الدائرة الملعونة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الدائرة الملعونة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الدائرة الملعونة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990


لقد اتبعت منهج فى التعامل مع رسائل القراء وهو أن أصدق ما يتحدثون به عن أنفسهم مهما بدا لى غريبا,مؤكدا دائما أنى أبدى رأيى فى مشاكلهم على ضوء ما يعرضون على من وقائع.
عبد الوهاب مطاوع

أكتب إليك قصتي وأطلب مشورتك وأرجو ألا تتسرع فى مهاجمتي والقسوة على قبل أن تفهم ظروفي .. فأنا فتاة جميلة كنت طالبة متفوقة فى إحدى كليات الطب بالأقاليم , وفى الكلية استلفت نظري طالب ممشوق القوام طيب القلب يرتدى ملابس عادية مما يدل على أن إمكاناته المادية متوسطة.

ولقد لفت نظري إليه أنه يطيل النظر إلى ولا يرفع عينيه عنى فى أي مكان نوجد به داخل الكلية . وكنت أسعد بهذه النظرات وهذا الاهتمام .. وأحرص على أن أوجد حيث يوجد لأسعد باهتمامه بى .. ولم أصده بقسوة رغم أنى لا أفكر فى الارتباط به وأتطلع إلى شخص ذى منصب ووضع اجتماعي و"ثقل" كبير يتناسب مع جمالي وتفوقي وطموحي.

وأعترف أنني أخطأت فى ذلك ,ولعلى أتحمل وزره أمام ضميري..فقد واصل اهتمامه الشديد بى وفوجئت به ونحن طالبان بالسنة الثانية يرسل لى رسالة رومانسية مع إحدى زميلاتي يعرض على فيها حبه ويطلب موافقتي على أن يتقدم لخطبتي . فرفضت ذلك بشدة لأنه طالب .. وبلا إمكانيات وأصيب زميلي بصدمة وانطوى على نفسه ورسب تلك السنة بينما نجحت أنا .وقل اهتمامه بى وحرصه على الاقتراب منى إلى حد كبير, لكنه ظل على حبه الصامت ونظراته الحزينة لى وواظب على أن يكتب إلى كل عام رسالة غرامية واحدة يبثنى فيها حبه وهيامه ويرسلها مفتوحة مع إحدى صديقاتي فأقرؤها وأسعد بما فيها, ثم أردها إليه بلا أى إشارة تفيد بأني غيرت موقفي .. واستمر هذا الحال 4 سنوات تخرجت بعدها من كليتي وبدأت سنه الامتياز فى مستشفى الكلية. ثم فاتحتني إحدى شقيقاته فى خطبتى لأخيها فرفضت ذلك بشدة.فقد كان يتقدم لى فى تلك الفترة رجال ممتازون ذوو ثقل ونفوذ .. وبعد ذلك بيومين فوجئت به يتقدم منى فى المستشفى ويسألني بأدب والدموع تلمع فى عينيه عن سبب رفضي له .. فتحدثت معه بجفاء شديد لكى يتوقف عن ملاحقتي .. واعتقدت أنى قد وضعت بذلك الفصل الأخير لهذه القصة .. لكنى فوجئت بعد يومين آخرين بوالدته وشقيقته تنتظراني بباب البيت وتقولان لى باكيتين أن زميلي بين الحياة والموت فى مركز السموم بالقاهرة بعد أن حاول الانتحار بابتلاع عدد كبير من الأقراص .. فبكيت بشدة وصرخت فى وجهيهما برفضي التام الزواج منه ولو لم يبق على ظهر الأرض رجل غيره..وقدرت بعد ذلك أنه فقد الأمل نهائيا.

ومضت أيام .. ثم خرجت فى الثامنة مساء ذات ليله من نوبة عملي فى المستشفى وكنا فى الشتاء والجو بارد والشارع خال من المارة فإذا بزميلي ينزل من سيارة استعارها من أحد أصدقائه والشرر يتطاير من عينيه ويأمرني بالركوب وهو فى حالة هستيرية, وقبل أن أتمالك نفسي جذبني ووضع على أنفى منديلا وانطلق بالسيارة.

وأفقت بعد قليل فوجدت نفسي فى شقة أخيه الذى يعمل فى الخارج وقد اعتدى على .. فانطلقت أصرخ فى هسترية وأصيبت بالانهيار. فسد فمي ثم جلس فى هدوء شديد .. ينظر إلى بابتسامه حزينة .. حزينة تحمل كل حزن الدنيا, وقال لى انه سوف يدعني أعود إلى بيتى ويترك لى مطلق الخيار فى إبلاغ النيابة .. وانه لن  يهرب من حكم القانون ويستقبله بصدر رحب جزاء لما فعل ولو صدره ضده الحكم بالإعدام فهو راض بقدره ومصيره .. ويستحق كل ما يحكم به القضاء لجريمته البشعة فى حق الإنسانة الوحيدة التى أحبها.

ثم أتجاوز عن هذه الفترة البشعة بدون تفاصيل لأقول لك أن أمري قد افتضح فى مدينتي وبين أقربائي وبين زملائى فى المستشفى فتركت العمل واحتجبت عن الناس . وحسم أهلي الأمر بالموافقة على زواجي منه بعد هذه المأساة. وتزوجته بلا فرح وبدون أن ارتدى ثوب الزفاف .. وكان يوم زواجي يوما حزينا لأسرتي فبكى أبى وبكى أخوتي جميعا ولم يكلمه أحد منهم كلمه واحدة .. وبكيت أنا فى صمت وبللت دموعي ملابسي بينما جلس زوجي صامتا يبتسم نفس الابتسامة الحزينة ويحس بجو العداء والكراهية به ولا يملك إلا الصمت والهدوء.

ثم انتقلنا إلى شقه الزوجية التى أعدت على عجل وأثث بأثاث بسيط وودعنا أو ودعني أهلي باكين مولولين كأننا فى مأتم ولسنا فى فرح.

وانفردنا بنفسينا فى شقه الزوجية فقام زوجي بإعداد طعام العشاء وإحضاره وراح يهدى من روعي ويقسم لى أنه سوف يعوضني عما فقدته,وسوف يكفر عن جريمته بأن يجعلني أسعد فتاة فى العالم وأمضينا الليل بملابس الفرح الكاملة حتى أشرقت الشمس وبدأ أول يوم من أيام حياتي الزوجية. ومضت الأيام وعاملته بجفاء ونفور واضحين, وعاملني هو بحب واحترام. وبعد أسابيع من زواجي مرض أبى مرضا شديدا ثم توفاه الله بعد 6 شهور. وانتظمت حياتنا ولم تكن حياة عادية فقد رفضت تماما أن أقوم بأى عمل من أعمال البيت أو أشاركه فى أي شئ, فكان هو يقوم بإعداد الطعام وغسل الصحون وغسل الملابس فى الغسالة واعتاد ذلك واعتدته أنا أيضا.

وتحسنت أحواله المادية بعد زواجنا بقليل , فباع قطعة أرض من ميراثه وافتتح عيادة صغيرة. ,وبدأ يحقق نجاحا فى عمله وساعده على ذلك أنه مرح ولبق ومحبوب, وبعد قليل أشترى سيارة متوسطة ثم قطعة أرض بناء صغيرة لنبنى عليها فى المستقبل بيتا لنا وأنجبت منه طفلتين جميلتين رحت أقضى معظم أوقاتي معهما وما يتبقى لى منها أقضيه فى قراءة كتب الطب. ومضت 6 أعوام على حياتنا .. لم يجرح كرامتي خلالها بكلمة واحدة أو بإشارة , وكان دائما سعيدا بأقل شئ أعطيه له ويتفانى فى محاولة إسعادي أنا وطفليه ويخرج معنا بسيارته لنذهب إلى الأماكن الجميلة ويعود من عمله يوميا فيضع كل إيراد العيادة فى درج المكتب المفتوح لأنفق منه كما أريد وبلا أى حساب من ناحيته على ما أنفقت .. ووسط كل ذلك وجدت نفسي ذات مساء بعد أن أعد لنا طعام العشاء أطالبه بالطلاق وأتمسك به فسمعنى فى صمت وذهول ثم أبتسم نفس ابتسامته الحزينة...ابتسامة ليلة الكارثة وليلة الزفاف .. ثم لم ينطق سوى بعبارة واحدة " تصبحي على خير "؟

وفى الصباح قال لى انه يعدني بتنفيذ ما طلبت منه خلال شهرين .. ورجاني ألا يعرف أحد من أهلي وأهله بهذا الأمر لأنه سيموت خجلا إذا عرف به أحد .. ولم يغير شيئا من معاملته لى بعد ذلك فأستمر يعاملني بأدب واحترام ويغسل الصحون والملابس...لكن حالته النفسية ساءت تماما ففقد مرحه وشحب لون وجهه وأصبح يتقيأ كل طعام حتى نقص وزنه...وأصيب بمغص دائم.

ولاحظت عليه كل ذلك فرثيت لحالته وذات مساء رق قلبي له فارتديت رداء نوم جميلا واقتربت منه فإذا بوجهه يحمر خجلا كأننا زميلان فى الجامعة ثم تساقطت دموعه صامته.....وأنصرف خجلا.

وبعد ذلك فوجئت به وقد أعاد بدلته الجديدة التى اشتريتها له إلى نفس المحل ثم باع السيارة وأودع ثمنها فى البنك بإسمي .. ثم وزع معظم ملابسة القديمة على بعض أقاربه .





ولــكاتـبة هــذه الــرسـالة أقــول:

أنى قد ترددت فى أن أصدق روايتك.لكنى آثرت بعد تفكير طويل فى أن أتبع منهجي فى التعالم مع رسائل القراء وهو أن  أصدق ما يتحدثون به عن أنفسهم مهما بدا لى غريبا مؤكدا دائما أنى أبدى رأيى فى مشاكلهم فى ضوء ما يعرضون على من وقائع.

وبهذا المعيار أقول لك يا سيدتي أن كليكما قد قتل الآخر, ومثل بجثته , لكن هناك فارقا كبيرا بين جريمة كل منكما فى حق شريكه!

فزوجك قد أغتالك فعلا بجريمته البشعة إنسانيتك كفتاة وطموحك وحقك الطبيعي فى اختيار شريك حياتك .. بالحياة التى تحلمين بها. وأنت قد اغتلت رجولته أيضا وإرادته وكرامته ورغبته فى الحياة , حتى لقد آثر التفكير فى الانسحاب منها إذا أصررت على جلده إلى النهاية بخطيئته والانفصال عنه. وليس ذلك مستبعدا عليه وهو صاحب الميول الانتحارية القديمة.

لكن هناك فارق جوهريا بين الجريمتين .. فجريمة زوجك رغم بشاعتها ورفضنا لها دائما, هى جريمة دافعها الحب الذى ملك عليه كل أمره وأفقده رشده فانساق إليه فى غيبة العقل والوعي .. وقد حاول بعد ذلك مخلصا أن يكفر عنها بكل الوسائل فتفانى فى حبك .. وتنازل لك عن إرادته وحقوقه كرب أسرة إلى حد امتهان نفسه .. وعاملك بكل الحب والاحترام وجعل هدف حياته هو إسعادك وإرضاءك, راضيا بالقليل الذى تجودين به عليه متأففة من حين إلى آخر,وهو قد ارتكب جريمته مرة واحدة وقضى الأمر وتاب عنها وتقبل الله توبته.

أما جريمتك أنت فهي جريمة دافعها الانتقام لا الحب, وجريمة مستمرة متجددة, كما أنها جريمة إرادية ارتكبتيها بوعي بما تفعلين وبإصرار عليه, وليست جريمة لحظه طيش وحمق غاب فيها العقل عن رشده...وندم عليها مرتكبها .. لهذا تمتهنينه بإصرار طوال 6 سنوات,وترفضينه فى صمت بارد, وتتقبلين ما يقدمه لك من قرابين بازدراء من لا يرى فيه ما يستحق حتى الشكر..أو يفتح له باب المغفرة.

وهذه هى السادية والتلذذ بتعذيب الآخرين .. بلا مواربة!

فلقد كنت تستطعين_إذا أردت_ إصلاح الخطأ بأن تتزوجى هذا الشاب لعدة شهور أو أسابيع حفاظا على الشكل الإجتماعى, ثم تنفصلين عنه بغير إنجاب إن لم تستطيعي أن تغفري له جريمته .. كما كنت تستطيعين أن تتقبلي تكفيره على جريمته بعد حين, وتسعدي بما يقدمه لك كل يوم على مذبح حبك, وتواصلي معه الحياة بلا رغبه فى الإنتقام منه .. ولا رغبة فى تعذيبه خاصة وقد أصبح أب لطفليك .. لكنك لم تفعلي هذا ولا ذاك .. وإنما آثرت أن تجلديه بخطيئته فى حقك كل يوم طوال 6 سنوات .. وأن تستخدمي معه أسلوب التعذيب المغولى الذى كان يعتمد على إطالة التعذيب لأقصى فترة ممكنه حتى يموت الجسد قطعة قطعة بدلا من قتل الضحية فى لحظه رأفة بها.

فعم تحاسبينه الآن يا سيدتى وقد صرت زوجته وأم طفليه.؟ وتفانى هو فى حبك وإسعادك بما لا أستطيع أن أدلل عليه, وقد حذفت من بعض سطور رسالتك ما يخدش الحياء العام, ويؤكد تفانيه فى حبك....؟ إنك يا سيدتى تتصورين أنك تستحقين زوجا أفضل منه .. زوجا كما تقولين فى رسالتك له "ثقل" ونفوذ ووضع اجتماعي يتلاءم مع جمالك وطموحك وتفوقك .. وأنت بذلك تعترفين بأنه ليس للحب دور فى حساباتك,ولعلك تشتركين فى الإحساس العجيب مع بعض الزوجات الحالمات اللاتي يعاشرن أزواجهن كل رحلة العمر وهن ينطوين على إحساس باطني غريب بأنهن درر ثمينة لم يكن يستحقها أزواجهن !

وهو إحساس لا يرجع غالبا إلى مبررات حقيقية بقدر ما يرجع إلى إحساس كاذب بالمغالاة فى تقدير الذات...وأحسب أنك واحدة من أسيرات هذا الإحساس الواهم, ولن تقتنعي بكذبه إلا إذا اصطدمت بحقائق الواقع الصلبة, واستجاب زوجك لطلبك الطلاق وتخلص من وهم الرغبة فى الانسحاب من الحياة, وتركك تواجهين الحياة وحيدة بضعة شهور, واستعاد هو رغبته فى العمل والحياة وتلفت حوله ليرى أن فى الدنيا نساء غيرك. ولتر بعد ذلك كيف ستطيب لك الحياة بعيدا عنه بغير أن يوقد أحد الشموع فى معبدك كل يوم بعد أن استنمت طويلا إلى حبه الطاغي لك .. وقد كنت تسعدين به دائما منذ أيام الجامعة وربما كنت لا تخلين من حب له لا يقاس بالطبع بحبه لك. والمؤكد أنك تحبين فيه حبه لك وتحبين فيه حرصه على مودتك وإرضائك وتستريحين لتعبده الدائم فى محرابك..وأغلب ظنى أنك لم تطلبي الطلاق رغبه فيه,وإنما رغبه فى كيه مرة أخرى بالنار لكى يظل جرحه حيا إلى الأبد, ولكيلا يتخلص من إحساسه بالذنب تجاهك فيتراخى فى التفكير الدائم عن خطيئته معك .. اننى لا أريد أن أظلمك فأقول أنك تفعلين ذلك بوعى كامل به, فمن الجائز جدا أن تكون رغبتك الباطنية فى الانتقام منه هى التى تحركك إلى ذلك بغير أن تدركى كل أبعاده, لكنها على أية حال قسوة لا تقل بشاعة عن قسوة جبابرة المغول,فالله يغفر الخطايا جميعا إذا صدقت توبة التائب....فكيف لا تغفرين أنت؟ ومن أدراك أن أباك لم يكن ليرحل عن الدنيا فى موعده إن لم يجر ما جرى....ومتى ضمن "الثقل" والنفوذ والوضع الاجتماعي السعادة لمن يبحث عنها .. وماذا يساوى فستان الزفاف الأبيض الذى حرمت أنت منه إن لم يكن بشيرا بالسعادة...

وكم ارتدته من لم يعرفن طعم السعادة يوما واحدا بعده .. وكم حرمت منه من أنعم الله عليهن بها !

يا سيدتي .. كفى عن محاسبة هذا الشاب عن جريمته القديمة .. وعيشى حياتك الطبيعية كزوجه تشارك زوجها اهتماماته وتقوم بواجباتها وأعبائها المنزلية..وتخلصي من رغبتك الباطنية فى الانتقام منه وإذلاله , فلقد كفر عن خطيئته بما فيه الكفاية .. وفكري فى طفليك اللذين لم يجبرك أحد على إنجابهما, فهما وحدهما جديران بأن تمسحي من أجلهما عن صدرك كل مرارة الماضي.

  *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" سنة 1990

نقلها من مصدرها / بسنت محمود
                               راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات