المدرج الكبير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
بعض رسائل
القراء تذكرني دائما بقول أستاذ جامعی أمریکي كان يدرس لتلاميذه قواعد السلوكيات
الصحيحة فقال لهم ذات مرة : كل ما تسمعونه في هذا المدرج الصغير لا يساوي شيئا إلى
جانب ما سوف تتعلمونه في المدرج الكبير خارج أسوار هذه الجامعة .. يقصد مدرج
الحياة الواسع الذي يتعلم فيه الإنسان من التجربة والخطأ ومن تجاربه وتجارب
الآخرين ولا يتخرج فيه أبدا إلا مع نهاية العمر .. فكلما نشرت رسالة عن مشكلة
تواجه إنسانا انهالت علي رسائل أصحاب التجارب السابقة مع نفس المشكلة تضيف إلى رأيي
خلاصة تجاربهم في مواجهة المشكلة ويطالبني أصحابها بتوجيه رسائلهم إلى صاحب
المشكلة ليستفيد بها .. فإذا كنت أعرف عنوانه أرسلت إليه هذه الرسائل بعد أن أكون
قد حاولت أن أضيف دروسها الثمينة إلى ما أحاول أن أعرفه عن تجارب الحياة
واختباراتها المستمرة .. وقد انشرها ليطلع عليها كاتب الرسالة وغيره ممن قد
يواجهون نفس الاختبار .
ومنذ شهور
نشرت رسالة لمطلقة تروي فيها تجربتها مع الوحدة بعد طلاقها وكيف تغيرت معاملة
صديقاتها المتزوجات لها بعد أن حملت الاسم البغيض فأصبحن لا يرحبن بزياراتها لهن
كما كان الحال قبل طلاقها خوفا على أزواجهن .. وكيف عانت من نظرة الآخرين المتخلفة
للمطلقة أو لمن يغيب عنها زوجها لفترة طويلة باعتبارها "امرأة سهلة" رغم
التزامها الخلقي الكامل بل وتزمتها ونشرت أكثر من رسالة تعليقا عليها .. لكني
تلقيت منذ فترة رسالة أخرى رأيت أنها تستحق النشر رغم كل ما نشرت لأنها تهم شريحة
عريضة موجودة الآن في مجتمعنا هي شريحة الزوجات اللاتي يغيب عنهن أزواجهن للعمل
إلى الخارج لسنوات طويلة، فضلا عمن يواجهن محنة الطلاق ومتاعب الاسم
البغيض .. تقول السيدة كاتبة الرسالة :
كنت في
الثلاثين من عمري زوجة شابة وأما لطفلين عندما اتفقنا أنا وزوجي على أن يقبل التعاقد
على العمل خارج مصر لتحسين أوضاعنا ، وبقيت أنا في القاهرة لكيلا
يضطرب تعليم الطفلين، وحتى نستفيد من فارق تكاليف الحياة بين الخارج ومصر في
اختصار مدة التعاقد وغياب زوجي .. وسافر زوجي مصحوباً بدعائي وتمنياتي الطيبة له
وغاب في الخارج ٥ سنوات كاملة لم تقطعها سوى أجازاته القصيرة ومنذ اليوم الأول
لسفره تعاملت مع نفسي على أني زوجة وحيدة ولابد أن تتغير حياتي عما كانت عليه في
وجود زوجي ، فوعيت درس جدتي التي كانت تقول لنا دائماً أن ما يناسب الفتاة لا
يناسب الزوجة الشابة ، وما يناسب الزوجة الشابة لا يناسب الزوجة التي يغيب عنها
زوجها لفترة محدودة أو غير محدودة فبدأت أولا بتغيير مظهری وامتنعت عن صبغ شعري
بالحناء وكنت من قبل اصبغه بها فتكسبه لونا
جذابا وامتنعت عن لبس الملابس الرياضية واكتفيت بالجيب والبلوزة البسيطة.
ولأني متزوجة من زميلي في العمل فلقد كان بيني وبين زملاء العمل بتأثير طول العشرة صداقة من نوع خاص لا تتوافر إلا لمن هم في مثل ظروفي ومن هم في مثل نضجهم الفكري فكانت صداقة قائمة على الثقة والمودة ورفع الكلفة .. لكني انتويت بمجرد سفر زوجي تحديد علاقاتي الاجتماعية بصفة عامة خلال غيابه فحددت من علاقتي بزملائي وتقبلوا هم هذا التغيير بروح رياضية وتعودوا عليه ، أما في العمارة التي أقيم فيها وهي تضم مجموعة من الأسر الشابة الطيبة .. فقد كانت قد نمت بيني وبين الجيران من الزوجات والأزواج مودة وصداقة وأصبحنا نتبادل الحديث في شتى الموضوعات ونحن في انتظار المصعد أو ونحن في انتظار الأتوبيس .. أما بعد سفر زوجي فقد امتنعت عن زيارة جاراتي متعللة لهن بانشغالي مع الطفلين واكتفيت بالسلام على من أقابله من أزواجهن إذا لقيته في الطريق دون حديث طويل مع أحد .. ولاقى تصرفي هذا قبولاً بل وتقديرا وعطفاً منهن فأصبحت شقتي واحة مريحة لهن يطرقن على بابي فيها بملابس البيت ليشربن معي الشاي ويتسامرن .. أما صديقاتي من خارج العمارة فقد راعيت أن أباعد بين زياراتي لهن وألا أزورهن إلا بموعد سابق حتى لا أفاجأ بوجود الزوج وحده في مسكنه وإذا تصادف وحضر الزوج جانبا من زيارتي حرصت على تجنب الحديث عن مهاراتي المنزلية أو الحياتية وأكثرت من الثناء على حسن تصرف زوجته أمامه، وبفضل هذه الحدود التي ألزمت نفسي بها اكتسبت ثقة صديقاتي وتعمقت صداقتنا.
ومرت السنوات الخمس بغير أن أخسر صديقة أو جارة أو زميلة، ولم يجرؤ أحد على المساس بسمعتي واكتسبت والحمد لله احترام الجميع .. ثم حان موعد عودة زوجي الحبيب فعاد وكان من أهم هداياه لي كمية كبيرة من الحناء التي يحي لونها في شعري والتي حرمتها على نفسي خلال غيابه .
ومن واقع
تجربتي أقول للأخت المطلقة التي تشكو من غيرة صديقاتها على أزواجهن منها .. ومن
النظرة الخاطئة للمرأة الوحيدة .. كوني مبتسمة ولكن لا تظهري المرح .. استقبلي
صديقاتك أكثر مما تزورينهن أنت .. تجنبي الحديث عن مهاراتك أمام أزواجهن واحرصي
على إطرائهن أمامهم .. تمسكي بالتقاليد فلا تقبلي دعوة أحد لركوب سيارته ولا تدعي
أحدا إلى سيارتك مهما كانت الظروف لا تتأخري في تقديم بعض الخدمات البسيطة
لصديقاتك ، وثقي بعد ذلك أن القلوب سوف تنفتح لك قبل البيوت وسوف تكسبين احترام
الجميع .
انتهت الرسالة
المفيدة .. ولا تعليق لي عليها لأنه "ولا ينبئك مثل خبير".
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر