الحل الموفق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا
سيدة في الخمسين من عمري زوجة لرجل فاضل يعرف ربه ويخشاه ويعرف واجباته تجاه زوجته
وبيته ويؤديها كاملة , وقد أثمرت عشرتنا الطيبة خلال رحلة العمر ابنه وحيدة جميلة
في الثامنة والعشرين من عمرها الآن .. قمنا بتربيتها على الخلق الحميد وطاعة ربها
في كل أمور الحياة , وقد كنت أنا وابنتي دائما صديقتين بل أختين نتحدث معا ونتناقش
في كل أمور حياتنا بحرية وصراحة وترجع من عملها كل يوم فتروي لي ما حدث لها خلال
يومها وأروي لها ما فعلته بوقتي أثناء غيابها حتى أصبحنا "كالكتاب
المفتوح" يقرأ كل منا الآخر ويعرف كل أسراره.
وقد
حدث بعد تخرج ابنتي أن تقدم لخطبتها شاب من معارفنا فوافقت عليه ووافقنا نحن وتمت
الخطبة على عجل وانتهت للأسف على عجل أيضا .. لأن الخطيب الشاب لم يكن قادرا على
اتخاذ أي قرار في حياته إلا بموافقة والدته, في حين كانت ابنتي ومازالت صاحبة
شخصيه قوية مستقلة .. ومع أن فشل أي خطبه أمر عادي إلا أن حال ابنتي تغير كثيرا
بعد فسخ خطبتها وراحت تلقي علينا باللوم فيه وتعتبرنا مسئولين عنه, وتذكرنا كل حين
بأننا قد اخترنا لها العريس الخطأ ولهذا فأنها سوف تختار بنفسها بعد ذلك الإنسان
الذي تريده وتراه مناسبا لها .
وبدأت
منذ ذلك الحين تتمرد على آرائي وأراء أبيها وتكره حديث الزواج وكلما فاتحناها في
أمر خطيب جديد أغلقت باب الحديث من البداية قائلة أنه يكفي ما صنعناه بها في
الإختيار الخاطئ الأول , وتصورت أنها فترة مؤقتة بسبب ضيقها بفشل الخطبة الأولى
وسوف تنتهي بعد قليل, لكني لاحظت بعد ذلك أنها بدأت تمتنع عن الحديث معي عما يحدث
لها خارج البيت كما كانت تفعل هي من قبل, وبدأت تلتزم الصمت وتتباعد وتحول الكتاب
المفتوح إلى كتاب مغلق غامض , فانتابني القلق عليها وبدأت أرقبها وأتأمل تصرفاتها
وأحاول استشفاف ما وراءها.
ولم
يستمر الغموض طويلا فلقد عرفت السر, إنه زميل لابنتي في العمل كانت كثيرا ما تتحدث
عنه من قبل وكنت لا أجد في ذلك غضاضة لأنه متزوج وأب ويحب زوجته ويغار عليها بشدة كما
سمعت منها, ولست أعرف كيف أصبح هذا الزميل نفسه هو فتى أحلام ابنتي الذي ترغب في
الارتباط به ولا يهمها بعد ذلك أن تكون زوجة ثانية أو زوجة أب.
لقد
خمنت ذلك في البداية وربطت بين فترات اختفائها الكثيرة للحديث في التليفون وفترات
انطوائها وعزوفها عن الكلام معي وذعرت حين توقعت ذلك وناقشتها في الأمر وصارحتها
بما أحسه وأدعو ربي أن أكون مخطئه فيه فإذا بها تصارحني "بكل وقاحة"
بأنها تحبه وتتمناه ولن تتزوج أحدا غيره.
ولــكــاتبة هـذه الرسـالة أقـول:
أسوأ
الحلول لهذه المحنة التي تواجهها ابنتك هو بالتحديد هذا "الحل" غير
الموفق الذي توصلا إليه وهو الإستمرار بلا أمل قريب في حل مشروع لمشكلتهما.. وبلا
رجوع عن الطريق الذي قادهما إليها..ذلك أن حل اليائسين من امكان الحل.. وليس حل
الراغبين حقا في تصحيح الأوضاع والكف عن مواصله الخطأ.. والمأساة أن هذا
"الحل" يهدر سنوات غالية من العمر ولا يدفع ثمنه في النهاية سوى طرف
واحد غالبا هو الفتاة التي تفقد عاما بعد آخر كل فرصها العادلة في الزواج..
وتبوء
في النهاية بسوء السمعة وتجد نفسها أسيرة للوحدة بعد ضياع ربيع العمر أو تقبل بما
كانت ترفضه في عنفوان الشباب وتسعى إلى زواج بلا عاطفة.. وقد تلهث وراءه وتقدم من
أجله التنازلات.. وربما لا تحظى به!
لقد
كان الفيلسوف الألماني نيتشه يقول أنه يجب ألا نسمح لمن وقع في حبائل الحب بأن
يتخذ لنفسه قرار اختيار شريك حياته لأنه غير واع بما يفعل ولأنه أيضا غير قادر على
اتخاذ القرار السليم بشأن من يحب وغير قادر على تقييمه التقييم الصحيح لأن عين
المحب لا ترى إلا المزايا .. ولا شك أن في هذا الرأي مبالغة شديدة لكنه رغم ذلك
يكشف عن حقيقة أخرى يؤكدها الآن علماء الاجتماع الغربيون لا الشرقيون هي أن الحب
وحده لا يكفي لأن يكون أساسا ناجحا لزواج سعيد, إنما هو أحد أسسه وإلى جواره لابد
من أسس أخرى عديدة منها حسن الاختيار.. والتوافق النفسي .. والتكافؤ الاجتماعي
والأسري والثقافي.. والقدرة المادية والنفسية على تحمل أعباء الزواج ومسئولياته
وبعد كل ذلك يأتي الأساس الأهم وهو ألا يتجاهل مشروع الزواج المشاكل المحيطة به ..
فتصبح هذه المشاكل قنابل موقوتة لا يعرف أحد متى ستنفجر لتطيح بأشلاء الحب وتهدم
بنيان الزواج, لهذا فإن أهم ما ينصح به العقلاء هو ألا يبدأ إنسان رحلته للسعادة
بمشكلة لم تجد حلا نهائيا لها, فتهدد سعادته في كل لحظة وترشحه للمتاعب والمعاناة
بعد حين, و زواج ابنتك من زميلها مشروع محفوف بالمتاعب.. ولن يكفي الحب وحده
للصمود أمامها فهي في أحسن الاحتمالات لن تصبح إلا نصف زوجة لزوج له زوجة وأبناء ,
ومهما كانت "أنشودة" التعاسة الزوجية التي يبرر بها الرجل المتزوج غالبا
الدخول في علاقة جديدة "مؤثرة"
فإن أسرته ستظل عامل جذب أساسيا يجذب كقطب المغناطيس ويؤثر على قراراته
بشأن علاقته الجديدة , فكثير من الرجال المتزوجين يحجمون عند اللحظة الفاصلة عن
الإقدام على ما يرغبون فيه من الزواج بفتاة القلب إدراكا منهم لعجزهم عن التخلي عن
مسئولياتهم الأبوية والعائلية وكثيرون منهم قد يقدمون في ذهول القلب على الزواج ثم
يندمون عليه بعد بضع سنوات حين يعجزون عن تحمل عناء أنقسام الشخصية وترددها بين
حياتين وعالمين مختلفين.
بل إن كثيرين ممن يتمادون في طلب السعادة
الشخصية ويقدمون على طلاق الزوجة الأولى ويرتبطون بفتاة القلب الجديدة قد يثوبون إلى
أنفسهم بعد سنوات قليله ويسعون إلى إعادتها مرة أخرى سرا ويضعون الزوجة الثانية
أمام الأمر الواقع.. فإما قبوله.. وإما تهدم معبد الحب على صخرة الواقعية
والمسئولية الأبوية .
فلماذا
كل هذه المعاناة.. وابنتك شابة ومرغوبة ومن حقها أن تكون زوجة وحيدة لشاب في مثل
عمرها يسعد بها وتسعد به لو غالبت نفسها قليلا وتخلصت من آثار هذه التجربة بعد
فترة نقاهة قصيرة؟..
إنني
لا أنكر نداء القلب.. لكني أعرف أيضا أن أحكام القلب التي تتناقض مع العقل تناقضا
فادحا لا تصمد طويلا لهذا التناقض , وتسلم بالهزيمة بعد حين وكل الأمل هو ألا يأتي
هذا التسليم بعد ضياع العمر وفوات الأوان.
إنني
أنصحك يا سيدتي ألا تتخلي عنها في هذه المحنة, فهي في حاجة إليك أكثر من أي وقت
آخر حتى ولو لم تدرك هي ذلك.
وأنصحك بأن تزدادي اقترابا منها وأن تشجعيها على
أن تبوح لك بأسرارها وكل أفكارها .. وأن تطلبي منها برفق أن تفكر طويلا فيما سوف
تخسره من شبابها وعمرها وسمعتها إن هي واصلت هذا الوضع الخاطئ, وفيما سوف تواجهه
من متاعب إن هي ساهمت في هدم عش زوجة أخرى وأبناء أبرياء, وفيما سوف يلاحقها من
مشاكل ومعاناة إن هي رضيت بوضع نصف الزوجة , وهو أفضل ما يعدها به هذا المشروع
الخاسر, اطلبي منها كل ذلك كصديقة حميمة وليس كأم فقط وساعديها بكل ما تملكين من
قوة على أن تتخطي حالة "عجز الإرادة" التي تعاني منها الآن وتمنعها من
اتخاذ القرار الصحيح بشأن حياتها, فإذا أصرت في النهاية على الزواج بزميلها فلست
تملكين لها للأسف إلا النصح وطلب الهداية.. والتجربة هي خير معلم في الحياة وهي
الخاسرة في كل الأحوال.. وهي التي اختارت لنفسها هذه الحياة التي تحمل معها بذور
التعاسة والعناء.. وكما تهيئي لنفسك فراشك "تنم عليه" كما يقول المثل
الروسي..أما إذا أصرت على مواصلة هذا "الحل الموفق" واستمرأته بلا رغبة
في تصحيح الأوضاع أو عدول في العلاقة, خاصة وأن سبب إحجام زميلها عن التقدم لها
ليس مقنعا بالمرة فمن واجبك يا سيدتي أن تتدخلي بقوه معها ومع زميلها إذا تطلب
الأمر ذلك ومن حقك أن تطالبيه بحزم إما الإبتعاد عنها ..وهو الأفضل.. وإما بالتقدم
لخطبتها والارتباط بها.. وهو أضعف الإيمان!
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" ديسمبر عام 1992
كتابة النص
من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر