العار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 العار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

العار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

إن الإنسان يبنى ثقة الآخرين به خلال سنوات طويلة ومن خلال اختبارات ومواقف عديدة .. لكنه للأسف يمكن أن يفقدها في لحظة واحدة بفعل طائش .. أو تصرف أحمق، فإذا أراد أن يستعيدها من جديد فانه يحتاج إلى سنوات أخرى من العناد والصبر لكي يعيد بناءها من جديد.
عبد الوهاب مطاوع


أنا فتاة في الرابعة والعشرين من عمري، حاصلة على مؤهل جامعي وكبرى أخوتي البنات، وأبي يا سيدي رجل شديد الصرامة.. ولم يكن يريد أن تكون له ذرية من البنات فأعطاه الله صحبة من البنات هن أنا وشقيقاتي، لذلك فقد كان شديد القسوة في معاملته لنا.. فلم يكن يجالسنا أو يتحدث إلينا أو يستمع إلى مشاكلنا، فبث في نفوسنا منذ طفولتنا الخوف والهلع منه، حتى إنني كنت أخاف الجلوس في المكان الذي يجلس فيه.. ولم اطلب منه أبدا أنا وأخواتي أي طلب مباشرة، بل كنا نتقدم إليه بطلباتنا عن طريق وسيط (دولي) هو والدتنا.

 

وهكذا عشنا طفولتنا وصبانا.. فنشأت ارتعب منه، وحريتنا جميعا مقيدة حتى داخل البيت، واستمرت الحال هكذا إلى أن اجتزت امتحان الثانوية العامة ونجحت بمجموع أهلني لدخول كلية نظرية وهناك رأيته .. كان طالبا في نفس القسم يتقدمني بسنة جامعية ويكبرني بسنة واحدة في العمر.. وتعارفنا عن طريق صديقة.. واعترف بحبه لي واعترفت له على الفور وباندفاع غريب بحبي له من أعماق قلبي، لأني وجدت فيه ما افتقده في أسرتي من روح الحنان والترابط، وخلال وقت قصير أصبح بالنسبة لي الهواء الذي أتنفسه، ووعدني بان يتقدم لخطبتي فورا انتهاء دراسته الجامعية، فنسيت تقاليد مجتمعنا والمبادئ التي نشأت عليها.. وتناسيت خوفي أو رعبي من أبي، وأصبحت التقي به أمام أعين الناس، وعلم الجميع بعلاقتنا فلم اهتم لثقتي فيه وفى صدق وعده لي، ورسب هو عاما فتساوينا في السنة الدراسية، وأصبح معي في دفعتي يجلس بجواري في كل محاضرة، ونذهب إلى الكلية معا ونعود معا، ثم جاء عام أخر لنا في الكلية رسب هو فيه ونجحت أنا.. ولا تتصور ماذا حدث لي لحظة سماعي بالنتيجة، فلقد انهرت وقررت عدم دخول مادة التخلف من السنة السابقة، ونفذت ما قررته ولم ادخل امتحان مادة التخلف (سرا) بالطبع لكيلا انتقل إلى السنة التالية ونبتعد عن بعضنا، وفعلا أعدت سنة طويلة عريضة من اجل مادة واحدة.. أو من أجله هو على وجه التحديد.. لكيلا ننفصل ولكيلا يشعر هو بغضاضة لأني اسبقه في الدراسة.

 

ومر العام ونجحنا معا، وانتهت سنوات الدراسة بالجامعة لكن علاقتنا لم تنته، وعلم والدي بها عن طريق أحد الأصدقاء، ولم يصدق إلى أن رآنا في إحدى المرات نمشي معا فكان يوم الفزع الأكبر، كما يقولون، ولا أريد أن اصف لك ما جرى لي من أهوال وضرب وسب وحبس مطلق في البيت وحرمان من المصروف، وظللت سجينة البيت، حتى جاء زميلي إلى أبى ليخطبني منه، لكنه جاء وحده لمرض أمه وطلب من أبي مهلة أسبوعين إلى أن تشفى لكي تحضر معه لخطبتي.. ولأول مرة منذ عرفته ساورني الشك قليلا في ذلك .. لكني تأكدت فعلا من مرض أمه.. وانتظرنا شفاءها لنبدأ الإجراءات.. وخفت قبضة أبي عني قليلا خلال هذه المهلة فسمح لي بالخروج لزيارة صديقاتي.

 

وذهبت لازور إحدى صديقاتي التي كانت علاقتي بها مستمرة خلال السنوات الخمس الأخيرة.. وجلسنا في غرفتها تسألني عن أخباري .. وأروي لها تفاصيل أيام السجن في البيت، وما نالني من ضرب وإيذاء وإهانات.. وكيف جاء خطيبي ليخطبني وماذا قال لأبي وماذا قال له أبي .. وهي تسمع لي بشغف لأنها عاصرت القصة من بدايتها وأنا احكي لها باهتمام .. ثم تركتني في الحجرة لتحضر لي شيئاً اشربه، ووجدت نفسي وحيدة في انتظارها فرأيت في لحظة مشئومة علبة مصوغاتها موضوعة أمامي على المكتب في مكانها المعتاد، الذي تعودت أن أراها فيه دون أن ألقى إليها بالا .. (ودون أن اشعر بشيء) وجدت نفسي أقدم وافتح العلبة واخرج منها إحدى مصوغاتها وأخفيها في حقيبة يدي، وعادت صديقتي وقدمت لي المشروب فشربته وأكملت جلستي معها دون أن تشعر بشيء وودعتها وانصرفت.

 

وعدت إلى بيتي وأمضيت وقتي أتفرج على التليفزيون وأتحدث مع شقيقاتي وأمي وأنا سعيدة .. وصباح اليوم التالي كنا مشغولين في أعمال البيت حين سمعنا طرقات شديدة على باب الشقة فانزعجنا، وأسرعت إحدى شقيقاتي تفتح الباب فإذا بعشرة من الرجال الأشداء يملأون صالة البيت ورئيسهم ينطق بصوت غليظ بالكلمة البغيضة التي كنت أتمنى أن تبلعني الأرض قبل أن اسمعها في بيتنا: (بوليس)!

وانهرت وانهارت أمي وشقيقاتي.. وكان يوما اسود لن أنساه طوال حياتي، وعرفت أن صديقتي اكتشفت سرقة قطعة المصوغات بعد انصرافي، فأبلغت الشرطة واتهمتني لأنه لم يزورها غيري، وانهرت أمام وكيل النيابة واعترفت بفعلتي هذه وأنا في غير وعيي .. وانهار أبي لأن هذه هي أول مرة نتعرض فيها لموقف كهذا، وراعى وكيل النيابة ظروفي ونصح أبي بعلاجي نفسيا، واصطحبني أبي إلى احد الأطباء النفسيين ورويت له ما حدث، فقال لي أني مريضة بمرض السرقة غير الإرادية، وأحمد الله على أن أبي قد لحقني في بوادرها وبالعلاج تنتهي أن شاء الله.

وطبعا أخفيت هذه المصيبة كلها عن خطيبي لكنه علم بها.. بعد أن عرف واجهني وقال لي أنه يعلم جيدا أنني لست لصة، وأنه مازال يحبني ويريدني زوجة له.



ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

الحق أن رسالتك فيها الكثير مما ينبغي أن تتعلمه الفتيات، والأمهات والآباء أيضا!

فلقد لفت نظري بشدة في رسالتك وصفك لجو الرعب الذي كنت تعيشين فيه مع إخوتك خلال طفولتك وصباك، وغياب العلاقة السوية بين الأب وبينك، وافتقادك للترابط الأسري، لذلك لم (أدهش) كثيرا لاندفاعك في علاقتك بزميلك حين تخففت من آثار الرعب وانتقلت إلى الجامعة.. لأن الكبت الشديد يولد الانفجار، ولأن المغالاة في الشدة بلا حكمة وبلا محاولة للفهم أو التعويض النفسي من جانب الأب والأم، لابد أن تخلق في النهاية الشعور بافتقاد الأمان الذي يقود الأبناء إلى محاولة التماسه لدى الآخرين.

 

كما لم أتعجب كثيرا أيضا لتعمدك الرسوب لمدة سنة دراسية كاملة لكيلا تنفصلي عن فتاك، وحتى لا يشعر بغضاضة لتخلفه عنك! لأن هذا التصرف بالرغم من إنه في أحد وجوهه تعبير غير عاقل عن تمسك بفتاك، فإنه من وجه أخر يعكس رغبة كامنة داخلك في تحدي إرادة أبيك الذي يريد لك ككل أب أن تنتهي من دراستك الجامعية اليوم قبل غدا!

هذه هي بذرة الخلل الأساسي التي قادتك فيما بعد إلى الموقف العصيب الذي تواجهينه الآن.

إنني اعترف بأنني لست من المتحمسين للتفسير (الفرويدى) لحكاية السرقة اللاإرادية أو (الكلبتومانيا) التي يحلو للبعض أن يفسروا بها جرائمهم، وبأنني أؤمن بأن السرقة في النهاية هي عمل إرادي يقترفه المرء وهو واع تماما لما يفعل، لكنه من الجائز أن تكون له، وفى أحيان نادرة، دوافع نفسية أخرى على خلاف دوافع السرقة التقليدية، لذلك فهو عمل مسئول يسأل عنه مرتكبه ويعاقبه عليه المجتمع.. لأنه لا يسرق وهو مسلوب الإرادة أو وهو تحت تأثير التنويم المغناطيسي، وإنما يسرق إرضاء لدوافع خاصة لديه.. ورغم تحفظاتي هذه فإن حالتك يمكن أن تكون تطبيقا مثاليا للسرقة بسبب دوافع نفسية غير تقليدية، لأن كتب علم النفس تقول بالحرف الواحد انه في هذا النوع من السرقة، فإن سرقة الشيء هي رمز للاعتزاز المفتقد وللصفح الذي لم يمنح، وأن الهدف من فعل السرقة هو استعادة الشخص لشعوره بالأمان واحترام الذات! وأن في ارتكاب الشخص لشيء خلسة إثارة عنده تصل إلى مستوى إثارة النشوة، وأنت قد سرقت لكل هذه الدوافع مجتمعة التي تفتقدينها فعلا، بغض النظر عن من يعد مسؤلاً عن ذلك ..أهو أبوك وحده.. أم أنت أيضا باندفاعك في قصتك الغرامية إلى ما وراء الحدود بغير ترو.. أو لأنك فيما يبدو قد أهملت الوازع الديني في حياتك.. فلم يعد يلعب دورا أساسيا يردك فيه عن بعض المهالك.

 

 لقد انتقمت مما أصابك من أبيك عقب ضبطه لك مع فتاك انتقاما رهيبا يا آنستي بهذه الفعلة الشائنة، ونسيت أنك تدمرين به أيضا نفسك وحبك وحياتك وشخصيتك والآن تسألينني، ماذا تفعلين لاستعادة ثقة الناس بك.. ولكي تتزوجي من فتاك الذي خضت معه هذه التجربة الطويلة.

وجوابي هو أن الإنسان يبني ثقة الآخرين به خلال سنوات طويلة ومن خلال اختبارات ومواقف عديدة.. لكنه للأسف يمكن أن يفقدها في لحظة واحدة بفعل طائش.. أو تصرف أحمق، فإذا أراد أن يستعيدها من جديد فانه يحتاج إلى سنوات أخرى من العناد والصبر لكي يعيد بناءها من جديد.

وهذا ما ينبغي أن تعرفيه جيدا أن أمامك كفاحا طويلا وصبرا أطول لكي تستعدي ثقة الآخرين بك، فإذا كان الإنسان العادي مطالبا في حياته الخاصة بحسن السيرة لكي يفوز بثقة الآخرين واحترامهم، فان صاحب البقعة السوداء في الثوب الأبيض يحتاج إلى ما هو أكثر من حسن السيرة ، لأنه يحتاج إلى التطهير بل والتزمت لكي يطهر ثوبه من ادرأنه، وليس من حقنا في النهاية أن نغضب من الآخرين لأنهم يتحدثون بنقائصنا ويسفهون علينا، وإنما علينا أن نغضب من أنفسنا لأن لنا نقائص يستطيع الآخرون أن يتحدثوا بها!

بهذا المنطق عليك أن تواجهي الحياة فتفوزي باستعادة ثقة الآخرين وباحترامهم.. وبسعادتك أيضا أن شاء الله.

رابط رسالة الثوب النظيف من كاتبة الرسالة بعد عامين

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير عام 1987

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات