الأقنعة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أكتب إليك رسالتي هذه في لحظة اختناق لعلمي مسبقا أنك لا تملك حلا لمشكلتي ولأن الحل الوحيد لها أنما ينبع من داخلي أنا وليس من خارجي .. ومع ذلك فلقد أردت أن أستأنس بمشورتك.
أما مشكلتي فهي أني فتاة لها ألف وجه وليس وجها واحدا ككل الناس , فما أن ألتقي بأي إنسان رجلا كان أو إمرأة حتى أبدأ على الفور بتحليل شخصيته وأضع يدي على نقط الضعف فيه ثم ارتدي له القناع الذي أعرف أنه يناسبه وسيجعلني موضع تقديره.
لهذا فإنك قد تجدني مع فلان فتاة هادئة وحالمة لأني استشعرت أنه يحب هذا النمط من الشخصية , ومع فلانة فتاة مرحة ساخرة ومع "س" من الناس جارية من عصر الحريم تتكلم بمنطقها , ومع "ص" من الناس أميرة تعيش في برجها العاجي , ومع هذا حنونة رقيقة , ومع ذاك قاسية وحادة الألفاظ فيقتنع من أمامي بأن هذه هي شخصيتي الحقيقية ولا يساوره أدنى شك في أنها مجرد قناع ارتديه له لأنه يناسبه , وأشعر في أعماقي بسعادة طاغية لإتقاني أداء هذا الدور الجديد.
ونتيجة لذلك فأنا أكذب في كل شئ أكاذيب ليس لها أي معنى أو هدف.
فإذا ارتديت أمس مثلا فستانا أزرق قلت أنني ارتديت الفستان الأخضر وإذا ذهبت إلى حي المهندسين قلت أني ذهبت إلى حي الزمالك وهكذا في كل شئ , وبشكل تلقائي غريب وفي كل مرة أشعر بعدها بالحزن لأني أعرف أن الكذب من أبشع الذنوب ومع ذلك فإني أواصله بلا توقف .. ولهذا لم ينج خطيبي من أكاذيبي .. فعلى الرغم من أن مشاعري تجاهه حياديه تماما إلا إنني قد مثلت عليه دور الحب والهيام حتى اقتنع بأني غارقة في حبه وأصبح طوع بناني وراح يعمل بكل طاقته لإعداد الشقة لكي نعجل بالزواج.
والمشكلة الأهم من كل ذلك هي أنني أحيانا أكذب ثم أصدق أكاذيبي وأخشى أن يأتي اليوم الذي لا أميز فيه بين الصدق والكذب , كما أني أشعر بأني أحيانا أكاد أفقد هويتي الحقيقية في غمار كل هذه الوجوه والأقنعة العديدة التي ارتديها إلى جانب تناقضاتي الكثيرة بين العصرية والرجعية وبين القسوة والحنان والطاعة والعناد.
لقد سئمت هذا الزيف وأنا والله رغم كل ذلك لست شريرة وإنما أحب كل الناس ولا أحاول أن أؤذي أحدا .. وأرجو أن تشير علي بما أفعل لأتخلص من كل هذا الزيف ولكن أرجو ألا تنصحني باللجوء للطب النفسي لأني لن أفعل ذلك الآن على الأقل .. فبماذا تشير علي ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـــاتـــبــة هــذه الــرســـالـــة أقــــول:
الفكرة الأساسية للتحليل النفسي تقوم على محاولة فهم دوافع التصرفات والمشاعر غير السوية ومساعدة صاحبها على اكتشاف هذه الدوافع التي سقطت في غفلة الباطن تحت ضغط إنكاره لها فاستقرت في القاع وبقيت على السطح إنعكاساتها الخارجية على تصرفاته التي تبدو له الآن غير مفهمومة ولا مبررة .. وحين يصل الإنسان بمساعدة المحلل النفسي ومن خلال عملية الاسترجاع وتداعي المعاني الطويلة المرهقة إلى مرحلة الاستبصار أي إدراك هذه الدوافع الخفية واخراجها من بئر العقل الباطن المليئة بالذكريات والتجارب والخبرات المؤلمة , يكون الإنسان قد خطا بقدمه إلى بر الأمان وبدأ يتماثل للشفاء لأن فهم الدوافع يفسر له غموض التصرفات ويعينه على تجنبها والتوقف عنها بعد أن "عرف" أسبابها واختلف حاله عما كان عليه من قبل.
وأنت لو راجعت ذكريات طفولتك لربما عثرت في حنايا خبراتها المؤلمة على الدافع الذي يدفعك إلى التماس قبول الآخرين لك باستمرار بهذا الشكل غير السليم ، ولعرفت أن إلحاحك النفسي في طلب هذا القبول هو الذي يدفعك إلى ارتداء الأقنعة المناسبة لكل إنسان لكي تنال بها رضاه , وأن الرغبة في القبول هذه هي التي تدفعك إلى الكذب لإتقان أداء "الدور" بما يتفق مع ملامح القناع المناسب.
ومن أمثلة الخبرات المؤلمة التي تسقط في قاع العقل الباطن وقد تدفع لمثل هذا السلوك , استشعار الطفل في طفولته المبكرة أنه غير مفضل لدى أبويه والآخرين من حوله أو أن هناك من إخوته من هو أكثر قبولا منه لدى الأبوين ولدى الأسرة والأقارب لجمال شكله أو خفة ظله أو لأي سبب آخر فيدفعه الإحساس بعدم تفضيل الآخرين له إلى التحايل لالتماس قبولهم بشتى الحيل كالتظاهر أمامهم بما يعرف أنه يرضيهم أو يسعدهم أو يدفعهم للثناء عليه وهو أمر غير مستغرب في سن الطفولة لكنه يصبح مرفوضا وخطيرا في سن الرشد والنضج.
والحقيقة أنه لا يكاد يخلو إنسان من دافع الرغبة في أن ينال قبول الآخرين له بالتنازل عما يرضيه هو أحيانا ليرضيهم أو بتأييد آرائهم وإظهار الاعجاب بها ولو لم يكن هذا هو رأيه الحقيقي إلى آخره كما لا يكاد يخلو إنسان أيضا من بعض التناقض في شخصيته وبعض التقلب أحيانا بين القسوة والحنان , والطاعة والعناد .. إلخ .. لأن النفس الإنسانية شديدة التركيب والتعقيد لكن ذلك لا ينفي أبدا أن الشخصية السوية لابد أن تكون لها ملامح أساسية وطابع عام يمثل الصفات الغالبة فيها .. أما أن يكون للإنسان ألف وجه وألف قناع يبدلها بما يتفق مع كل شخص يتعامل معه في حياته اليومية فهذا أمر خطير يهدد شخصيتك الحقيقية بعواقب وخيمة.
فارتداء الأقنعة يتطلب الكذب .. واعتياد الكذب يفقد الإنسان احترامه لنفسه .. وجدراته باحترام الآخرين , ويورثه الإحساس الدائم بالذنب فيتبدد سلام نفسه ومعايشته الدائمة للأكاذيب تهدده بفقد الادراك والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو مكذوب من أمور الحياة , كما بدأ يحدث معك حين رحت تصدقين بعض أكاذيبك واختلاط الحدود بين الحقيقة والخيال ينذر بإضطراب التفكير وهو أبرز سمات الشخصية الفصامية .
وأنت تستطعين بكل تأكيد أن تجنبي نفسك كل هذه العواقب الوخيمة إذا لجأت إلى الطب النفسي .. أو إذا قررت ألا تكوني سوى نفسك وألا تظهري أمام الآخرين إلا بشخصيتك الحقيقية رضوا عنها أم لم يرضوا , فليس هناك أشخاص يجمع الآخرون على قبولهم بغير استثناء ولو كان ذلك ممكنا لكان الأنبياء وهم أكمل الناس خلقا ودينا قد نالوا إجماع أقوامهم عليهم وقبولهم لهم وهو ما لم يحدث مع نبي من أنبياء الله.
والإنسان مطالب بأن يلتزم بالفضائل في حياته الخاصة وأن يعيش في سلام مع الآخرين وألا يقصر في محاولة تأليف القلوب حوله , ولكن بغير أن يزيف شخصيته أو يتخلى عن صدقه ومبادئه مع أحد , لأن الإنسان ليس "مرشحا" دائما في انتخابات الحياة لكي يتوسل بالوسائل الشريفة وغير الشريفة لكي ينال رضا الآخرين , كما أنه ليس بائعا في محل تجاري مهمته أن يرضي الزبون ولو كان على خطأ , وإنما هو إنسان طبيعي له حقوق وواجبات عليه أن يؤديها ويكف أذاه عن البشر ثم فليقبله بعد ذلك من يشاء وليرفضه من يشاء , فإذا اقتنعت بكل ذلك فإنك تستطعين إنقاذ نفسك على الفور من هذا الزيف .. كما تستطيعين أيضا أن تكفي عن الكذب لكي يتفق سلوكك حقا مع قولك أنك لست إنسانة شريرة , ذلك أن الكذب شر في حد ذاته ولو لم يستهدف إيذاء أحد وهو بداية كل الأخطاء والجرائم وقد جرك إلى خطأ أكبر هو إيهام خطيبك بحبك له على خلاف الحقيقة ومع كل ذلك فإن الآوان لم يفت بعد لإصلاح الخطأ فابدئي من الآن , واستجمعي إرادتك وقاومي الرغبة الغامضة التي تساورك في الفوز "بأصوات" كل من تتعاملين معه على حساب شخصيتك وصدقك وسوف تجدين من ذكائك وثقافتك التي أحسهما من رسالتك ما يعينك على ذلك بغير عناء كبير إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر