التفكير السعيد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا السيدة التي
نشرت رسالتها منذ أسابيع تحت عنوان "التفكير الطويل" ، وقد كتبت إليك أسألك عن مدى خطئي في
ردي على إهانة زوجي بإهانة مماثلة ، ورويت لك أنني تحملت في البداية إهاناته لي
ولأسرتی ثم بدأت أرد عليه بعنف شديد ، وانتهى أمرنا إلى الطلاق وظللت عامين طويلين
وأنا أفكر هل كنت المخطئة والمسئولة عن فشل الزواج وتشريد أطفالنا الثلاثة أم هو
ولم أتوصل إلى قرار مريح ثم أبدى زوجي السابق استعداده للعودة بشرط أن أعتذر له
أولا .. فطلبت رأيك ورجوتك ألا تتحامل علي لأعترف بخطئي وأعتذر لكي أعود لزوجي
لمجرد الحرص على سعادة الأبناء لأن الزواج الذي يبنى على الخطأ في رأيي لن يكون
مصيره إلا الانهيار مرة أخرى.
وقد رددت علي ونصحت مطلقي بأن يسعى هو إلي فيكون سعيه إلي اعتذارا ضمنيا فأبادره أنا بالاعتذار الصريح بعد أن حکمت بأن ردي على إهانته الأخيرة قبل الطلاق كان أقسى مما قاله لي ، ويبدو یا سیدي أن كلماتك كان لها فعل السحر معه، فقد فوجئت به بعد نشر رسالتي بأيام في مقر عملي ، ورأيته يتجه في جدية ناحيتي ثم يطلب مقابلتي بعد انتهاء العمل ووافقت وأنا أتلهف على معرفة ما يریده مني ، ومرت ساعات العمل بطيئة ثم خرجت إليه فبادرني بالسؤال في جدية تامة : هل أنت كاتبة تلك الرسالة ؟ فلم أنكر ذلك رغم تخوفي من أن يكون سؤاله عنها بداية لمشاجرة جديدة .
ففوجئت به يبتسم الابتسامة التي لم أرها منذ طلاقنا ثم يقول لي بارتياح : إذن فأنت مازلت تحبينني ، وبدأ عتاب طويل بيننا في كل شيء حتى فيما اتهمته به في رسالتي إليك وأخرج كل منا ما في صدره تجاه الآخر ، وروى لي أسباب تأخره في التفكير في إعادة جمع شملنا من جديد ، فقال لي أنه بعد طلاقنا بعام توفي والده وورث عنه بضعة آلاف من الجنيهات فاستطاع الحصول على شقة صغيرة ثم تعرف على فتاة وخطبها ، وأدرك كما قال منذ هذا الوقت أصالة معدني وجوهري وعرف كيف كنت أصبر على طباعه وثوراته إلى أن فاض بي الكيل .. بل وكيف كنت أصبر حتى على مضايقات والدته لي أثناء إقامتنا لديها في فترات الانتقال من شقة مفروشة لأخرى ، فلقد اكتشف أنه قد خطب فتاة متغطرسة أساءت الأدب معه ومع أمه ورفضت السكن في شقته الجديدة الضيقة، وتمردت على كل ما قدمه لها والذي لم يستطع أن يقدم إلي بعضه لضيق ذات يده حين كنا معا .. ففسخ خطبتها في النهاية غير نادم على ما يكلفه ذلك ، وقرر بعدها أن يعود لمن كان يعتبرها سليطة اللسان وطلب من صديقتي وهي زميلته في العمل التي تعرفت عليه أول مرة في حفل زفافها وكانت تقوم بدور حمامة السلام بيننا أن أعتذر له أنا أولا وإلا فلن يعود، وفسر إلي ذلك بأنه كان متخوفا من رد فعلي تجاهه فلما قرأ رسالتي وقرأ اعترافي فيها بحبي له قرر أن يقدم على الخطوة التي كان يتهيبها وجاءني!
وسمعت اعترافه
واحترمت صراحته وشعرت بأن إعزازي له قادر على أن يجعلني أصفح عنه ، واعترف كل منا
للآخر بأنه يتوق إلى الأيام الحلوة القديمة التي كانت بيننا .. والتقينا بعد ذلك
عدة مرات ثم أخبرت أمي برغبته في العودة فتخوفت من نواياه في البداية .. ثم جاء أعمامي
الثلاثة وأخبروني بأن مطلقي اتصل بأكبرهم طالبا عودة المياه إلى مجاريها وسألوني
عن رأيي فلذت بالصمت وفهم أعمامي أنني موافقة فثاروا جميعا وانهالوا علي بالاتهامات
والتجريح لتفكيري في العودة لمن جرح كرامتي وأهانني .. الخ .
فتلقيت كل ذلك صامتة ثم قلت لهم إن جرحي بإهانات
زوجي لي لا يحس به أحد أكثر مني لكن قبل أن أكتفي بالثورة لكرامتی ينبغي أن أتذكر
أيضا جروحه التي تسببت له فيها بإهاناتي أنا أيضا له .. كما أن أطفالنا وعشرة
السنين بيننا تجعل قبولي الرجوع إليه حقا مشروعا لي .
ولم يضايقني
هجوم أعمامي لأني شعرت منه بأهميتي عندهم وبحرصهم علي ، ولقد اعتدت طوال حياتي
خوفهم علي وعلى أمي وأخي بعد وفاة أبي رحمة الله عليه ، وانتهينا من كل ذلك إلى
الاتفاق على أن يقدم لي مطلقی مهرا كمهر أي عروس أخرى وشبكة جديدة تليق بی، وهدأت
النفوس بعد أن لمس أعمامي صدق ندمه واعتذاره الذي أرضى كبرياء الجميع ، وبعد أن
وعدته أنا أيضا أن أتلافى أخطائی السابقة معه في المستقبل .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
ليست كلماتي هي التي كان لها فعل السحر مع زوجك
وإنما كلماتك أنت في رسالتك ، وخاصة تلك العبارة التي حرصت على أن أحتفظ لك بها في
الرسالة لإدراکي لتأثيرها الطيب على الطرف الآخر ، وهي العبارة التي تقولين فيها
على ما أذكر ، أعترف أنني مازلت أحبه لكنني الخ .. فاعترافك بأنك مازلت تحملين له
الحب رغم ما جرى بینکما ورغم الانفصال الذي قارب السنوات الأربع كان هو الدعوة
السحرية له لكي يعيد التفكير في الأمر كله من منطلق جديد، فالرجل يسعده دائما أن يحس بأنه
محبوب من شريكة حياته وأم أطفاله رغم هناته معها أو تجاوزاته ، ويشقيه دائما أن
يستشعر مشاعر البغض والكراهية من جانبها أو حتى المشاعر الحيادية التي لا تحمل له
کرها ولا حبا ، لهذا فقد أسرته أنت أولا بهذه الكلمات ومهدت لك الطريق عنده ،
وساعدته على إدراك قيمة ما فقد بانفصاله عنك، تلك التجربة الفاشلة التي خاضها
وأتاحت له فرصة المقارنة بين من لم تبد حرصا عليه ولا احتمالا له ولا اقتناعا به ،
وبين من قبلت به ورضیت بظروفه وتحملت تجاوزاته ولم تحمل له بالرغم من ذلك سوى الحب
.
ونحن لا نعرف الأشياء أحيانا إلا بأضدادها والمرء قد يحتاج في بعض الأحيان إلى الابتعاد بعض الشيء عن اللوحة الجميلة لكي يستوعب مزاياها ويرى كل أبعادها وخصائصها التي يحجبها عنه القرب الشديد والاعتياد وفي ذلك يقول الشاعر العربي :
ما كنت أعلم ما مقدار وصلكم
حتى هجرت وبعض الهجر تأديب.
ولا شك أن كل
ذلك ينطبق عليك أنت أيضا يا سيدتي کما ينطبق عليه ، فبعض الهجر تأدیب ، فعلا
وتهذیب وترويض لكلا الطرفين على أن يكون أكثر مرونة مع شريك حياته وأكثر فهما
لحقائق الحياة بحيث يستطيع أن يميز بحكمة بين ما يستحق منها التوقف عنده وبين ما
لا يستحق أن يتوقف أمامه دقيقة واحدة من مناوشات الحياة اليومية وفي خلفية اللوحة
أو في بؤرتها كان هناك وطوال الوقت أنبل الأسباب وأشرفها وأكثرها مدعاة لأن يتعالى
المرء فوق الجراح والصغائر وهم الأطفال الثلاثة الذين لا تعرفين كيف تصفين فرحتهم
الطاغية بعودة أبيهم إليهم ورؤيتك وأنت تتضاحكين معه ، والقلوب البريئة تعي بفطرتها ما لا نتصور
نحن أحيانا أن تسمح لها أعمارها الصغيرة بإدراكه وهي لا تستشعر السعادة الحقيقية
ولا الأمان إلا بين أبوين متعاطفين متراحمين ، ولا تشقى بشيء أكثر من شقائها
بوقوعها بين أبوين متنابذین متصارعين متباغضين .
فالحمد لله الذي هداكي إلى إنقاذهم من هذا المصير البائس فلا شيء في الحياة يا سيدتي يعدل حياة هادئة وأسرة آمنة يتطلع صغارها إلى الغد بقلب سعيد ، وشكرا لك على رسالتك ولزوجك على نبل غايته منها وعلى شجاعة اعترافه بخطئه ورجوعه عنه، فشجاع النفس حقا هو من لا يستحي من الاعتراف بخطئة إذا أخطأ .. ومن لا يتوانی عن الاعتذار لمن أخطأ في حقه .. وضعیف النفس حقا هو من يكابر ويراوغ ويعاند عناد الحمير رافضا الاعتراف بالحقيقة التي يراها الجميع فيفقد حب الآخرين بعد أن يفقد احترامهم ومع تمنياتي لكما بحياة آمنة سعيدة دائما بإذن الله .
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة"نوفمبر عام 1992
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر