العمارت العالية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001
أنا فتاة في الخامسة
والعشرين من عمري درست بإحدى كليات القمة ولي خمسة إخوة ثلاثة منهم يدرسون بكليات
القمة أيضا وأخت وأخ في المرحلة الإعدادية ..وكان أبي وأمي يشغلان مراكز مرموقة
في عملهما, وكنا نحيا حياة هادئة يحسدنا عليها من حولنا.
فلنا أب وأم سخرا حياتهما
لنا وحرما نفسيهما من كل متع الحياة حتى يصل أبناؤهما إلى ما يتمنياته خاصة أبي
الذي أفنى صحته وحياته من اجلنا.
فقد كان هذا الرجل العظيم
هو مثالا يجب أن يحتذي به كل أب يصحو من نومه مفزوعا لأنه يخشى أن يكون احدنا قد
نام ولم يذاكر دروسه كان يفترش الأرض أمامنا ويجلس بالساعات يشجعنا على المذاكرة
وهو يقاوم النوم والإجهاد ويعمل طوال اليوم لكيلا يشعرنا بأن مستوانا الذي عودنا
عليه سوف لا يقل بعد عودته من احدى الدول العربية, ويدخل علينا بالأكياس المحملة
من الخيرات ويداه بها علامات من ثقل ما يحمل ويخاف لدرجة الرعب من أن لا يحقق لأحد
منا أحلامه وفي قلبه تجاهنا من الحنان ما يكفي أمة من الرجال, كما نحكي له عن كل
شيء في حياتنا ويستمع بصدر رحب ويضحك بوجهه الذي يملأه النور باللحية الجميلة
وعلامة الصلاة المحفورة في جبينه.
ثم فجأة وبدون أي
مقدمات رحل عنا في هدوء مثل النسيم بعد حادث اليم اختاره الله فيه ليكون شهيدا
ومات يوم الجمعة غريقا حيث انقلبت به السيارة في النيل, وتركنا ستة من الأبناء
وزوجة كان هو البسمة الوحيدة في حياتهم ووجدنا أنفسنا في ساعات تهتز الدنيا تحت
أقدامنا بل لكننا مضطرون أن نتماسك لننقذ أخي الصغير الذي يبلغ من عمره عشر سنوات
يرقد في العناية المركزة بعد أن نجا بأعجوبة من موت محقق معه في نفس الحادث.
ولم نجد حلا سوى الصبر
والنظر في وجوه الناس وملابس النساء المتشحات بالسواد وكأننا في كابوس نتمنى أن
ينتهي ونرى أبي ثانية يجلس معنا يصلي بنا ويقرأ لنا أسماء الله الحسني كما كان
يفعل كل يوم.
وبعد فترة أيقنا إنه ليس
كابوسا وإنما حقيقة مؤلمة, ورغم مرور فترة من الوقت على رحيله عنا فإننا نسمع
أصوات أقدامه على السلم ونجري لنحمل عنه الأكياس فلا نجده ونشعر به يوقظنا لصلاة
الفجر ولكن لا نراه وكم حلمنا أن يكون معنا ليجني ثمار ما أفني عمره من أجله وليري
شهادات تخرجنا جميعا التي كان من المفروض أن تكتب باسمه ويري أحفادا له منا عاش
عمره يحلم بهم.
إن هذا الشعور يا سيدي
يمزقنا فقد كل منا يؤجل رد الجميل إلى هذا الأب العظيم حتى يقف على ارض صلبة ولكن
القدر لم يمهلنا لأن نريحه ونعطيه بعض ما يستحق من الإجلال والتقديس.
فقد عاش في كبد حقيقي ولم
يكن يرتاح يوما ولا ينام بعمق وكانت راحته الوحيدة في النظر إلى
وجوهنا وهي تضحك.
وكان دائما يقول أنا أغنى من أي إنسان في الوجود
فعندي ست عمارات عالية كلها أجمل من بعضها, كان يتباهي بتلك الثروة وكأنها انجاز
حياته الكبير.
فهل يشعر أحباؤنا الراحلون
بحزننا عليهم وهل يصلهم ندمنا على كل كلمة لم نقلها لهم تعبيرا عما بداخلنا وهل
سيعرف إلى أي نجاح قد وصلنا وهل سيظل يفتخر بنا ما حيينا نحن مع أنه بعيد عنا.
إنني أتمنى أن يعرف أننا قد
تحملنا فراقه ليس حبا في الحياة ولكن لتظل تلك العمارات الست شامخة تحكي عن عظمة
من بناها وأي أساس قد أرساه فينا ولندعو له في كل وقت وفي كل لحظة ولتجري له
الصدقات ليصله ثوابها.
* ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
خير ما تفعلون لإسعاد روحه في مستقرها الأمين هو أن تكرروا سيرته في الحياة الفاضلة وفي الإخلاص.. والعطاء.. والالتزام بالمبادئ الدينية والأخلاقية التي غرسها فيكم، فبذلك يكون العرفان حقا لمن أحبكم وأفاض عليكم من حبه وعطفه وحنانه.. وكرس حياته للجهاد من أجل رعايتكم وإعانتكم على تحقيق أحلامكم.. رحمه الله رحمة واسعة وعوضكم فيه خيرا.· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر