الطاووس الجميل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

 الطاووس الجميل .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

الطاووس الجميل .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

أشعر أنني في حاجة ماسة للكتابة إليك‏..‏ فأنا شاب عمري‏ 38‏ عاما تخرجت في كلية الطب وحصلت على درجتي الماجستير والدكتوراه ولدي شقة كبيرة وسيارة جميلة وناجح في عملي ويتيم الأبوين منذ فترة قصيرة ولي شقيق واحد وشقيقتان‏ ..‏ ولا أعاني في الحقيقة أي مشكلة‏,‏ لأن المشاكل كما أفهمها هي كل ما يراه الإنسان مشكلة حتى لو لم توجد هذه المشكلة أصلا‏.‏
ولكل الأسباب السابقة كنت محط أنظار بنات العائلة والجيران‏,‏ بل ومحط أنظار أمهاتهن وبعض آبائهن أيضا‏,‏ الذين يرون أنني جمعت من نعمة ربي الكثير الذي أحمد الله عليه كثيرا‏,‏ ولهذا فأنا في أنظارهم العريس المثالي‏,‏ وأصبحت كل واحدة منهن تتمنى أن تفوز بقلبي وتستأثر بحبي ولديها الأمل في أن أكون زوجا لها ذات يوم‏,‏ وقد بدأ هذا الأمل ببنت الجيران التي حاولت أن تلفت نظري إليها بكل الطرق الممكنة وبمباركة أهلها حتى لاحظ ذلك القاصي والداني‏,‏ ولم يخف هذا بالطبع على فطنتي وأنا من أقرأ نفوس الناس كما أعالج أجسادهم‏!.‏

وتعاملت معها بلطف وود فلم أصدم مشاعرها رفقا بها ولم أعدها بشيء‏,‏ وظلت ترفض من يتقدمون لخطبتها وأنا استحثها علي قبول أحدهم لكي أشعرها أني لا أفكر في الزواج‏!‏ حتى ضاقت ذرعا بي ذات يوم وصارحتني أنها تعتبرني عريسها المنتظر ‏,‏ لكني جمعت شتات نفسي وانفجرت ضاحكا كأنها قالت نكتة وحولت الموضوع إلى مزاح وحاولت بعد ذلك تجنبها كلما أمكن‏,‏ واستشعر أهلها ذلك وضغطوا عليها في النهاية للزواج من آخر‏,‏ وبعد ذلك تحولت مشاعر الجيران تجاهي إلى مشاعر شبه عدائية ووصفوني بالمتعالي والمتكبر إلى آخر مثل هذه الصفات ظنا منهم أني أراهم أقل مني‏,‏ وما حدث مع بنت الجيران تكرر بنفس التفاصيل تقريبا مع ابنة الخال مع زيادة الأمل وزيادة الضغوط من الخالات والأخوات والأخوال‏,‏ وكنت في كل ذلك الفطن المتغافل أعي كل ما يدور حولي‏,‏ لكني أتغافل وأتصامم وأتعامل مع ابنة الخال بنفس مشاعر الود المحايدة التي لا تصدم ولا تجرح ولا تعد بشيء‏.‏


ووصل الأمر إلى أن عرفت أن خالي على استعداد تام لتحمل كامل نفقات الزواج عني إذا أقدمت على هذه الخطوة المتعثرة‏,‏ وابتسمت لنفسي وبقيت خطوتي متعثرة‏,‏ وذات يوم تم إعلان خطبة ابنة خالي إلى من يستحقها وقطعت العلاقات بيننا تماما حتى أني لم أر خالي هذا منذ عشر سنوات‏,‏ كما وصفوني أيضا بالمغرور والمتكبر‏,‏ وفي هذه الأثناء أفصحت عن عدم رغبتي في الزواج بصفة عامة وتعللت بالطموح العلمي وكراهية القيود التي يسببها الزواج‏,‏ ولم يقتنع أحد بذلك‏,‏ وبعد الضغوط والإلحاح أسررت لأخي بسبب عدم رغبتي في الزواج فصمت ولم يعقب‏.‏

وبعد فترة أخرى فاجأتني ابنة عمتي التي تصغرني بخمسة عشر عاما والتي كانت تناديني حتى فترة قريبة بآبيه وتخرج مع أطفال العائلة في صحبتي إلى المتنزهات في الأعياد والمناسبات‏,‏ فاجأتني بأجندة أرسلتها لي مع خالتها وكلها أشعار حب رقيقة موجهة إلى شخصي الضعيف‏,‏ وهامت الفتاة بي هياما شديدا حتى أشفقت عليها‏,‏ وأدركت أن قلبها الصغير سيتحطم لا محالة فتعجلت سفري الذي كان مقررا للخارج‏,‏ وسافرت وسط مشاعر الدهشة والاستنكار‏,‏ وعندما عدت إلى مصر كانت هذه الفتاة قد تزوجت‏,‏ ووصفت من جديد بالمتعالي والمتكبر‏,‏ فحتى عمتي تصورت أني هربت من ابنتها لكونها ليست طبيبة أو مهندسة‏.‏
ويعلم الله يا سيدي أني أعلم قدر نفسي ولا أحمل في قلبي مثقال ذرة من كبر‏,‏ وأعلم أن أولى نطفة مذرة وآخري جيفة قذرة‏.‏

والحقيقة التي لا يعرفها أحد إلا شقيقي هي أنني أنا الذي لست كفئا لهن‏,‏ فالزواج ليس سيارة فارهة ولا شقة فاخرة ولا أرصدة من الأموال‏,‏ بل هو علاقة عميقة وميثاق غليظ وعروة وثقى تربط بين الرجل وزوجته وهو ما لا يتوفر لي‏,‏ فأنا كالطاووس الجميل‏,‏ ولكنه مر اللحم‏,‏ وأنا لست حزينا لذلك‏,‏ فالإنسان لا يأخذ كل شئ‏,‏ وأنا راض كل الرضا والحمد لله‏,‏ وحتى وقت قريب كنت أعتقد أنه لا مشكلة‏,‏ ولكن المجتمع يحاول هدم جدار الرضا وإبداله بجدران من السخط‏,‏ بمحاولة تدخله فيما لا يعنيه‏,‏ فهل أنا مطالب بتقديم تقرير عن سبب عدم زواجي لكل من يريد ذلك؟
على حد علمي أن الزواج يكون واجبا مستحبا لمن يستطيع أعباءه‏,‏ ويخشى الفتنة‏.‏ وقد يكون مكروها لمن يظن أنه يقصر في بعض أعبائه‏,‏ وقد يكون حراما لمن يتيقن الضرر منه‏,‏ وفي مثل حالتي فالزواج حرام أو مكروه على الأقل‏,‏ لأنه لا يحقق إعفاف الزوجة وهو مطلب أساسي في الزواج‏,‏ فهل أجازى على صدقي مع نفسي بوصفي بالكبر والغرور؟‏!‏ أم كان يجب علي مجاراة للنفاق الاجتماعي أن أتزوج من إحدى هؤلاء الفتيات وأضعها وأضع نفسي في موقف يهدر فيه الكثير من ماء الوجه؟‏!‏ وماذا سيكون الحال ساعتها؟ ألن يقولوا إنني مدلس وغشاش‏!!‏ وهل ترى فيما فعلت كبرا أو تعاليا على أحد؟‏!‏ أم أنه الرفق والصدق مع النفس والأمانة مع الآخرين؟‏!‏ ما أحوجنا إلى الفهم الإنساني لمشاعر الآخرين ودوافعهم قبل أن نحكم عليهم‏,‏ إذن لوفرنا على أنفسنا عناء كثيرا وهموما أكثر‏.

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

مشكلة من يتعاملون مع أنفسهم بمنطق الطاووس الجميل هي أنهم لاعتيادهم الزهو بأنفسهم يخشون دائما أن يتكشف ستار خيلائهم الذين يظهرون به أمام الآخرين عن واقع مختلف يعكس ضعفهم البشري وأوجه النقص التي يشكون منها في حياتهم‏..‏ فيتمسكون بإهاب الطاووس المتعالي ويفضلون أن يستنكر الناس تكبرهم وغرورهم على أن يمصمصوا شفاههم إشفاقا عليهم وأسفا لهم‏..‏ وأن يطلعوا على نقاط ضعفهم التي يخجلون منها وهو نموذج بشري موجود في الحياة‏,‏ يرفض دائما الاعتراف بالضعف البشري الذي لا يدعي العقلاء العصمة منه‏..‏ ويكلف نفسه بذلك غشا ما كان أغناه عنه‏.‏
ولو وضعنا النقاط فوق الحروف لقلت لك إنك قد توهمت ربما بسبب تجربة فاشلة منذ زمن طويل أنك لن تكون قادرا أبدا على الوفاء بالواجبات الزوجية‏..‏ وانتهيت إلى الاقتناع التام بأنك لن تستطيع الزواج وإرضاء أية امرأة ترتبط بها من الناحية الحسية‏,‏ فاعتزمت ألا تتزوج أبدا وأفرغت طاقتك في التفوق الدراسي والعمل‏,‏ وحققت في ذلك نجاحا مشهودا‏,‏ لكنك شاب مأمول بالنسبة لمن حولك من الفتيات‏,‏ وظروفك المادية والاجتماعية مغرية بذلك‏,‏ لهذا فقد اقتربت منك ابنة الجيران وارتبطت بك بتشجيع من أهلها الذين رأوا فيك زوجا ملائما لها‏..‏ ولم يغب ذلك عن فطنتك وأنت الذي كما تقول تقرأ نفوس الناس كما تعالج أجسادهم‏!‏

لكنك بدلا من أن تغلق كل الطرق أمامها وتشعرها بحزم وأدب في نفس الوقت  باستحالة الأمل فيك‏,‏ كما يقضي بذلك منطق القرار الخاطئ الذي اتخذته بعدم الزواج‏..‏ رضيت عن اقترابها منك ورغبتها فيك وتعاملت معها بنص كلماتك بلطف ومودة لكيلا تصدم مشاعرها ولربما شعرت بالزهو وهي ترفض من يتقدمون إليها من أجلك حتى ولو كنت قد حثثتها شكليا كما تقول على قبول أحدهم لتشعرها بأنك لا تفكر في الزواج منها‏..‏ إلى أن تكرر رفضها للخطاب دون أن تبدو أية بادرة على قرب اتخاذك الخطوة المأمولة من جانبك فاستجابت لضغط الأهل وقبلت بمن تقدم إليها وتحولت مشاعرها ومشاعر أهلها تجاهك إلى مشاعر شبه عدائية واتهمك الأهل بالتعالي والتكبر والغرور‏!‏ وتكررت القصة بنفس تفاصيلها مع ابنة الخال ثم ابنة العمة ولست تستحق اللوم لرفضك الارتباط بهذه الفتاة أو غيرها لأي اعتبارات رأيتها‏..‏ وإنما تلام فقط وهو الأهم على استجابتك لفتاة تعرف بفطنتك مقصدها منك‏..‏ وعلي استمتاعك بتوددها إليك وسعيك الخفي لإطالة حبال أملها فيك إلى أقصى مدى وأنت عاقد العزم من البداية على عدم الزواج منها‏.‏
فأين الصدق مع النفس في ذلك يا صديقي‏..‏ وأين الأمانة؟

 

لقد فضلت أن يكتمل مظهر الطاووس الجميل بعلاقة عاطفية مع فتاة تحلم بالزواج منك وأنت تعرف عن نفسك جيدا أنك لن تتزوجها‏.‏ لكنك تحتاج إليها لاستكمال الصورة الخلابة لشاب مرموق وناجح في حياته العملية ومرغوب من الفتيات‏!‏
والمؤكد هو أنك لم تكن مطالبا بكشف سترك أمام كل من رغبت في الزواج منك‏,‏ وإنما كنت مطالبا فقط بألا تمنح الأمل الكاذب فيك لأي فتاة لمجرد أن تستكمل أنت الصورة الناقصة‏..‏ وتستمتع بإحساس الرغبة فيك والأمل في الظفر بك لأطول وقت ممكن‏.‏ وأيا كان حجم الإقبال عليك فإن المرء لا يعجز أبدا عن إشعار الآخرين بحزم بعدم استجابته لمشاعرهم أو مخططاتهم للارتباط به بغير أن يجرح مشاعرهم أو يضطر لإفشاء ما يجب أن يحتفظ به لنفسه من أسراره الشخصية‏,‏ إذ يكفي أن يعلن بحسم لمن لا تخفي عليه رغبتها فيه أنه غير مشغول بأمر الزواج الآن‏,‏ ولا يفكر فيه البتة لكي تنصرف عنه إلى غيره‏..‏ وليس لأحد أن يلومه أو يعتب عليه إن هو فعل ذلك‏,‏ إنما يلام بكل تأكيد على استجابته لمن تأمل فيه وهو عازف عزوفا مؤكدا عن الارتباط المشروع بها في المستقبل‏.‏

والحق أنني أتصور أن ما يحول بينك وبين الزواج ليس إعاقة جسدية‏.‏
لأنك لابد تعرف وأنت الطبيب الحاصل على الماجستير والدكتوراه‏,‏ أن كل حالات العجز تعالج الآن بنجاح كبير وبوسائل شتى‏,‏ ابتداء من الحقن الموضعي إلى العلاج بالعقاقير إلى التدخل الجراحي‏..‏ ولهذا فإن تصوري هو أن ما يحول بينك وبين الزواج هو إعاقة نفسية قابلة للعلاج أيضا‏,‏ ولكن بشرط التماس أسبابه لدى الأطباء المتخصصين‏.‏
ذلك أن جوهر الزواج الحقيقي كما يقول لنا العالم هـ‏.‏ ج‏.‏ لوك هو المعية أي قدرة الإنسان واستعداده النفسي لأن يحيا مع إنسان آخر وليس منفردا بذاته أو متوحدا مع نفسه‏,‏ كما أنه أيضا يتمثل في استعداده لأن يكون جزءا من وجدان مشترك مع شريك الحياة وليس وجدانا مستقلا بذاته‏,‏ بحيث تختفي الأنا لديه ويحل محلها الـ نحن‏!‏

وكل الذين حكموا على أنفسهم بالوحدة حتى نهاية العمر‏..‏ وماتوا كالنسور الوحيدة فوق قمم الوحشة الباردة‏..‏ كان عجزهم عن الزواج أو فشلهم فيه نفسيا وراجعا إلى توحدهم مع أنفسهم وعدم قدرتهم عن ممارسة إحساس المعية والاندماج في وجدان مشترك مع الغير‏.‏
وبعض الذين فشلوا في هذا الاندماج طوال سنوات شبابهم ورجولتهم‏..‏ وكهولتهم بحثوا عن الزواج بعد فوات الأوان في شيخوختهم وقدموا تنازلات موجعة ليفوزوا بالصحبة التي رفضوها‏,‏ وتعالوا على الإحساس بالاحتياج الإنساني إليها وهم في عنفوانهم . 

فأنج بنفسك من هذا المصير المحزن يا صديقي‏..‏ وتخلص قبل فوات الأوان من توحدك مع نفسك‏..‏ وتقديرك المغالي فيه لذاتك‏..‏ واطلب العلاج العضوي والنفسي المتاح لك بيسر لكي تستمتع بدفء الحياة العائلية والأبناء والحب الحقيقي‏..‏ والتواصل السليم مع الحياة‏,‏ فليس يقدر على الوحدة إلا الآلهة كما يقول لنا الفيلسوف الألماني نيتشه‏!‏ ‏..‏والسلام‏.‏

رابط رسالة الطاووس الشجاع تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات