اعتذر عن دخول الامتحان بعد ما لقيت من صعاب في دراستي وقاربت الرحلة على الانتهاء فتقدمت للامتحان وأنا في دور النقاهة وقد فقدت الكثير من وزني وقدرتي على التحمل والتركيز فكانت النتيجة أني لم أحصل سوى على تقدير جيد .. وضاعت فرصتي في التعيين بهيئة التدريس وحزنت لذلك كثيرا لكني سلمت أمري لله واستسلمت لقدري وبدأت سنة الامتياز وخلالها تعرفت على أسرة صديق لي حالتها بسيطة كحالتي ورغبت في التقدم لخطبة شقيقته ، وتزوجنا بدون أي احتفال لعدم قدرتنا المالية ، وتم تعييني طبيبا بالوحدات الريفية وكانت زوجتي مازالت طالبة فغادرتها إلى مقر عملي وواصلت زوجتي دراستها وتعرضت للإجهاض خمس مرات متوالية ثم تم الحمل أخيرا ورزقنا بطفلة جميلة كالملاك.


 وكانت زوجتي قد تخرجت فاجتمع شملنا في الوحدة الصحية التي أعمل وأقيم بها وفرحت بطفلتي فرحة طاغية حتى أنني كنت بين كل كشف وآخر اذهب إلى الاستراحة لعدة دقائق أداعب خلالها ابنتي واطمئن عليها ثم أعود ، ثم كلفت بالعمل في السويس خلال حرب الاستنزاف فذهبت إليها وتركت ابنتي وزوجتي وعدت بعد شهر واحد فوجدت زوجتي ترتدي السواد وصدمت بأن الملاك الجميل قد عاد إلى بارئه وأنا في عملي نتيجة لإصابته بالالتهاب الرئوي، وتجرعت الألم صامتاً وحاولت التخفيف عن زوجتي وعدنا إلى دوامة الحمل والإجهاض مرة أخرى حتى رزقنا الله بولد شكرنا الله عليه وأملنا أن يعوضنا به خيرا وكنت قد أنهيت سنوات التكليف وعدت للعمل في أحد المستشفيات الحكومية وأقمنا في شقة بسيطة في بيت يملكه تومرجي وانتظمت في عملي وفي مذاكرتي للحصول على الدراسات العليا .. وعملت في عيادات بعض الزملاء خلال أجازاتهم لتحسين دخلي .. لكني لاحظت أن الطفل لا يستجيب للأصوات من حوله فعرضته على عدد كبير من الأطباء فكانت الصدمة أنه أصم أبكم لا يسمع ولا يتكلم وأنه لا علاج له .. وحاولت علاجه في الخارج فرفض الكومسيون الطبي سفره ولم تكن إمكانياتي تسمح بعلاجه في الخارج على نفقتي فصنعت المستحيل لأحصل على فرصة عمل في الخارج لكي أوفر له العلاج ووفقني الله في العمل لمدة ٤ سنوات في أحدى الدول العربية فكرست كل ما ادخرته فيها لعلاجه فكنت أسافر به کل سنة إلى انجلترا وأمريكا بدون جدوى .. فرضيت بما كتب الله مؤمنا بما قلته أنت في تعليقك على رسالة العيون الخضراء من أن كل ما يصيب الإنسان مما لا حيلة له فيه يحسب له ويجزيه عنه الله في الدنيا والآخرة خير الجزاء .. فطمعت في أجر الصابرين وقررت العودة لمصر وعملت في وظيفة أخصائي وافتتحت عيادة خاصة رزقني الله منها رزقا حلالا ونجحت في عملي إلى حد كبير ورزقني الله بابن أخر جاء صحيحاً معافى والحمد لله ، فألحقت ابني الأول بمدرسة للصم والبكم فتقدم في الدراسة بها وجاء ترتيبه الأول على زملائه وهو والحمد لله ذكي جدا ومتدين ويصلي ويصوم ويمارس رياضة كمال الأجسام وحصل فيها على المركز الثاني في بطولة الناشئين ويذهب إلى مدرسته ويعود منها وحده وقد حصل على الشهادة الإعدادية للصم والبكم والتحق بعد ذلك بمعهد التأهيل المهني الخاص بهم وبلغ عمره الآن ١٨ سنة وسيحصل على شهادة تأهيل مهني في الطباعة.

أما أخوه فهو في الثانوية العامة وهما صديقان جدا ومتحابان ومتفاهمان والحمد لله وبينهما لغة لا نفهمها أنا ووالدتهما .. أما أنا فمن خمس سنوات ونتيجة للصراعات والمعاناة التي عشتها فقد أصبت بانفصال شبكي بعيني اليسرى وفقدت الرؤية نهائيا بها.

 



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 أهلا بك وبه يا سيدي حين يحصل على شهادته وتتفضلان بزيارتي .. وأرجو أن يوفقني الله في تحقيق رغبتك وفي فتح طريق العمل أمام شاب ذكي كفء مثله .. فمن أسراره الخفية جلت قدرته أنه حين يحرم فهو يهب أيضا ما يعوض به ما منعه لحكمة لا نعرفها ، فيودع في أمثال ابنك قدرة مضاعفة على العمل وذكاء غير عادي واجتهادا لإثبات الذات وتأكيد جدارتها يفوق اجتهاد بعض الأصحاء الذين لا يجدون في أعماقهم دافعا قويا للاجتهاد والتفوق .. ومن أمثلة هذا التعويض الإلهي .. هذه القدرة العجيبة على التفاهم بين ابنيك التي تحار أنت شخصيا في فهم أسرارها ، وهذا الذكاء وهذا التدين الذي ينبيء باستقامته وكرم أخلاقه ثم هذا التفوق الرياضي الذي أحرزه ابنك في رياضته وغيرها من الأمثال ، ولو عددت لك أسماء الموهوبين الذين حرموا من بعض حواسهم فعوضهم الله عنها بالنبوغ في فروع معينة من العلم والفن والعمل والأدب وبالسعادة في حياتهم الخاصة لاحتجت إلى صفحات وصفحات وحين زرت لندن في الصيف الماضي قرأت في الصحف البريطانية تحقيقات عن عالم بريطاني مشلول لا يتكلم ولا يسمع ويتخاطب مع الناس عن طريق جهاز اليكتروني يحول الحروف إلى أصوات فما أن يضغط على الحروف في جهاز صغير في قبضة يده حتى تتحول إلى كلمات منطوقة بصوت غير بشرى يسمعه الآخرون ويفهمون عنه وبهذه الطريقة يلقي محاضراته على طلبته في جامعة كمبردج ويؤلف كتبه في الطبيعة التي رشحته في تقدير العلماء هناك إلى أن يكون خليفة العالم الشهير اينشتاين.

 

ومن قبله بهرت السيدة الصماء البكماء العمياء هيلين كيللر العالم كله بنبوغها وعبقريتها ومؤلفاتها ، واعتبرها العلماء معجزة عقلية وإنسانية، والطريق مفتوح دائما أمام كل إنسان لكي يحقق ذاته ويعبر عن نفسه مهما كان نصيبه من القدرة الجسمانية .. فبما عرفت ولمست من ذكائه وتدينه وأخلاقه الكريمة فليطمئن قلبك على مستقبله وحياته فقد أديت واجبك وواجهت أقدارك بصبر وشجاعة وإيمان وحسبك أنك لم تسخط ولم تفقد صبرك أمام بعض ما امتحنتك به الدنيا، وإنما تعلمت منه كأصحاب النفوس الكبيرة الراضية المرضية دروس الصبر والإيمان .. فقلت مع الكاتب الشهير وليم شيرر "أعانتني آلامي على معرفة حقائق الأشياء" .. فعرفت أنه بغير الإيمان يتعذر علينا أحيانا أن نطيق الوجود .. فحسبك كل ذلك يا سيدي فأنت من ركب الصابرين الشاكرين الذين يجزل لهم الله العطاء في الدنيا والآخرة .. ولتهنأ بأسرتك المتحابة المتراحمة ولسوف يحقق الله لك كل آمالك بفضل من عنده .. وإلى اللقاء.

 رابط رسالة العيون الخضراء

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات