الشئ الخاص .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

الشئ الخاص .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

الشئ الخاص .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

فكرت في الكتابة إليك كثيرا .. ولكن منعني الخجل من البوح بأسرار حياتي الخاصة على الملأ .. ثم تشجعت وكتبت لك لأرجوك سواء نشرت رسالتي أم لم تنشرها أن تشير علي بما أفعل لأتخلص من معاناتي .

كنت في الثالثة عشرة من عمري حين رحلت عنا أمي رحمها الله .. فوجدت نفسي ربة بيت صغيرة لأبي وأختي التي تصغرني بعامين وأخي الذي يبلغ من العمر 5 سنوات.

وكانت أختي الصغيرة مدللة للغاية لأنها أجمل مني بشكل لافت للنظر رغم أني لست قبيحة الشكل , لهذا لم تشاركني في تحمل المسئولية التي كانت تقوم بها أمي وتحملتها وحدي من مسح وطبخ إلى عناية بكل شئون البيت , فأصبحت أصحو من النوم مبكرة لأعد الافطار لأبي , واصنع ساندوتشات المدرسة , وأعين أخي على ارتداء ملابسه , وأذاكر دروسي بنفسي وله بعد العودة من المدرسة إلى جانب باقي شئون الحياة .

ومضت الأيام بحلوها ومرها الذي لا أريد أن أتذكره الآن وكبرنا وتقدمنا في الدراسة والتحقت بإحدى الكليات النظرية , أما شقيقتي فقد أثرت االتعليم المتوسط وحصلت على دبلوم فني , وفي آخر أعوام دراستها تقدم لها شاب كريم يكبرها بتسع سنوات فتردد أبي في قبوله رغم امتيازه إشفاقا على ابنته الكبرى من زواج اختها الصغرى قبلها لكني شجعته على قبوله بأن أكدت له أنني لا أريد الارتباط قبل اكمال تعليمي , ولا اخفي عليك ما أحسست به وقتها من مشاعر متضاربة , ففي يوم زفافها كنت فرحة لها جدا لكنها بعد انتقالها إلى بيتها لا أدري كيف أحسست بالحسرة على نفسي , بل وببعض الغيرة أيضا حين رأيتهما سعيدين في حياتهما وأنا أمارس حياتي الرتيبة المثقلة بالمسئوليات كما فعلت منذ صغرى وتمنيت أن أكون مثلها أو أن أحس بهذه المشاعر والأحاسيس العاطفية التي عرفتها هي قبلي .

ورغم ما أحسست به من حسرة فحين تقدم لي وأنا في السنة النهائية زميل لي بالكلية رفضته لأؤكد للجميع ما سبق أن قلته لأبي من أني أريد استكمال تعليمي قبل أي ارتباط , ولأنني خشيت إذا قبلته وكان للمصادفة أصغر مني ببضعة شهور أن يقال عني أنني قد أحسست بالغيرة من أختي فقبلت أول طارق على بابي .

وواصلت حياتي كطالبة وربة بيت ثم حملت أختي الصغرى وفرحت بحملها وتمنيت لو كانت لي خبرة الأم الحقيقية لأساعدها بها في مواجهة تجربة الحمل.

 وأنجبت شقيقتي طفلة سعدت بها سعادة كبيرة حتى لقد تمنيتها لنفسي ثم تخرجت من كليتي وعملت , ومضت الشهور والسنوات دون أن يتقدم لي أحد أو يتغير شئ في حياتي التي أمارسها منذ رحيل أمي , ثم تقدم لي أخيرا أحد أقاربي لكن أبي رفضه لأنه كانت له تجربة خطبة سابقة فسخها من جانبه , وعارضت أبي في ذلك , وبعد إلحاح وافق أبي عليه بشرط تأجيل قراءة الفاتحة إلى ما بعد امتحان الثانوية العامة التي كان يستعد لها شقيقي , وبالطبع لم يقبل ذلك العريس ومضى لحال سبيله لأنه لم يرد الانتظار ولا أن يتسبب في اثارة المشاكل بيننا .

وبقيت على حالي أرعي أخي وأبي ولكن وأنا كارهة لأول مرة أحس أنني لست أكثر من دادة أو خادمة لهما ولطفلة أختي التي بدأت تتركها معي فترات طويلة لمعاناتها في الحمل الثاني .. وبدأت أحس بتقدم العمر بي . وشارفت الثلاثين  ولم يطرق بابي طارق آخر وبعد شهور حملت أختي مرة ثالثة ثم وضعت حملها وكان طفلا أيضا , لكن صحتها تأثرت بهذه الولادة كثيرا , ولم تمض ثلاثة أيام حتى أصيبت بالحمى واشتد عليها المرض فجأة وتوفيت إلى رحمة الله تاركة وراءها ثلاثة أطفال كما تركتنا أمي وراءها  من قبل.

وجدد رحيل أختي أحزاننا عليها وعلى أمنا الغالية وبعد أن هدأت الأحزان قليلا بدأت ألتفت إلى مسئوليتي الجديدة عن رعاية هؤلاء الأطفال الثلاثة الحيارى وكنت قد ضممتهم إلى بيتنا وبدأ أبوهم يتردد عليهم كل بضعة أيام ليراهم وتحملت مسئوليتي عنهم بإخلاص , ومضى عام طويل بمتاعبه وأحزانه , ثم فاتح زوج شقيقتي أبي في رغبته في الزواج وخطبني منه لأني كما يقول أحن قلب على أطفاله ولأنه يتزوج من أجلهم ولا يريد أن يأتيهم بزوجة أب قد تقسو عليهم.

وفاتحني زوج شقيقتي في الأمر فرفضت وبإصرار لأني لم أتخيل نفسي يوما في موضع أختي منه وأبلغته أنني على استعداد لأن أحمل عنه مسئولية رعاية هؤلاء الأطفال إذا كان قد ضاق بها ولكن بلا زواج , وتمسكت برفضي فإذا بالجميع يقفون ضدي حتى أمه , واتهمني البعض بالأنانية وعدم الحرص على مصلحة الأطفال , واستمرت الضغوط .. والإلحاح بل والتلميحات المؤلمة إلى أن هذه هي فرصتي الوحيدة للزواج التي لن تتاح لي مرة أخرى , وقالها لي شقيقي بصراحة جارحة أنني قد كبرت ولن يكون لي حظ الزواج إلا من أرمل أو مطلق له أولاد سوف أرعى أولاده .. فلماذا أرعى أطفال الغرباء , ولا أرعي أطفال أختي الراحلة ؟

وبعد معاناة طويلة وافقت على الزواج من زوج شقيقتي وأنا أحس كأني أساق للموت وليس إلى حياة جديدة.

 وتم القران وحكمت علي الأقدار أن أحرم من ارتداء فستان الزفاف الأبيض والطرحة ومن الفرح والزفة بل ومن الضحكة تملأ شفتي كأي عروس ومن زغرودة ترن في سمعي مراعاة لظروف وفاة أختي.

وانتهى الحفل الكئيب الصامت وانتقلت إلى بيت الزوجية , وفي ليلة الزفاف رفضت زوجي بكراهية وعنف لم أستطع السيطرة عليهما , وتفهم هو الظروف النفسية وقدرها وتركني لنفسي وامضي ليلته في غرفة أخرى وبعد 10 أيام ظل الحال بيننا خلالها على ما هو عليه .. عاد الأطفال الثلاثة إلى بيت الزوجية من بيت جدتهم , وبدأت أقوم لهم بكل شئونهم كما كنت أفعل من قبل ولكن بدون حب ولا أعرف لماذا  مع أنني أحبهم وكنت أخدمهم قبل ذلك بإشفاق وحب.

وبعد فترة أخرى من الزواج الصامت بدأ زوجي ينام في نفس غرفتي ولكن فوق الكنبة وأنام أنا مع الطفل الصغير في فراشي , وبعد فترة أخرى بدأ ينام إلى جواري ولكن بلا ضغط علي أو إجبار.

والحق أنني بعد أن عشت صبره علي وتقديره لظروفي النفسية بدأت أميل إليه , لكنني كلما أحسست في نفسي بأدنى رغبة فيه قفزت إلى خاطري صورة أختي فأفزعتني وحالت بيني وبينه.

وتمنيت أن يطول صبر زوجي علي حتى أتخلص من كل هواجسي وأفكاري , لكنه لم يطل كثيرا للأسف وبعد شهرين ونصف الشهر من الزواج ركعت على قدميه وقبلتهما لكي يعفيني مما يؤلم نفسي فعاملني بعنف وقسوة ووجدت نفسي منذ ذلك اليوم أشعر بالكراهية له ولأولاده وأؤدي لهم كل ما يحتاجونه ولكن بكراهية حتى أختي نفسها الله يرحمها كرهتها .. وازدادت الكراهية تدريجيا حتى نزعت صورها من الحائط .. وكرهت نفسي وكرهت الدنيا كلها.

وبعد 5 سنوات من الزواج انظر إلى نفسي فأجدني قد تحولت إلى ما يشبه زوجة الأب القاسية الكارهة لأولاد زوجها .. وقبل أن تظلمني وتسألني وما ذنبهم في كل ذلك دعني أسألك وما ذنبي أنا لكي أحرم من أن أكون أما مثل أختي ؟

لقد كنت أعاني في بداية الزواج من بعض المتاعب بالنسبة للحمل والانجاب واستغرق العلاج أكثر من ثلاث سنوات , ثم أكرمني الله بالحمل ففوجئت "بزوج أختي" يطلب مني أن أجهض نفسي لأن ظروفه المالية لا تسمح له بتربية طفل رابع ولأن لدينا أولادا ولا نحتاج للمزيد منهم , كما أن انجابي لطفل من صلبي سيجعلني انسى أولاده أو أكرههم , إلى غير ذلك من الحجج والمبررات , وبسبب حزني الشديد لهذا الموقف الذي صدمني ارتفع ضغط دمي فجأة وحدث تسمم في الرحم ثم أجهضت .. وبعد ذلك حملت مرة أخرى دون مبالاة بتهديداته فغضب وثار وضربني بقسوة على بطني حتى تم الاجهاض الثاني وتركت بيت الزوجية وعدت إلى بيت أبي الذي رحل هو الآخر عن الحياة رحمه الله وأقمت مع شقيقي الأصغر وطلبت الطلاق منه فرفض بإصرار ونصحني شقيقي بالعودة له وأن أحاول اقناعه بما أريد بالحسنى وأحضره معتذرا عما حدث فرفضت العودة معه فإذا بشقيقي يصارحني بأنه يريد أن يتزوج وأن خطيبته لن توافق على الزواج في نفس الشقة إذا بقيت فيها وإلا فعليه أن يشترى شقة أخرى وهو ما لا يستطيعه فلم أجد مفرا من قبول العودة لزوجي وعدت إليه فعلا منذ ثلاثة شهور لكني غير سعيدة ولا راضية عن نفسي ولا عن حياتي , فأنا أقسو على أطفال أختي وأكرههم كراهية لا حد لها .. وقد بدأت أضربهم بقسوة وأتوعدهم إذا اشتكوا لأبيهم .

إنني أكره نفسي لأني أقسو على أطفال أيتام , لكن ماذا أفعل وأنا أحس أنني لست سوى خادمة لغيري منذ كنت في الثالثة عشرة من عمري إلى أن أصبحت سني 37 عاما الآن ! وماذا سأفعل حين يكبر هؤلاء الأولاد وأجد نفسي وحيدة دون أن أسمع كلمة ماما التي تتمناها كل إنسانة ..ثم لماذا لا يكون لي شئ خاص بي وحدي كغيري من النساء .. وكل ما عندي وما حولي ليس لي .. ولكن لها .. هي أختي الراحلة رحمها الله فالبيت بيتها .. والرجل زوجها والأولاد أولادها وما أنا سوى مربية أو خادمة لهم ؟

إنني أرجوك أن تتفهم موقفي ومشاعري ولا تظلمني فأنا أعيش حياتي الحالية مجبرة لأني لا أملك مكانا آخر ألجأ إليه في حالة الطلاق .. وقد حاولت مع زوجي بكل الطرق وبالاقناع أن يسمح بأن يكون لي شئ خاص في حياتي فانجب منه طفلا , ولكنه يتخيل أنه بحرماني من ذلك إنما يحافظ على حبي لأولاده , وهو ما لا يحدث في الواقع لأني على العكس من ذلك تزداد كراهيتي وسوء معاملتي لهم كلما أصر على رفض طلبي وحرماني من الانجاب .

لقد كنت أحب أطفال أختي لكني أصبحت الآن المرأة الشريرة التي تقسو على اليتامى كما كنا نسمع عنها في الحكايات .. ولا أريد أن يعاني أطفال أختي من العقد النفسية من جراء معاملتي لهم وكفاهم ما هم فيه من يتم .. فماذا تقول لي لأتخلص من كل ذلك وماذا تقول لزوج أختي ؟ .. إنني في حاجة إلى مساعدتك لي بالرأي والكلمة المخلصة لأنني وحيدة وليس إلى جواري من أشكو إليه همي .. وليس لي سوى الله الذي لا أرعاه "للأسف" في هؤلاء اليتامى .. فماذا أفعل يا سيدي ؟!

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولــكـــاتــبه هـــذه الــرســالــة أقـــول:

 

مواجهة النفس أفضل من خداعها وأعجل بشفائها من أدوائها  .. ولابد أن تواجهي نفسك يا سيدتي بحقائق كثيرة وتعترفي بها لكي تبدئي خطوتك الأولى عن طريق التواؤم مع الحياة.

 أنت من هؤلاء الأشخاص سيئ الحظ الذين فرضت عليهم الأقدار الحزينة أن يتحملوا مسئوليات عائلية أكبر من أعمارهم وطاقاتهم النفسية لمجرد أنهم جاءوا إلى الحياة قبل أخوتهم الأصغر منهم سنا .. وهؤلاء أو بعضهم ينهضون بمسئوليتهم راضين أو ساخطين لكنه يصاحبهم غالبا احساسان متباينان , الأول هو الشعور بالرثاء للنفس واعتبارها شهيدة لظروفها , والثاني هو تناقض مشاعرهم تجاه من ينوبون عنهم في حمل هذه المسئولية باعتبارهم الأكبر سنا فتتوزع مشاعرهم تجاههم غالبا بين الاحساس بالحب لمن يرعونهم ويرثون لحالهم مثلهم , وبين الضيق بهم والسخط , بل وأحيانا النقمة الخفية عليهم لأنهم رمز للعبء الذي يقيد حركتهم ويقلل من فرصهم في الحياة في حين يمضون هم في طريقهم بلا معوقات كبيرة وبلا سبب سوى أنهم أصغر سنا.

 ومن بين هؤلاء الأخوة الأصغر سنا يتركز تناقض مشاعر الأخ الاكبر أو الأخت الكبرى في الأخت أو الأخ الذي يليه مباشرة في السن , والذي يفوز للأسف بأكبر قدر من هذه المشاعر المركبة من جانب شقيقه الأكبر فتتوزع مشاعره تجاهه غالبا بين الحب الاخوي الصادق والاعتزاز , وبين السخط الصامت عليه أو الضيق به والغيرة منه أحيانا لمجرد أن ترتيبه بين الأبناء قد أعفاه من تحمل المسئولية التي تقيد حركته هو تقلل من فرصه في الحياة وتتعمق مشاعر الغيرة مما يحققه أحيانا في حياته دونه من خطوات أو سعادة مع اعتقاد الاخ الأكبر أنه ما كان ليحقق لنفسه ما حققه لو كان هو الذي اختارته الأقدار ليكون في موقعه ويتحمل عنه هذه المسئولية التي لم يتمنها لنفسه , وتنعكس هذه الاحاسيس والمشاعر المتناقضة على علاقتهما غالبا , فتتراوح بين المشاعر الأخوية الطبيعية , وبين التصادم والتنافر والرغبة اللاواعية في الإيلام  المتعمد , ما لم يسلم الأكبر بأن الاصغر منه لا حيلة له في أنه قد جاء إلى الحياة بعده ولا يد له مثله في الظروف المؤلمة التي فرضت عليه هذه المسئولية كما أنه لا يألو جهدا في مساندته في تحملها .. لكن ماذا يفعل أمام حقائق الحياة التي لا يملك لها دفعا !

 

وفي ظروفك الشخصية فلقد فازت شقيقتك الوسطى بأكبر قدر من هذه المشاعر المتناقضة من جانبك , وساهم في تعميقها اعتبارك لها مدللة , إلى جانب فارق الجمال اللافت للنظر بينكما , والذي زاد من فرصها في الحياة فعرفت المشاعر العاطفية والحب والزواج والأمومة قبلك .

والغيرة حتى بين الأشقاء إحساس بشري غريزي لم ينج منه سوى الأنبياء وأولي العزم وأصحاب النفوس الكبيرة , وهي في حد ذاتها ليست شيئا معيبا إذا بقي في حدود الضعف العابر والانفعال المؤقت الذي لا يتجاوز لحظته الراهنة ولا ينال من عمق المشاعر الاخوية , بل أنها تكون في كثير من الأحيان غيرة إيجابية حين تدفع صاحبها لأن يكافح ويجتهد لينال بالطرق المشروعة ما يغار من الآخرين بسببه .. لكنها تتجاوز حدود الأمان النفسي حين يكتفي بها صاحبه ويعمى عن الفوارق بين ظروفه وقدراته وبين قدرات الآخرين وظروفهم , ويرى نفسه جديرا بأن ينال كل ما نالوه دون أن تكون له مؤهلاتهم ودون أن يبذل ما بذلوه هم من عناء يحصلوا عليه .

والتنفيس عن مشاعر الغيره حتى تجاه الأشقاء يخفض من آثارها السلبية ويحفظها في حدود الانفعال المؤقت , أما الانطواء عليها وإنكارها والخجل منها فإنه يعمقها ويكثفها ويزيدها تعقيدا وقد يحولها في النهاية إلى كراهية صامتة وحقد بغيض.

 والحق أننا يجب ألا نخجل حتى من مشاعرنا السلبية تجاه الأعزاء وأن نعبر عنها ونناقشها ونحللها تحليلا ذاتيا بغير خداع للنفس لكي نعينها على التخلص منها .. فهذا الاعتراف والمواجهة دليلان على النضج النفسي وطريقان يؤديان إلى الصحة النفسية وإلى تجنب مضاعفات هذه المشاعر السلبية .

ولابد أن تعترفي لنفسك يا سيدتي وأنت صادقة في مشاعرك كما تؤكد ذلك رسالتك بوضوح , بأنك كنت تغارين من شقيقتك الراحلة لكل الاعتبارات المعقدة التي أشرت إليها في تحليلي للعلاقة بين الأكبر المهموم بمسئولياته والأصغر الذي أعفته الأقدار من معظمها , بالإضافة إلى فارق الجمال الواضح بينكما الذي أهلها للحب والزواج والأمومة قبلك , لكن إنكارك لهذا الإحساس السلبي وخجلك منه قد دفعك إلى كبته تماما كما دفعك أيضا إلى إضاعة فرصة الارتباط التي اتيحت لك خلال عامك الجامعي الأخير لتؤكدي للآخرين أنك لا تغارين من زواجها قبلك .. كما كان من أسباب تزايده هذه المشاعر السلبية تجاه شقيقتك إحساسك بأن شقيقتك لديها كل شئ تحلمين به لنفسك ..وأنت لا شئ لديك منه .. ورغم أنها قد رحلت عن الحياة محكومة بأقدارها المأساوية هي الأخرى إلا أنك لم تتخلصي بعد من هذا الإحساس المؤلم تجاهها ومازلت حتى الآن تتصورين أنها : "تملك" كل شئ وأنت لا تملكين شيئا , وحين تتحدثين عن زوجك فإنك تشيرين إليه في رسالتك بعبارة "زوج شقيقتك" مع أن شقيقتك قد رحلت عن الحياة وزوجها قد أصبح زوجك أنت وليس زوجها وتتحدثين عن بيتك بإعتباره بيتها .. وعن "أولادك" الذين لا يعرفون لهم أما سواك باعتبارهم أولادها وحدها , مع أن ذكرى أمهم قد بهتت تماما في ذاكرتهم الطفولية ومع أن أصغرهم لم تتفتح عيناه سوى على وجهك أنت .

وبداية الطريق لتصحيح هذا الخطأ الفادح وللتخلص من إحساس الغيرة المزعج من شقيقتك حتى بعد رحيلها عن الحياة , هو أن تثقي أنت أولا في نفسك وفي جدارتك بأن يكون لك زوج وبيت وأبناء بالاصالة عن نفسك وليس بالنيابة عن شقيقتك وأن تواجهي الحقيقة وتعترفي لنفسك بأن هذا "الرجل" هو زوجك أنت الآن وليس زوج شقيقتك , وأن بيته هو بيتك أنت وحدك الآن وأن هؤلاء الأطفال الأبرياء هم أبناؤك كما هم أبناء شقيقتك الراحلة .. كما أن زوجك لابد أن يكون عادلا ومنصفا معك ويسلم لك بحقك في إنجاب طفل واحد , لا لكي يكون لك "شئ خاص" كما تقولين وإنما لأن هذا هو حقك العادل .. ولأن حرمانك منه جريمة إنسانية لا يصح أن يتحمل زوجك وزرها , فليس من حقه أن يحرمك من معايشة أحاسيس الحمل والانجاب والأمومة لمجرد حسابات شخصية تخصه هو وتبدو منطقية له وحده .

والحياة لا تستقيم إذا تعامل كل إنسان مع شريكة على أساس اعتباراته الشخصية وحدها وما يراه محققا لصالحه وحده دون مراعاة لاحتياجات الطرف الآخر الإنسانية واعتباراته أيضا , والحق أن زوجك يبدو لي قصير النظر إلى حد كبير في هذا الأمر , فحتى لو كان يتخوف من مسئولية طفل جديد يضاف إلى أبنائه الثلاثة , على طريقة الشاعر الطغرائي الذي رزق بطفل على كبر فقال :

هذا الصغير الذي وافى على كبر

أقر عيني ولكن زاد في فكري

فإنه ليس من الحكمة أن يقف في طريق رغبتك  الإنسانية ولا أن يجبرك على الاجهاض بهذه الوحشية والقسوة والأنانية .

ولو سلم لك بحق الإنجاب حتى ولو كان كارها اعترافا لك بحقك وتقديرا لاحتياجاتك الإنسانية , فلربما جاءت النتيجة على هواه في النهاية وسنك ومتاعب الانجاب السابقة قد تنبئان بذلك , لكن الاختلاف سيكون كبيرا في هذه الحالة .. وسيكون تسليمك أنت بالأمر الواقع مبرأ من الإحساس بالقهر والإرغام والحرمان من أحد حقوقك العادلة .

وفي تقديري أن مشاعرك تجاه "أطفالك" لن تتغير سواء أنجبت أم لم تنجبي بل أنني لا أكاد أصدق ما تعترفين به في رسالتك من قسوتك البالغة عليهم وكراهيتك لهم إلى هذا الحد المؤلم , لأن من ذاق مرارة اليتم مثلك لا تسمح له طبيعته مهما قست عليه الظروف بأن يذيق من وضعتهم الأقدار تحت رحمته ما تجرعه هو من مرارة وحرمان , لكنها في الغالب محاولة مفهومة من جانبك لإقناع زوجك بأن ما يحرص على ادخاره من مشاعرك لأولاده لم يحقق الغرض منه بحرمانك من حقك الإنساني في الإنجاب , ولهذا فإني أؤيد مطلبك بشدة في أن تنجبي طفلا وأؤكد لزوجك أن من صالحه وصالح أولاده وأسرته ألا يحرمك من هذا الحق , لكي تسعدي بحياتك معه ومعهم ولكي تصبحي قادرة على منح السعادة للآخرين , فليس من العدل حقا أن تظلي مضحية من أجل الجميع إلى ما لا نهاية , ومن حقك على الحياة وعلى الآخرين بكل تأكيد أن يعطوك كما أعطيتهم دائما , ويكفيك أنك من هؤلاء الأشخاص الذين نستطيع أن نقول عنهم دائما أن أفراحهم قليلة .. وأحزانهم كثيرة ولا تأتيهم أهداف الحياة غالبا إلا متأخرة عن موعدها كثيرا فلا يكادون يسعدون بها قليلا حتى تغلبهم على أمرهم مرارة الاحساس بأنها قد جاءت بعد فوات الأوان .. فلم يعودوا قادرين حتى على الاستمتاع بها .

ولهذا كله ولسابق عطائك النبيل لاخوتك وأسرتك و"أولادك" الصغار وللحياة بصفة عامة , فإن من حقك على زوجك وعلى الحياة أن يسعداك ويستجيبا لمطلبك العادل ولو كان ضد حسابات زوجك واعتباراته الضيقة والسلام .

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات