الثوب النظيف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

الثوب النظيف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


 الثوب النظيف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


أنا يا سيدي كاتبة الرسالة التى نشرتها منذ عامين واخترت لها عنونا آلمنى وآثار حقدى هو " العار" .. وسأذكرك بمشكلتي فأنا الفتاة المخطوبة التي ذهبت إلى بيت إحدى صديقاتها وسرقت بعض مصوغاتها الذهبية خفية عنها ثم إنصرفت إلى بيتها فجاءت وراءها الشرطة وعلم خطيبي وأسرتي بالأمر فكان له أسوأ الأثر عليهم وعلي , وكنت كتبت لك عما أعانيه من آلام نفسية بعد ما حدث وحاولت تفسير فعلتي بأسباب نفسية .. فرددت علي ردا طويلا قاسيا قلت لي فيه أني أخطأت خطأ كبيرا سواء كانت فعلتي لأسباب نفسية أم بإرادتي الكاملة, وأن فعلتي هذه بقعة سوداء فى ثوبي الأبيض وأن علي أن أنظف ثوبي بالاستقامة التامة والالتزام الخلقي المتشدد لأن الإنسان العادي إذا كان مطالبا بالتزام القيم الخلقية لكي ينال احترام الآخرين .. فإن المخطئ الذي يريد استعادة إحترامهم مطالب بالمغالاة فى الإلتزام بالقيم الدينية بل وبالتزمت أيضا لكي يمحو ذكرى خطئه .

 

وبعد عامين من هذه الرسالة أكتب لأروي لك ما حدث بعدها .. وأبدأ بأن أعتب عليك اختيارك لهذا العنوان يا سيدي وأنت تعلم أن العار يظل مع الإنسان إلى أن يلقى ربه, وقد لجأت إليك أطلب منك العون ولو بالكلمة فقد قرأ خطيبي الرسالة وأحضرها لي وعلق عليها تعليقات جارحة مؤلمة, لكنه أكرمه الله لم يتخل عني وتعاهدنا على أن ننسى ما مضي بعد أن غسلت دموعي ذنوبي, ولم أيأس بل ساعدت نفسي على اجتياز تلك الأزمة وتم عقد قراني على خطيبي وزميلي الذي تربطني به علاقة حب عظيم علا فوق هذه المحنة.

وبعد شهور من قراني أكرمني الله بالتعاقد مع إحدى الدول العربية للعمل بها وسافرت إليها وأقبلت على العمل بحماس وتأقلمت على الغربة بكل ما فيها من تعب ومشقة وأنت تعلم أنهم في الغربة يستهلكون كل ما نملك من صحة وطاقة قبل أن نأخذ أجورنا, ومضي على وجودي هنا أكثر من عام وأنا أعيش فى سلام .. وخلاله رأيت أمامي المصوغات فى كل مكان وبلا عناية .. فلم أفكر لحظة واحدة فى أن أمد يدي لأخذ شئ لا يخصني أبدا وأقسم لك على ذلك .. وقد أكد لي هذا أن ما حدث لي في المرة الأولى لم يكن بسبب مرض نفسي ، ومازلت أتعجب كيف حدث ولماذا فلا أجد لذلك جوابا .. والحمد لله على كل حال لكن الذي يؤلمني ويدفعني للكتابة إليك هو أن زوجي وحبيبي لا يذكرني أبدا بما حدث لكن من يذكرني به كلما اختلفت معه هو أبي سامحه الله فقد عدت لمصر فى الأجازة وحدث خلاف بسيط معه فقال لى"هل نسيت ما فعلت وما جلبت لنا من عار" فزلزلتني الكلمة وإن كنت لم أتوقف عندها طويلا وقتها ثم عدت إلى غربتي ففوجئت بأن هذه الكلمة القاسية تتردد دائما فى سمعي وبأني أتذكرها كلما اختليت بنفسي فأجد دموعي تطفر من عيني , وفى أيام أخرى استيقظ من نومي فزعه وانخرط فى البكاء بلا سبب.

 

 لقد كتب أبي لي بعد سفري يعتذر لي عما سببه لي من ألم , لكن قلبي لم يطاوعني بعد على الرد عليه ومراسلته لأن جرحي عميق, وأريد أن أسألك ماذا أفعل حتى ينسى الجميع وأنسى ما حدث, وهل سأظل هكذا يعايرني البعض عند الخلاف, لقد قال سيدنا عيسى بن مريم من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر , على الرغم من قسوتك فى الرد على رسالتي الأولى لا أجد من استريح إليه غيرك لأنني في الغربة وفى الغربة لا أحد يهتم  بأحد سوى فى العمل فقط .. فما رأيك؟؟

 

 
ولــكــاتـبة هــذه الرسالــة أقـــول:

يا سيدتي إن الثوب الأبيض إذا تطهر من أدرانه قد يرجع اسطع بياضا مما كان عليه, لأن وجود بقعة صغيرة عالقة به يستنفر الجهد لإزالتها ومحو آثارها في حين قد يغسل الثوب العادي غسلا عاديا فيعود نظيفا ولكن ليس ناصعا كالذي غسل بالماء والجهد المضاعف , وهذا ما حدث معك فقد تطهرت بالألم والدمع والمعاناة والإرادة الخيرة الشريفة الكامنة فى أعماقك  مما جرى .. وكانت معاناتك جزءا من هذا التطهر نفسه ..  لذلك فليس من حق أحد أن يجرح كرامتك ومشاعرك مرة أخرى وليس من حق أحد أن يعايرك بما انتهيت منه, ومن واجب الآخرين  وخاصة الآعزاء منهم أن يثبتوا خطاك على طريق الخير الذى وفقك إليه ربك, فأي إشارة تصدر من شخص إلى ما حدث خطيئة أشد هولا من خطئك السابق نفسه لأنها قد تشكك فى جدوى الرجوع عن الخطأ مادام الآخرون يأخذوننا به حتى الآن رغم أننا قد انتهينا منه والتزمنا بالخلق القويم .. ولا شك أن أباك قد غفلت عنه هذه الحقيقه مما عمق الخلاف معك فجرح مشاعرك بغير قصد منه لكن المؤكد أيضا أنه رجع إلى نفسه وأحس بالندم على ما بدر منه فكتب إليك فتقبلي اعتذاره يا سيدتي فهو أرحم الناس بك وأحرصهم عليك وواصلي حياتك الجادة المستقيمة وأنسي ما حدث تماما , لأن إحساسنا الداخلي قد يؤرقنا وقد يكون أحيانا عاملا مساعدا لاستدعاء المعنى الذى نخجل منه إلى دائرة من يتعاملون معنا, لهذا فالبداية لابد أن تأتي منك أنت بالتعامل بطبيعية شديدة مع الآخرين وتجنب الحساسية تجاه من أن نخشى أن يذكرونا مما كان, فنواجه حياتنا بما فيها من قوة وضعف وأنت فى النهاية لست أول من أخطأ ولن تكوني آخرهم, بل لعلك أفضل من الآخرين لأنك رجعت عن الخطأ بإرادتك ودفعت الثمن غاليا , لهذا فأنت الآن سيدة محترمة بكل معنى الكلمة فلا يساورك الشك فى ذلك وواجهي الحياة بشجاعة بثوبك النظيف الذى ينم عن شخصيتك الأصيلة , واخدمي الحياة والآخرين مما أعطيت من موهبة وعلم وقدرة مالية ..لأن الحسنات يذهبن السيئات وقولي معنا دائما "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني" فكلنا جميعا فى حاجه لمثل هذا الدعاء لأن خطايا البشر كثيرة لكن رحمة الله أوسع , وعفوا لقسوتي السابقة عليك فما قصدت بها إلا أن أحميك من خداع نفسك لأن الإعتراف بالخطأ والتعفف عن تبريره والتماس العذر للنفس فيه هو دائما الطريق ولا طريق غيره إلى الاقلاع عنه وإلى استعادة ثقة الآخرين وإحترامهم .. فتقبلي احترامي وتمنياتي لك والسلام.

رابط رسالة العار

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1988

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات