التفكير الطويل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا سيدة عمري 36 سنة، طلقت منذ
أربع سنوات من زوجي ووالد أولادي الثلاثة بعد عدة مشاحنات ومشاكل لا حصر لها وبعد
زواج دام عشر سنوات تحملت خلالها غيرته الشديدة التي تصل إلى حد الشك، وتحملت عدم قدرته
على إيجاد شقة لنا كل هذه السنوات الطويلة وتنقلت خلالها بين الشقق المفروشة ، كما
تحملت أيضا عصبيته وتهديده الدائم لي بالطلاق عند كل خلاف ، وقد تحملت كل ذلك ولم
أشك منه أو أحاسبه عليه باعترافه هو نفسه ، لكن ما لم أتحمله هو إحساسه المركب
بالتفاوت في المستوى الاجتماعي بيني وبينه وانعكاس ذلك على تصرفاته معي، وقد كان
ما دفعني للتجاوز عن هذا التفاوت بيننا هو أنه أقنعني أن منهاجه في الحياة هو كتاب
الله وسنة رسوله ، واتضح لي بعد أن عاشرته أنه يتخير من هذا المنهاج ما هو في
صالحه ، ومن القانون ما هو في صالحه ، ومن العرف ما هو في صالحه ويعيش معي بهذا
المنهاج وكنت قد أحببته فتغاضيت عن كل ذلك .. لكن إحساسه بالتفاوت الاجتماعي بيننا جعله لا يفلت
فرصة لكي يهينني فيها ويهين عائلتي بل حتى أبي الراحل الذي لم
يره إلا وينتهزها لكي يقنعني ويقنع نفسه بأنه إذا كان أهلي أفضل منه اجتماعيا فهو
أفضل منهم في الدين والخلق .
وبعد سبع
سنوات طويلة من تحمل هذه الإهانات صابرة وصامتة وبلا رد من جانبی بدأت أرد عليه
الإهانة بمثلها، خاصة أن عائلته لا تزيد في ناحية الدين والخلق عن عائلتي فكان
يحاسبني على ردي عليه ولا يحاسب نفسه على بدئه لى بالإهانة بدعوى أن الزوجة ينبغي
ألا ترد على زوجها .
وأعترف لك أني
وجهت إليه كلاما لم أتصور يوما ما في حياتي أني سأوجهه إليه أو لأي إنسان آخر ،
لكن بنفس الصدق الذي أقول لك به ذلك، أقول لك أيضا أني لم أبدأه مرة واحدة بالهجوم
وأن كل ذلك قد جاء ردا على كلامه هو وهكذا انتهى الأمر بيني وبينه بالطلاق منذ
أربع سنوات، وعدت إلى بيت أسرتي بأطفالي الثلاثة .
وقد تعجب وربما
تتهمني بالعته إذا قلت لك أني أمضيت هذه السنوات الأربع وأنا أفكر بصفة شبه دائمة
في أمر واحد هو : من منا المخطىء .. ومن منا المصيب فيما حدث ؟ وكلما أرهقني
التفكير في ذلك وطردت هذا السؤال المرهق من ذهني لا يلبث أن يعود ليلح علي بعد
بضعة أيام ويعكر صفو
حیاتی
ويؤرقني ويفقدني القدرة على التعامل مع أطفالي وهم الضحية الحقيقية لما حدث بيننا
، أما سبب تشتتي وحيرتي الشديدة في هذا الأمر فهو أن زوجي السابق يصر على أني كنت
سليطة اللسان وغير عاقلة حتى أصابني تکرار هذا الكلام بالحيرة الشديدة .
والآن يا سيدي
فهو يعرض الصلح ولكن بشرط أن أذهب أنا إليه
معتذرة عن
لساني السليط وبعدها يعفو عني ويردني إلى عصمته .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
رأیی يا سيدتي الذي أسأل عنه أمام الله قبل أن أسال عنه أمام البشر هو أن تراشق الزوجين بالسباب الجارح الذي يمس الأهل والحرمات خطيئة يتحمل الاثنان مسئوليتها بنفس القدر بغض النظر عمن كان الباديء منهما بالتجريح ومن كان المجيب ، لأنه إذا أخطأ أحدهما لابد أن يترفع الآخر عن الرد عليه بنفسه أسلوبه ويستطيع أن يعاقبه على خطئه بأكثر من طريقة ليس من بينها أبدا مبادلته سباب السفهاء .. هذا هو رأي تماما كما أن رأي أن إهانة الزوج لزوجته وأسرتها وطعنه عليها في دينها مهما كانت الأسباب والدوافع لیس أبدا من حسن المعاشرة أو حسن الخلق أو من الدين وأن أفضل ما تفعله الزوجة في مثل هذه الحالة هو أن تحذره من العودة لهذا الإثم وتنبه بحزم إلى خطورته ومساسه بها وبكرامتها وإلى تعارضه مع القيم الدينية والخلفية ومع "المنهاج" الذي أمرنا به الله ورسوله في معاملة الأهل، فإن عاد لفعلته غاضبته لفترة قصيرة .. فإن تمادى فيما يفعل شکته لحكم عدل من أهله هو وليس من أهلها حتى لا تجعل من أهلها طرفا في نزاع يمس كرامتهم ومشاعرهم وقد تخرجهم عن حيادهم المطلوب في الحكم فإن لم تفلح كل هذه الوسائل معه وأصر على خطئه وخطيئته جاز لها أن تختار بين كرامتها وبين مصلحة أبنائها، فإذا اختارت مصلحة أبنائها وواصلت كفاحها معه لتغييره كانت أما بارة بأبنائها ومضحية من أجلهم بشرط أن تنزه نفسها عن التراشق معه بالسباب حرصا على معنويات الأطفال وأخلاقياتهم وأن تكتفي بمجانبته إذا أخطأ وتفادي أي احتكاك معه يتيح فرصة تكرار الإهانة ، أما إذا اختارت كرامتها وحدها وفضلتها على كل الاعتبارات فلها أن تفعل لكنها لا تكون في مثل هذه الحالة أما مضحية بالقدر الكافي من أجل أبنائها.
ولكل إنسان أن يختار ما يراه
ملائما له بلا لوم عليه فيما اختار لكن فضل الأم المضحية أكبر بكل تأكيد من غير
المضحية ، وفضل الزوج الذي يحفظ على زوجته كرامتها و يعفيها من جراحات اللسان أكبر
ممن يؤذي زوجته في أهلها ونفسها ، وإساءته لزوجته عليه هو قبل أن تكون عليها لأنه
إنما ينال من نفسه وعرضه قبل أن ينال من أي إنسان آخر ، وهي أكبر دليل على الغباء
البشري لأنه ينال بها ممن اختارها أما لأبنائه فإن كانت وأهلها كما قال فهو سفيه
لأنه اختارها لهم بملء إرادته ويتمسك بعشرتها ويواصل الحياة معها وإن كانت غير ذلك
فهو ظالم يرمي زوجته وأهلها بالباطل وجزاء من يرمي الآخرين بالباطل معروف .
والعبارة التي رددت بها عليه
وتسألينني عنها يا سيدتي للحق أقسى من العبارة السخيفة التي بادرك هو بها ولم يكن
هناك أي مبرر من الأصل لو كان حقا يتبع منهاج الله ورسوله لكن .. کلاكما مخطىء في
حق صاحبه .. البادىء والمجيب على السواء وإذا كان الباديء أظلم فالمجيب إذا كان
زوجة أو زوجا أو ذا رحم ظالم أيضا لأنه كان يستطيع أن ينزه نفسه عن الرد على صاحبه
وأن يشعره بخطئه بغير أن ينجرف إلى استخدام أسلوبه الشائن في الحديث والتجريح،
وسندي في ذلك هو رأي الإمام الشافعي الذي رأى رجلا يسفه على رجل من أهل العلم
فالتفت لأصحابه وقال : نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا کما تنزهون ألسنتكم عن النطق
به فالمستمع شريك القائل وأن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه ويحرص على أن
يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه عليه لشقى بها قائلها !
وعلى هذا
الأساس فإن البدء بالإهانة خطأ فاحش وردها بنفس الطريقة خطأ لا يقل فحشا وخيركما
من يبدأ بالاعتذار لصاحبه عن اقتناع صادق بأن ما وجهه إليه من إهانات ما كان له أن
يجرحه به .
وسعادة ثلاثة
أطفال وصلاح أمرهم ونشأتهم بين أبوين يرعيان حدود الله في حياتهما ، أمانة كبرى
سوف تسألان عنها معا أمام الله سبحانه وتعالى وأمام هؤلاء الأبناء أنفسهم حين
يشبون عن الطوق ويسألون كلا منکما ما هذه المبالغة في الإحساس بالكرامة وما هذا
العناد الغبي الذي قضى علينا بالتمزق بينكما طوال العمر ولماذا لم يتنازل أحدكما
عن بعض حقه ويحسن عشرة صاحبه لنعيش معكما حياة طبيعية وأنتما لم تستشيرانا في
اختيار أبوينا قبل إنجابنا ؟
وسيكون الحساب عسيرا بكل تأكيد يا سيدتي فسارعا معا إلى تفاديه قبل أن يجيء وقت الحساب ولو أتيح لي أن ألتقي بزوجك لنصحته بإخلاص بأن يذهب هو إليك في بيتك فيكون ذهابه إليك اعتذارا ضمنيا عن حياته الماضية معك .. ثم تبدئينه بالاعتذار فيرد على اعتذارك باعتذار مماثل ويبدأ معك صفحة جديدة بلا إهانات ولا تجريح وخاصة أن كلا منكما فيما أحس يحب الآخر لكنه لا يحسن التعبير له عما يكنه له من حب وبعد ذلك أليس عجيبا أن يكون الإنسان قادرا على أن يحسن عشرة صديق يمضي معه رحلة العمر الطويل بغير أن يتبادلا إهانة واحدة لأن كلا منهما يتجاوز عن انفلاتات أعصاب الآخر إذا انفلتت ثم يأبي ويستكبر في نفس الوقت أن يتجاوز عن أتفه انفلات إذا جاء من جانب الزوجة أو الزوج ؟ .. أليس هذا دليلا آخر على قمة الغباء البشري ! والزوج والزوجة أحق بمثل هذا التسامح ومثل هذا التعالي على الصغائر ؟ إن مقاساة الأهل والولد أي تحملهم والسعي في إصلاحهم والصبر على هفواتهم بمنزلة الجهاد في سبيل الله كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي .
فلماذا لا تجاهدان معا لإصلاح كل منكما الآخر والصبر عليه وإقناعه بالحسنى بعدم البدء بالإهانة أو الرد عليها وحق كل منکما - مقدما - على أنا؟
رابط رسالة التفكير السعيد من كاتبة الرسالة بعد عدة أسابيع
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر