بداية القصة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا من قارئات
بريدك منذ سنوات طويلة .. وقد قرأت رسالة ( الحل الموفق ) التي تشكو فيها أم معذبة
من ابنتها الوحيدة الجميلة ذات الأعوام الثمانية والعشرين التي تحب زميلا لها
متزوجاً ولديه أبناء ، وفكر في التقدم لخطبتها لكنها أبت ذلك إشفاقا عليه من رفض
أبيها له ، وكان الحل (الموفق ) الذي توصلا إليه هو استمرار الحال بينهما على ما
هو عليه .. هو متزوج وعلى خلاف مع زوجته كما يزعم ، وهي لن تتزوج أحدا ..
والمقابلات مستمرة بلا نهاية ولا أمل في حل آخر .. وطلبت منك الأم الحزينة أن تنصح
ابنتها وتبصرها بحقيقة ما تفعل وبما هي مقدمة عليه ، فرددت عليها ردا حكيما مفاده
أنك تنصح الابنة أن تتعظ بتجارب الأخريات اللاتي اعتمدن على الحب وحده في اختيار
شريك الحياة ، وتجاهلن العوامل الأخرى الكثيرة التي يقوم عليها بنيان الزواج ومن
أهمها ألا يتجاهل مشروع الزواج المشاكل المحيطة به من كل جانب ، فتصبح قنابل
موقوتة تنفجر في أي لحظة ، ومنها أيضاً ألا يبدأ الإنسان طريقه للسعادة بمشكلة لم
تجد حلا نهائيا لها فترشحه للشقاء والمعاناة بعد قليل .. وقلت لها في ردك أن أسرة
زميلها المتزوج والأب ستظل عامل جذب أساسيا يجذبه كقطب المغناطيس إليها بعد الزواج
وينذرها هي بالمتاعب خاصة حين تهدأ العواطف .. ويفشل الزواج في احتمال عناء انقسام
الشخصية بين حياته الجديدة وواجبه ومسئولياته العائلية والأدبية تجاه أولاده
وزوجته الأولى فيعيدها إلى عصمته سرا إن كان قد انفصل عنها .. أو يخون عهده مع
فتاة القلب التي تزوجها وينفصل عنها ويعود لحياته الأولى نادما .. إلى آخر ما قلت
لها.
ومع احترامي لهذا
الرد الحكيم ، فإني أنصح الفتاة بألا تستجيب إلى حرف واحد منه وألا تعمل به ..
لماذا ؟؟ هذا ما سوف تشرحه لك تجربتي الشخصية بعد قليل .
فأنا سيدة في
الثالثة والثلاثين من عمري ، جميلة بإجماع الآراء وقد نشأت في أسرة متماسكة ميسورة
وتعلمت في مدرسة أجنبية راقية وتفوقت في دراستي فرشحتني المدرسة بعد الثانوية
العامة لمنحة دراسية بإحدى الجامعات البريطانية .. وسافرت وأنهيت دراستي هناك في
فترة قياسية بتفوق ، وعدت فعملت مدرسة في نفس المدرسة التي تخرجت فيها ، وبمعهد
للغات الأجنبية إلى جوارها ونجحت في عملي ، وذات يوم جاء رجل وسيم جذاب ليسأل عن
حال ابنته التلميذة من الناحية الدراسية ، وكان لطيفاً وشكرني على اهتمامي بابنته
.. وأثنى على نطقي السليم للغة الإنجليزية الذي انعكس على نطق ابنته وانصرف تاركا
في أثراً طيبا.
ومنذ ذلك اليوم
بدأ يتردد على المدرسة بكثرة بحجة السؤال عن ابنته ويطيل الحديث معي ، وانتهت
اللقاءات بغير تفاصيل طويلة إلى أن وجدت نفسي أعيش في قصة حب مع رجل متزوج ولديه
أبناء بغير مقاومة من جانبي ، وكان دائماً يشكو من زوجته ويقول إنها لا تهتم بشيء
إلا بنفسها وأنه يفتقد معها الحب والحنان ، وأنه كان سينفصل عنها سواء التقى بي أو
لم يلتق.. إلخ
وصدقته في كل ما
قال ، وأشفقت عليه من تعاسته واتفقنا على أن يتقدم إلى أسرتي ، وأبلغت أمي بأنه
سوف يجيء ليخطبني وبأني موافقة عليه .. ولم أشر إلى أنه متزوج ولديه أبناء ، ليس
رغبة في إخفاء الأمر لأنه لا يمكن إخفاؤه.. وإنما لأني كنت أعتبره أمرا ليس جديراً
بالاهتمام ، وأن الأمر الأهم هو أن أرتبط بالإنسان الذي أحببته .. وجاء في موعده
وذهل أبي وإخوتي حين علموا أنه متزوج وأب ورفضه أبي بغير تردد. فانهرت باكية وسألت
أبي وأمي من بين دموعي : هل تريدان تعاستي ؟؟ فأجابني أبي بأن ما أنا مقدمة عليه
هو التعاسة الحقيقية ، أما هما فلا يريدان إلا سعادتي.
وسمعت من أبي
كلاما كثيرا كله حكمة ومنطق كردك على فتاة ( الحل الموفق ) وسمعت من أمي كل
الاحتمالات التي سأتعرض لها إذا تزوجت من أحببته وهي شبيهة بنفس الاحتمالات التي
عددتها أنت في ردك على الرسالة وأنت تحاول إقناع الفتاة بأن تبصر طريقها ، لكني لم
أقتنع بحرف واحد من كل ما قيل لي خاصة أنني كنت كلما قابلته وحكيت له عن حجة من
حججهما للرفض بادر بدحضها على الفور وتذليل العقبة التي يشيران إليها.
وكان أبلغ ما قاله
لي أنه سوف يطلق زوجته ، وسوف نعيش معا بعيدا عن الجميع وسوف ينقل حياتنا إلى دولة
أخرى لعمله الخاص فيها مصالح .. وسيدير شريكه العمل في مصر .. ولم تجد أسرتي بدا
من الموافقة على زواجي منه على مضض بعد أن عرفوا أني لم أنقطع عن مقابلته.
وتزوجنا وكل من حولي حزين جدا لزواجي هذا ، وأنا
وحدي التي في قمة السعادة والابتهاج ولم أستطع مواصلة عملي في المدرسة بعد أن كثرت
الهمسات والأقاويل حولنا فتركتها وتركت المعهد وسافرنا بعد قليل إلى الدولة الأخرى
، ورشفت رحيق السعادة التي حلمت بها ووجدتها حقيقة وليست أوهاماً ستختفي بعد قليل
وتطل المشاكل حين يتبدد ( ذهول القلب ) الذي يعمي الأحباء عن المشاكل الكامنة تحت
السطح كما حاولت أن تقنع فتاة ( الحل الموفق ) في ردك ، وكما حاولت أمي وأبي أن
يحذراني أنا أيضا .. إلى أن تلقى زوجي خطابا من أولاده ، وكان أول خطاب يصله منهم بعد
فترة من القطيعة ففرح به جدا وقرأه مرات ومرات ثم جلس شاردا فتركته لنفسه حتى لا
يحس بأني لاحظت شيئا وبعد ذلك بدأت خطابات الأبناء تصل بانتظام .. وبدأ حديثه
يتحول تدريجياً من حديث الحب والشوق إلى الحديث عنهم حتى أصبحوا محور حديثه الدائم
وبدأت أدرك في هذا الوقت عمق ارتباطه بهم ، وفزعت حين أخطأ ذات مرة وناداني بإسم
زوجته الأولى ، لكني هونت الأمر على نفسي بأنها زلة لسان عابرة .. لكن الزلة تكررت
وفي مناسبات أخرى جرحت إحساسي كإمرأة ، ثم جاء شريكه في زيارة للبلد الذي نقيم فيه
، وانفرد بزوجي بعد الغداء في حديث طويل ، وبعد أسبوع أبلغني زوجي أنه سيعود مع
شريكه إلى مصر لإنهاء بعض الأعمال وسيعود بعد فترة قصيرة ، وسافرا معا وغاب شهرا
كامل قبل أن يتصل بي ليبلغني بموعد عودته ، وعاد فاستقبلته في المطار وتلقيته
بلهفة صاعقة.
ورغم ذلك فقد
أحسست بشيء غريب في مشاعره ، وبأن شوقه لي مفتعل وليس نابعا من القلب ، وفي اليوم
التالي تلقيت خطابا من أختي نزل علي كالصاعقة .. فقد أبلغتني فيه أن زوجي الحبيب
الذي تعاهدنا معا على أن نعيش قصة حب بلا بداية ولا نهاية إلى آخر العمر ، قد أعاد
زوجته إليه وأمضى فترة وجوده في مصر كلها مع زوجته وبين أولاده وأن شريكه كان
واسطة الصلح بينهما.
وزلزلتني الصدمة
القاسية وواجهته بما عرفت فإذا به يقول بهدوء إن سبب العودة هو مسئوليته التي لا
يستطيع أن يتخلى عنها تجاه أولاده.
ولم يقل انه أيضا
" حبه " لزوجته الأولى مع أني كنت أحس ذلك في قلبي . وأغلقت باب الحجرة
ورائي وانهمرت في بكاء طويل وأنا أتساءل بلا صوت : ماذا فعلت بنفسي وأين الحب
والأحلام التي حلمنا بها وتحدينا الجميع لتحقيقها .. هل كانت وهماً وسرابا .. أم
كانت من ذهول القلب الذي تتحدث عنه .. والذهول لا يدوم وبعده يعود العقل فيصحح
الأخطاء وأنا كنت خطأ من هذه الأخطاء في حياته.
ووقعت في حيرة
شديدة .. هل أبقى وأتحمل الأمر الواقع وأتحمل نتيجة خطئي ، أم أعود إلى أهلي وقد
خسرت كل شيء ..؟؟ ولم أجرؤ على العودة وبقيت لم أغادر البيت لكن البيت نفسه هو
الذي تغير فيه كل شيء فقد تغير زوجي إلى النقيض وأصبح يتحاشى النظر إلي والكلام
معي ويقضي معظم وقته في مكتبه أو في مقابلات العمل وكلما عاتبته على انشغاله عني اعتذر
بكثرة العمل .. ثم سافر مرة أخرى وتركني للوحدة والمعاناة وعلمت بالمصادفة أنه
يصفي أعماله في هذا البلد ، فأدركت أنه يصفي أيضا حبنا وحياتنا ، ولم أستطع الاحتمال
أكثر من ذلك وعدت لمصر ووجدت أهلي في انتظاري ورجعت معهم إلى بيت الأسرة ، ورويت
لأمي كل ما عانيته وفوجئت بأنها لم تندهش لشيء ، لأنها كما قالت لي كانت تتوقع لي
هذه النهاية وتجاهل الجميع الأمر ولم يجرحوا مشاعري بالسؤال عن زوجي.
وبعد أسبوعين لم يسأل عني خلالها شريك الأحلام
والوعود ، أحسست ببعض الأعراض المرضية فتوجهت للطبيب وأجريت بعض التحاليل وصُدمت
صدمة قاسية حين جاءت نتيجتها تؤكد أني حامل ، بل لا يتصور أحد تعاستي حين علمت
بذلك ، وقبل أن أتمكن من الاتصال بزوجي لأبلغه بالنبأ ( السعيد ) .. سبقني هو
بإرسال ورقة الطلاق لي فنزلت المفاجأة على رأسي كالمطرقة ولم أفق منها إلا في
المستشفى ، وأمي تبكي إلى جواري والأطباء يقولون لي أني كدت أفقد الجنين لولا أنهم
أسعفوني .. وليتهم ما أسعفوني .. وهونت أمي الأمر علي وطالبتني بالصبر على نصيبي .
وصبرت على ما اخترته
لنفسي وما فعلته بها ، حتى بلغ إبني الوحيد الآن أول مراحله الدراسية ودفع هو
الآخر معي ثمن خطئي ولكن دون ذنب جناه ، فلقد حرم من وجود الأب إلى جواره ومن
الحياة الأسرية الطبيعية .. وأحسست بمسئوليتي عنه وبأنه قد أصبح كل حياتي فرفضت
ومازلت أرفض كل من يتقدمون للزواج مني ويكفيه ما فعلته به فهل أجيء له أيضاً بزوج
أم ؟؟
وبعد أن كنت
محبوبة من كل الصديقات وكن يفخرن بصداقتي ، تباعدت عني كل الصديقات المتزوجات
وأصبحت غير مرغوبة منهن حتى في محيط الأهل ولهن العذر في ذلك ، فلي سابقة في خطف
الأزواج .. وساءت سمعتي بينهن للأسف فاضطررت للابتعاد عن الجميع وسافرت مع شقيقي وابني
للعمل في إحدى الدول العربية إلى أن ينسى الآخرون قصتي . وبعد فوات الأوان أدركت
قيمة كل حرف قاله لي أبي وهو يحاول أن يثنيني عن الارتباط بمن أحببته وأردت زواجه
ضد العقل والمنطق بل وعرفت أيضاً وجه الحكمة في حديثه لي عندما شكوت من تعاستي
ووحدتي وسوء ظن الصديقات بي وتباعد الأهل فقال لي : وماذا تنتظر من تسلب زوجة أخرى
استقرار حياتها وتسلب أولادا أبرياء أباهم وحياتهم الأسرية الطبيعية ؟؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
في كتاب ( كليلة
ودمنة ) عبارة حكيمة تقول " أنفع العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون ..
مع طيب النفس وحسن الانصراف عما لا سبيل إليه " .. ومأساة الإنسان تكمن
في أحيان كثيرة في عجزه عن ( حسن الانصراف ) عما لا سبيل له إليه أو عما يتصادم مع
أحكام العقل وموج الأعراف والقيم السائدة في مجتمعه فيتعامى عن تحذيرات الآخرين
المخلصة.. ويصر على نطح الصخر والسباحة ضد التيار ، ويبرر لنفسه دائما إقدامه على
نفس الطريق الذي آب منه الآخرون نادمين بأن تجربته هو " تختلف " عن
تجاربهم ، وقصته لا مثيل لها في الأولين ، وهذا ما يترجمه تماما
" حالك " حين كان الجميع يرون " تحت الرماد وميض النار"
ويرددون على مسامعك نداء الحكمة فلا يجد طريقه إلى عقلك المغلق إلا على نداء
القلب .. وهذا أيضا ما يترجمه موقف فتاة ( الحل الموفق) من النداءات المماثلة.
إن رسالتك يا
سيدتي تقول الكثير وليس عندي ما أضيفه إليها بعد كل ما قلته في تعليقي السابق على
رسالة الحل الموفق ، سوى أني أدعو بطلتها إلى تأمل تجربتك هذه طويلا والتفكر فيها
طويلا مع مراجعة النفس وعدم الاستنامة إلى الوهم المخدر المريح " بأننا شيء
مختلف عن الآخرين " .. فالحق الذي يتعامى عنه البعض هو أن الجميع أمام قانون
الحياة سواء وأن الاستثناء من القاعدة حتى وإن كثرت أمثلته لا يقاس عليه.
أما أنت يا سيدتي
فكفاك ما نلت حتى الآن من عناء ومن " جائزة " المجتمع لمن يتحدون قيمة
السائدة .. وتوقفي عن جلد نفسك إلى ما لا نهاية بخطئك الوحيد . فلقد أديت الضريبة
كاملة عنه وآن لك أن تتفتحي من جديد للحياة وتتخلصي من ذباب الندم ولسع الإحساس
بالذنب تجاه ابنك الوحيد ، وواجهي الدنيا بنفسية طبيعية واستعداد سليم لاستقبال
مؤثرات الحياة والتفاعل معها ، فأنت مازلت في سن الشباب ولا شك أن هناك وسيلة ما
للتفاهم مع زوجك السابق على حل يوفق بين أمومتك ورعايتك لطفلك ، وبين حقك في الحياة
الطبيعية بعد حين ، وليس من الحكمة أن تحكمي على نفسك بالوحدة الأبدية فتضيع فرصك
الملائمة في الاستقرار مرة أخرى وتتلفتين حولك بعد حين فلا تجدين في يدك إلا قبض
الريح وحصاد الهشيم.
لقد رفضت منذ سنوات نداء العقل وعرفت بالتجربة قيمته .. فأرجو ألا ترفضيه مرة آخرى الآن .. فلا تعرفي له قدرة مرة أخرى إلا بعد فوات الأوان.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر