السؤال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

السؤال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

السؤال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989



أنا سيدة نشأت في أسرة انتقلت من الريف إلى المدينة وعمري ١٠ سنوات وكان مقدرا لي أن أعيش حياتي بلا تعليم لعدم وعي أسرتي في ذلك الوقت بجدوى تعليم كبرى البنات .. لكن الله هيا لي بعض الجيران الطيبين الذين اقنعوا أمي بضرورة ذهابي إلى مدرس بإحدى المدارس الخيرية تلقيت عنه بعض الدروس والتحقت بقطار التعليم بعد أن كاد يفوتني .. وواصلت الدراسة ورعاية إخوتي إلى أن توفي أبي وزادت أعباء أمي و أعبائي أنا أيضا لكن الله وفقني لإنهاء دراستي الجامعية بتفوق كبير فكنت أولى دفعتي وحاولت استكمال دراساتي العليا - لكن ظروفي العائلية وحاجة إخوتي إلى رعايتي حالت دون ذلك.

 

ثم جاء ابن الحلال على عجل في صورة شاب لم تتوافر فيه لمحة واحدة مما حلمت به عن فتی أحلامي، وإنما يسبقه اسم عائلته الكبيرة وثراؤها فتزوجنا .. وكان كثير الثرثرة في الحب والعواطف فاكتشفت أن كل ذلك مجرد كلام لا يترجم إلى فعل أو موقف يرضيني كزوجة أو شريكة حياة وبعد عامين من الخناق والنفاق والثرثرة انتهيت الى عدم قدرتي على احتمال الحياة معه وطلبت الطلاق وصممت عليه ونلته بالفعل وكنت قد أنجبت ابنتي الوحيدة فوجدت نفسي فجاة أحمل ذلك الاسم البغيض الذي كتبت لك قارئة عن معاناتها معه منذ أسابيع .. فدفعتني لكتابة لك لأروي لها كيف تصرفت أنا في حياتي بعد أن اضطرتني الظروف لحمل هذا اللقب اللعين .

 

فبعد الأيام العصيبة الأولى للطلاق .. جلست مع نفسي لأفكر في حياتي الجديدة وكيف سأواجهها .. وكيف أتعامل مع صديقاتي المتزوجات وكيف أتعامل مع الرجال وكيف سيستقبلني المجتمع من حولي بهذا اللقب الجديد وكيف وهو الأهم سأواجه ذلك الزوج السابق الثرثار الذي بث عني الشائعات وسبني بأقذع السباب وكانت كل ظروفي ترشحني للوحدة والانغلاق على نفسي نادبة حظي التعس .. لكني بعد تفكير طويل في كيفية الانفتاح على الحياة والمجتمع بدون أن يمس أحد سمعتي وجدت أن ما احتاج إليه في شيئين هما : العلم وابنتي الوحيدة التي عوضت فيها كل حرماني من الحب فأعدت قيدي في الدراسات العليا وحصلت على الماجستير ثم الدكتوراه ، وأعطيت ابنتي كل حبي وحناني واهتمامي وجعلت منها صديقتي الأولى ورفيقتي في دروب الحياة .. فكنا نقوم بالرحلات معا ونتجول في معارض الفنون واختار لها ما تقرأه من الكتب المفيدة واذهب معها إلى سينما الأطفال الصباحية يوم الجمعة .. وأعطيها كل خبراتي وتجاربي بلا حدود.

 

 وخلال رحلة كفاحي في الحياة سافرت إلى الخارج وعدت بكل ما كنت احلم به من سيارة وشقة وملابس وقمت برحلات سياحية إلى بعض الدول .. أما العلاقة بالصديقات وتحفظ بعضهن من التعامل مع حاملة اللقب البغيض خشية منها على أزواجهن وهي النقطة التي أثارتها كاتبة الرسالة الأولى .. فالحق أني تحفظت أنا أولا في زيارة الصديقات وفي سلوكي العام وكنت حريصة على أناقتي دون تبرج ولا أحاول الاختلاط بأزواج صديقاتي فوجدتهن يرحبن بي ويلجأن إلي في حل بعض مشاكلهن .. كما أني وجدت في الدراسة وفي الانشغال بشيء مفيد للنفس والمجتمع ما يعطي المرء الثقة في نفسه ويجعل الآخرين يثقون به .. وهكذا مضت بي الحياة بلا معاناة من هذه المشكلة.

والآن يا سيدي فلقد بلغت الخمسين وكبرت ابنتي وأصبحت شخصية مرموقة ناجحة وتخصصت في مجال من المجالات الحديثة وتلقى الحب والاحترام ممن حولها حتى لأحسد نفسي عليها .




 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

يضيق العمر غالبا يا سيدتي عما يريد الإنسان أن يفعله في حياته ، لكن ذلك يرتبط أولا بموقف الإنسان من الحياة وفهمه لها فالذين يحترمون فكرة الحياة .. يجدون دائما ما يصنعونه فيها وما يضيفونه إليها ويحسون دائما بأنها لن تتسع لكل ما يريدون أن يفعلوه ويقرأوه ويشاهدوه ويتعلموه ويسعدوا به أنفسهم والآخرين .. وهم في هذا يعبرون عن موقف الفيلسوف الفرنسي رينوفيه الذي عبر عنه وهو في الثامنة والثمانين من عمره وبعد حياة حافلة ملأ خلالها المجلدات بآرائه وأفكاره قائلا: سأغادر الدنيا قبل أن أقول كلمتي الأخيرة  .. لأن الإنسان دائما يموت قبل أن يتم عمله ، وهذا هو أشد أحزان الحياة إثارة للشجن ! .. أما الذين لا يعرفون كيف يتصرفون بحياتهم ولا يجدون لها معنى ويتقوقعون على رغباتهم وحدها وينهزمون أمام الصعاب ويفهمون الحياة فهما محدودا فهم من أنصار الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى الذي قال :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين عاما لا أبا لك يسأم

أو من أنصار أبي العلاء المعري الذي قال :

تعب كلها الحياة فما أعجب

إلا من راغب في ازدياد

وأنت والحمد لله من الفريق الأول الذي يرى أن الحياة هبة جليلة من الخالق جل شأنه علينا أن نستثمرها أفضل استثمار لصالح البشرية ولصالح الإنسان وفي إسعاد النفس والآخرين بالمتع البريئة .. لهذا فسوف تجدين دائما ما تفعلين في حياتك .. وسوف تلتمسين دائما السعادة في أقل اللمسات الصغيرة الجميلة شأنا ، ولكل إنسان أن يختار سعادته وفقا لظروفه فإن أتاحت لك الظروف أن تشاركي أحدا هذا الفهم الراقي للحياة فأهلا به .. وإن لم تسمح بذلك فما أكثر ما نستطيع أن نفعله في حياتنا بهذا الفهم الصحيح لها وبهذا الاحترام العميق لفكرتها الذي يعبر عن نفسه في رعايتك للأيتام وخدمة الآخرين وترقية معارفك والنظر إلى الأمام بقلب يثق في رحمة الله .. ويخفق دائما بالأمل .

رابط رسالة الأسم البغيض

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات