الحضيض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 

الحضيض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

الحضيض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986


تلقيت في بريدي هذا الأسبوع هذه الرسالة :

أكتب إليك وكلي أمل في أن أجد حلا لمشكلتي لديك فأنا سيدة عمري 23 سنة أبي يشغل مركزا مرموقا في أحد القطاعات الحكومية وأمي ربة بيت لا تشغلها سوى الصلاة والدعاء المستمر لنا بالستر والنجاح .. ومنذ حوالي عامين تقدم لخطبتي شاب بالطريقة التقليدية وكان شابا ممتازا خلقيا ومن أسرة كل أفرادها من صغارهم إلى كبارهم معروفون بالتقوى والإيمان .. وفي بداية الأمر ترددت في قبوله لأني كنت أطمح أن أتزوج بعد قصة حب اختار خلالها فتى أحلامي ويختارني ثم تنتهي قصتنا بالزواج لكن أسرتي اقنعتني بقبوله فاعتدت عليه سريعا وأحببته بأسرع مما توقعت وسعدت به جدا وبحبه لي وبدأنا الاعداد بسرعة للزواج خلال عام وفي ذلك الوقت كنت طالبة في بداية المرحلة الجامعية وكان أبي عن طريق اتصالاته قد نجح في تعييني في وظيفة بإحدي الشركات الاستثمارية اتقاضى منها مرتبا ضخما حوالي 400 جنيه وأنا مازلت طالبة مما شجعني على اعتبار هذا العمل أهم من دراستي ودفعني إلى تكريس معظم وقتي له حتى ولو اضطرت أحيانا إلى الاعتذار عن عدم دخول الامتحان لكي اثبت أقدامي فيه .

 

وتم زواجي وبعد أيام من شهر العسل عدت إلى عملي لأواصل تفوقي فيه وكان هذا العمل يتطلب مني السفر كثيرا والبعد عن زوجي .. وكان زوجي للحق صبورا جدا معي , وكلما تماديت في الانشغال عنه بعملي .. تمادى في الصبر مقتنعا بأنه سيأتي يوم قريب أفيق فيه إلى نفسي وأعرف أني مخطئه في حقه وفي حق نفسي وأن عش الزوجية هو الأصل وأن العمل مهما بلغ شأنه هو وسيله لتيسير الحياة وليس هدفا لذاته.

لكني يا سيدي كنت كالغائبة عن الوعي .. وأعمل كثيرا .. ودائما مرهقه ومتعبة وكلما خلوت من العمل ساعة فتحت كتبي لأخطف بعض صفحاتها خطفا .. ثم أنام كالقتيل لأصحو من الفجر فأركب سيارة الشركة وانطلق إلى موقع عمل جديد .. وكل ذلك وأنا سعيدة بأن أرى الإعجاب والتقدير في عيون رؤسائي وتأكيدهم لي أني سأصبح خلال وقت قصير مديرة أحد القطاعات أتقاضى أضعاف مرتبي إذا استمررت في هذا النشاط الكبير وخلال ذلك كله كان زوجي يتحملني ويتنظر اللحظات التي يشعر فيها أننا زوجان في بداية حياتنا الزوجية.

 

ولا تسألني بعد ذلك هل كنت له الزوجة الصالحة أم لا ..  فأني كنت لا أجد أحيانا وقتا لكي أصفف شعري فكيف كنت سأجد الوقت لكي أرعى حياته وشئونه وحقوقه وأنا أعمل من الفجر إلى الساعة السادسة أو السابعة كل يوم وأسافر 3 أو4 مرات كل أسبوع وأزور الكلية من حين لآخر واستذكر دروسي فيما يتبقى لي من الوقت.

وفي هذه الظروف لاحظت أن إحدى زميلاتي في العمل وهي أيضا تبذل مجهودا كبيرا وتبدو دائما أكثر نشاطا وأكثر حيوية فسألتها عن سر حيويتها فباحت لي بأنها تتعاطى بعض المنشطات وعرضت عليّ أن تعطيني بعضها لكي أصمد وأستطيع بذل المجهود المطلوب مني وفي لحظة ضعف قبلت ما أعطتني أياه .. وكان بعض البودرة البيضاء التي أخدتها وطلبت كوبا من الماء لابتلعها فضحكت مني وقالت لي هذه البودرة تؤخد هكذا ثم وضعتها على ظهر كفها وسدت إحدى فتحتي أنفها وبالفتحة الأخرى سحبت شهيقا قويا وتحولت بعده البودرة إلى سحابة طائرة دخلت كالصاروخ إلى أنفها وفعلت كما علمتني وليتني ما فعلت فلقد تحدد مصيري وتغير مجرى حياتي من هذه اللحظة اللعينة التي استجبت فيها لاقتراحها وبالفعل شعرت بعد تناول هذه الكمية بقليل أني مبسوطة وفي دنيا غير الدنيا وأقبلت على عملي بنشاط زائد وانجزت خلال ساعات عملا كان يستغرق مني يوما طويلا .. وبعد يوم أو يومين أخرين رأيت زميلتي فأعطتني جرعة أخرى وتكرر معي ما حدث في المرة الأولى ومر يومان أخران فإذا بي أشعر بصداع لا يحتمل وبخمول شديد في نشاطي وبقرف ورغبة في القئ والنوم فبحثت عن زميلتي وكانت في هذا الوقت تشرف على العمل في أحد المواقع البعيدة عن مقر الشركة فركبت سيارتي إليها وأنا شبه نائمة وأشعر بزغللة في عيني حتى قابلتها وصحت فيها "الحقيني" فقالت لي ببساطة أنها لا تحمل شيئا من هذه "المنشطات" ثم ركبت إلى جواري في السيارة وطلبت مني الإنطلاق إلى أحد أحياء المدينة لتشتري تموينا لنا نحن الاثنين.

 

 وبدأت رحلة العذاب والبهدلة في حياتي فمع هذه الزميلة دخلت أزقة وحواري وطرقت أبواب أماكن وبيوت لم أتخيل يوما أنها من الممكن أن توجد بيني وبينها علاقة, وقابلت أشخاصا لو كانوا قبل ذلك قد جاءوا إليّ في مكاني لرفضت مقابلتهم .

باختصار يا سيدي تحولت إلى مدمنة للمخدرات البيضاء التي تكتبون عنها في الصحف ..وأصبحت "التذكرة" أي جرعة المخدر هي أهم شئ في حياتي وأهميتها تأتي قبل عملي ودراستي وزوجي .. وأصبحت أنا الذي أشتري "التذاكر" وأعطي منها لزميلتي .. وأصبح مرتبي الضخم الذي لم أكن أنفق منه مليما واحدا على بيتي, لا يكفيني لأكثر من عشرة أيام .. وبدأت أطلب من زوجي نقودا كثيرة .. ولثقته فيّ كان يعطيها لي بغير أن يسألني عن السبب , ثم لم يعد هذا ولا ذاك يكفي .. فبدأت أبيع ذهبي قطعة وراء قطعة سرا, وكلما سألني أهلي أو زوجي عنه ادعيت أني أصلحه عند الجواهرجي .. بل وامتدت يدي لأول مره في حياتي إلى ذهب أمي .. بل وأيضا إلى ذهب صديقة لي كانت بمنزلة أخت لي .

 

إنني أعترف لك بكل هذه الجرائم لكي تعرف إلى أي مدى تدهورت وإلى أي حضيض انزلقت وأنا الزوجة بنت الأسرة الطيبة وزوجة الرجل الفاضل الصالح.

وليت الأمر توقف عند هذا الحد.. فلقد بدأت أتدهور صحيا ونفسيا بدرجه رهيبة .. ففقدت الكثير من وزني وأصبحت خيالا يتحرك وبدأت الدوائر السوداء تظهر حول عيني .. وبدأ بريق عيني ينطفئ وتحل محله نظرة شاردة ميتة .. وأهملت مظهري الذي كنت أعتني به تماما والأعجب من كل ذلك هو حالتي النفسية فلقد أصبحت أشعر بالقرف الشديد تجاه كل الناس .. وأحس أني فوق كل البشر وأني وحدي الذي أفهم كل شئ وأعرف كل شئ وغيري لا يفهمون لا يقدرون

أما عن عصبيتي وضيق خلقي وانفجاراتي وثوراتي إذا تأخر موعد الجرعة قليلا فلك أن تتخيلها كما تشاء.

وأما زوجي المسكين فلقد ساءت علاقتي به جدا إلى درجة أن طلبت منه الطلاق أكثر من مرة .. وأتشاجر معه دائما على أشياء تافهة وأشعر دائما أني على حق وهو على خطأ, وتحملني زوجي كثيرا ثم بدأ يشك في تصرفاتي .. حتى تأكد فيما بعد أنني أتعاطى السموم البيضاء وحار في أمري وأمره معي, ثم قرر أن يصارح أبي بما صرت إليه وفعل فغضبت منه لذلك غضبا شديدا وطلبت منه الطلاق أما أبي فقد أوقفني عن العمل, وأرسلني إلى طبيب كبير للأمراض النفسية والعصبية وهددني بأني إن لم أستجب للعلاج فإنه سيدخلني مصحة نفسية.

 وبدأت رحلة العلاج وكانت رحلة قاسية طويلة سقط خلالها أبي مريضا بنوبة قلبية حزنا على ما آل إليه حالي , مما دفعني للاستماتة وطلب العلاج والحمد لله فلقد من الله عليَ بالشفاء التام وتوقفت تماما عن التعاطي واسترددت صحتي تماما واتجهت إلى الله أشكره واستغفره وأخذت على نفسي عهدا ألا أقطع الصلاه شكرا لله لأني سمعت عن مدمنين كثيرين أنهم لم يستطيعوا أبدا التخلص من ذل الإدمان وشعرت أن الله سبحانه وتعالى استجاب لدعائي وتقبل توبتي لكن ما اكتشفته يا سيدي هو أن الله يقبل توبة الخاطئ ويعفو عنه لكن الانسان لا يقبلها ولا يغفر ولا ينسى .. فبعد أن استقرت حالتي الصحية وعودتي إلى ربي ونفسي أردت أن التقي بزوجي لكي أطلب منه السماح فيما ارتبكت في حقه وتقابلنا وفوجئ بي وأنا في أتم صحة وأحسن حال واعتذرت له عما بدر مني وطلبت منه الصفح وأن نعود إلى حياتنا الزوجية ووعدته بأني سأكون له الزوجة الصالحة فسامحني بطيبة قلبه ورقته .. وتصورت أني قد محوت آخر آثار هذه المحنة الشديدة التي تعرضت لها .. لكننا تذكرنا فجأة أسرته وماذا سيكون موقفها منا إذا استأنفنا حياتنا الزوجية، خاصة وهي أسرة متدينة ولن ينسى أفرادها أني أهنت ابنهم مرارا وأن كل جيرانهم وأقاربهم قد عرفوا أني مدمنه مخدرات .. واستخرت الله وقررت أن اذهب إليهم لأطلب منهم الصفح والمغفرة ففوجئت بأن أبواب رحمتهم مسدوده جميعا في وجهي .. فلقد رفضوا جميعا استقبالي والاستمتاع إلي مع أن ما حدث لي كان لعنة يمكن أن تصيب أي إنسان .. ولو كان زوجي نفسه أو أحد أفراد أسرته  في هذه الحالة كانوا سيسألون الله له الشفاء والنجاة من هذه المحنة كما أنني كنت مغلوبة على أمري فيما حدث لي وقد قال لي الطبيب المعالج أن المتعاطي يكون في حالة لا وعي وأن خلاياه تبدأ في تدمير نفسها تدريجيا ولقد شفيت تماما من الادمان ولا مجال ولا احتمال للعودة إليه.




ولـكـاتـبه هـذه الرسالة أقـول:

نعم يا سيدتي إن الرب يغفر لمن يشاء لكن البشر قد لا يغفرون لسبب بسيط هو أنهم بشر لا ترقى مداركهم إلى فهم حكمة التوبة التي شرعها الله الغفور الرحيم وهي فتح الباب للمخطئ في كل لحظة لكي يرجع عن عبثه ويكف أذاه عن نفسه وعن الآخرين .. إذ ماذا يدعوه إلى ذلك إذا أيقن من أنه سيؤخذ بجريرته مهما فعل ومهما توسل .

ولأنهم بشر يا سيدتي فإننا لا نلومهم كثيرا في موقفهم .. بل ربما التمسنا لهم بعض العذر في مخاوفهم .. فكل أسرة تريد لابنها زوجة طبيعية لا تنذر بالمتاعب والمحن والأعاصير كما حدث معك بكل أسف خلال رحلة زواجك منه .. ولأنك مخطئه يا سيدتي فلابد من أن تتحملي تبعات خطئك .. وأن تكفري عنه تكفيرا تاما وتتطهري من آثاره .. وبالرغم من إيماني معك بأن ما تعرضت له هو فعلا محنة أليمة يمكن أن يتعرض لها أي إنسان وأني دائما من المؤمنين "بأنه من كان منكم بلا خطيئه فليرمها بحجر" وبأنه ليس من حقنا دائما أن نقسو ونتشدد في لوم الآخرين وانتقادهم خوفا من أن تضعنا الأيام وهي دول في نفس موضعهم ذات يوم بالرغم من ذلك كله فإني لا أستطيع أن أتجاهل فداحة الجرم الذي ارتبكته في حق نفسك وزوجك وأسرتك بإنقيادك إلى أهوائك إلى هذا الحد المخجل .. كما أني لست مقتنعا بهذا السبب الذي جعلت منه مبررا لسقوطك في مستنقع الادمان وهو "كفاحك" المضني في العمل ورغبتك  في التفوق فيه .. واعتباره أهم من دراستك وزوجك وأسرتك .. فهذا السبب نفسه هو عذر أقبح من الذنب وتبرير لخطأ أساسي أفدح منه.

 

وإن صح تقديري .. فأنت فتاة اعتادت فيما يبدو أن تحقق ما تريد وأن تجد كل شئ سهلا في الحياة وقد ساعدتك ظروفك على أن تضعف إرادتك أمام الإغراء بكل أسف .

فأنت طالبة لكنك تتعاطين أجرا قدره 400 جنيه وتحلمين بأضعافه خلال وقت قريب وأنت فتاة صغيره لكنك زوجة لزوج تحلم به كثيرات ولك سيارة تتجولين بها حيث تشائين وزوجك لا يسألك أين تنفقين مرتبك ولا يمانع في أن يعطيك ما تطلبين بغير حساب وبغير سؤال حتى عن هذه الهالات السوداء التي تظهر حول عينيك ولا عن أسباب تدهور صحتك وانفلات أعصابك وتزايد ثوراتك وانفجاراتك .. لذلك تأخر اكتشاف الكارثة التي حلت بك كثيرا.

ولو كان زوجك يؤدي واجبه المفترض في رعايتك كمسئول عنك لأمكن اكتشاف هذا الحضيض في وقت مبكر ولو لم يكن يتمتع بكل هذا القدر من "الصبر" عليك وأنت لاهية عنه لا تجدين وقتا تذكرينه خلاله بأنكما زوجان .. لما ساء الموقف إلى هذا الحد الخطير .. لذلك فإني لست معجبا بهذا الصبر الذي تشيدين به وأنت تتحدثين عن زوجك .. فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته وما أظن أن تحمل المسئولية بأمانة يتلاءم مع مثل هذا "الصبر".

لكن هذه قضية أخرى .. أما القضية العاجلة الآن فهي كيف تستعيدين زوجك وسعادتك وثقة أسرته.

 

وأقول لك يا سيدتي أن الأمر ليس بهذه السهولة .. فلابد من أن تكافحي طويلا لاستعادة سعادتك كما كافحت وتحملت العذاب خلال رحلة العلاج لاستعادة نفسك, ولابد أن تتفهمي موقف أسرة زوجك منك .. فالشك في عودة المدمن إلى الإدمان له ما يبرره لديهم .. وأنت وحدك التي تستطيعين أن تثبتي لهم عدم صحة مخاوفهم وذلك بالالتزام بالسلوك القويم وبالقيم الدينية والخلقية ولن يتحقق ذلك خلال شهر أو شهرين .. فالأمر ليس بهذه السهولة كما قلت لك .. بل لعله لو كان بهذه البساطة .. لما كان صعبا عليك فيما بعد أن تنهاري وأن تعودي إلى الخطأ, مادام كل شئ سهلا هكذا في الحياة تخطئين فتنهدم حياتك ثم تفيقين فتستعيدين زوجك ببساطة.

 

إن الأهداف الكبيرة تتطلب منك كفاحا مضيئا للوصول إليها .. لذلك فلابد من أن تشقي لاستعادة حياتك وزوجك واحترام الآخرين لكي تعرفي قيمة كل ذلك فلا تفرطي فيه أبدا ولا تستسهلي كل شئ .. بعد ذلك إني أنصحك بمواصلة الكفاح لإقناع الآخرين بإستقامتك وجديتك وعودتك إلى نفسك .. فإذا كان الإنسان العادي مطالبا بالإستقامة طلبا لحسن السمعة وثقة الآخرين ... فمن تعرض لمثل هذه المحنه التي تعرضت لها فإنه مطالب "بالرهبنة" لكي يمحو من اذهان الناس ما انطبع فيها من انطباعات سيئة عنه .

فافعلي ذلك واصبري وثابري إلي أن يتحدث الآخرون بجديتك واستقامتك .. وعندها سوف تسعى أسرة زوجك إليك لتعيد صلتها بك .. وسوف تستعيدين ثقتها واحترامها .. كما سوف تستعيدين زوجك وسعادتك .. ولكن بعد أن تكوني قد قدمت "القرابين" الكافيه لذلك من حسن السمعة واحترام النفس والتزام القيم الخلقية والدينية والسلوك القويم.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات