ألسنة اللهب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1987

ألسنة اللهب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1987 

ألسنة اللهب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1987

إن علاقة الحب من طرف واحد والذي يتعذب ويعطى ولا ينال شيئاً ، فإنني لا أحترم هذا النوع من الحب ، إذ كيف يحب الإنسان السوي من يجرح كرامته ومشاعره ويلفظه كلما وجد الفرصة ؟ .. إنه ليس عاراً أن نتجرع الفشل في الحب لأسباب خارجة عن إرادتنا ، لكن العار كل العار أن نستمرىء الهوان .. ولا نفرط فيه كأننا نؤكد بذلك قول الشاعر : "من يهن يسهل الهوان عليه".

عبد الوهاب مطاوع


أكتب إليك بعد أن انتهيت من قراءة رسالة "القلب المحفور" ، التى يروي فيها كاتبها قصة حبه الرائعة مع زوجته وكفاحهما معاً لبناء عشهما من شقة ليس فيها سوى 3 أكلمة وبطانية ووسادة ، إلى أن أثمر كفاحهما وأنعمت الدنيا عليهما بالنجاح والوفاق وإن كانت قد حرمتهما من الإنجاب.

وصدقني يا سيدي أنني بكيت وأنا أقرأ عن هذا الحب الكبير ، الذى يجمع بين قلبيهما وعن هذا الإيثار ، الذي يتبادلانه إلى حد أن تقترح عليه زوجته أن يتزوج عليها أخرى لكيلا تحرمه من الأطفال مع بقائها على حبها وإخلاصها له .. وبكيت وهو يشرح لك كيف رفض وأصر على الرفض متمسكاً بها إلى النهاية .

 

 ولأن هذه القصة جددت أحزانى وأشعرتني بعمق المأساة التي أعيشها ..فلقد كانت لي قصة حب وزواج مماثلة بدأت بعد أن تخرجت من الكلية منذ 20 سنة وعملت في وظيفة مرموقة لها بريق يخدع الأبصار عن حقيقة وضعها المادي ، وبهذا البريق وحده تحدد مصيري إذ تعرفت بفتاة جميلة  أحببتها بكل شبابي وحرماني وأحبتني باندفاع ، وحين أردنا الارتباط واجهتنا المشاكل ، فاصطدمت أولاً بموقف أسرتها التي لم تتحمس للزواج لكنها لم ترفض صراحة ، خوفا من ابنتهم العنيدة القوية وهى أسرة من عالم غير عالمي تعتز بعضويتها القديمة جداً فى نادي الجزيرة وسكانها منذ الأربعينيات في حي الزمالك وبعلاقاتها الاجتماعية العريضة مع من يسمون بالطبقة الراقية ، مع أنها أسرة ليست ثرية في النهاية .

 

أما أنا فقد كنت أحد أبناء موظف صغير جداً في قرية كافح كفاح الأبطال لتعليم أبنائه وأرسلني إلى القاهرة للالتحاق بالجامعة ، معتبرا أنه قد أدى رسالته بذلك ، وكان يرسل لي حوالة بمبلغ 5 جنيهات لأعيش بها طوال الشهر في المدينة الجامعية ، معتمداً على وجبات الطعام فيها التي لا يزيد ثمن الواحدة منها – أيامها على 3 قروش .

وعندما تخرجت وجدت بسهولة سكنا مشتركا فى شقة من 3 حجرات مع زميل لي نتقاسم إيجاره ونفقاته .. إلى أن عرفتها بالمصادفة في بوفيه كلية الآداب القديم ، وكانت تزور إحدى صديقاتها ، لأن فتاتي لم تحصل سوى على الثانوية العامة ، فبدأت العلاقة وأحببتها حباً ملك على نفسي .. وأحبتني حباً جنونياً وحين أردنا الزواج قررت أن تعرضني على أسرتها ، ويوم قدمتني إليها غسلت بدلتي الوحيدة وكويتها وارتديت أحسن قمصاني وذهبت إلى بيت أسرتها في الموعد المحدد .. واستقبلني الأب فى روب دى شامبر مترفعا متحفظا .. وكذلك الأم والشقيقات وأحسست من اللحظة الأولى أني غير مرغوب في .. وأن الأسرة لا تراني من مستواها .. لكن فتاتي جلست في الصالون متنمرة لأي حركة من أسرتها ضدي .. ولاحظت ذلك وانتهى الموقف بتسليمهم برغبة ابنتهم .. كأنهم قد يئسوا منها فتركوها تفعل ما تريد .. وأقنعت زميلي في الشقة بأن يبحث لنفسه عن مسكن آخر لأتزوج فيها .. وكان شهما فقبل خصوصاً أنه كان من السهل أيامها العثور على سكن آخر .. ورتبت فتاتي كل شىء لنتزوج .. واعتصرت أنا وأبى وإخواتى ليعطوني كل ما معهم لأقدم به شبكة مناسبة لها ، واقترضت من كل أصدقائي وأعطيتها كل ما معي ، واشتريت الشبكة التي تراها لائقة أمام الأهل ، وأنفقت أنا كل ما معي لأحافظ على المظهر المطلوب وكانت خطتها أن نتزوج ثم نسدد ديوني ونستكمل مطالب بيتنا من حصيلة "الصباحية" التي سوف يقدمها لنا أقاربها العظام .

 

وبدأنا حياتنا الزوجية وليس في جيبي سوى ثلاثة جنيهات ، وبدأ الأهل يتوافدون علينا لتقديم هدايا الزواج المالية ، ولاحظت بدهشة أن هدايا عائلتها كانت 50 جنيها من كل أسرة .. وكانت مبلغاً كبيرا فى الستينات ، ولم يفتني أن ألحظ الفارق المؤلم بين هدايا أسرتها وهدايا أسرتي التي لم تزد الواحدة منها على 5 جنيهات ، كما لم يلفتني أيضا أن ألحظ أن إخواتي وأقاربي كانوا يبدون كالغرباء وسط أسرتها وأقاربها ، الذين لم يبدون أية رغبة في الاقتراب منهم ، وتألمت لكنى كتمت ألمي وانتهى "المولد" بعد أيام ، وأسفر عن حوالي 600 جنيه أكثر من 500 منها جاءت من أسرتها .

وبدأت زوجتي تستكمل شراء الأشياء الناقصة وأعطتني 50 جنيهاً لتسديد ديون، وغرقنا في بحر السعادة بلا حدود ، ولاحظت من الأيام الأولى أن زوجتي لا تكاد تعرف شيئاً عن أعمال البيت كما أنها لا تدخل المطبخ إلا نادراً ولصنع فنجان من النسكافيه أو الشاي .. أما الطعام فمن السوق يوما بيوم ، ولم ألتفت لذلك طويلاً لأني كنت غارقا في حبي لها وسعادتي بها ، وحملت زوجتي واقترب موعد الولادة فطلبت مني زوجتي أن أحجز لها في المستشفى الذي تلد فيها فتيات الأسرة ، وهو مستشفى غال .. فسافرت إلى بلدتي وقابلت أبي وشرحت له الموقف وطلبت مساعدته فأشفق على ، وأقترض من رئيسه مبلغا وأعطاه لي ، مع ما تبقى من راتبه وعدت للقاهرة فبعت ساعتي وحجزت لزوجتي في المستشفى الفاخرة ، ووضعت زوجتي طفلة وخرجت من المستشفى إلى بيت أبيها لكي تتولى أمها إرشادها لرعاية الطفلة ، وعشت وحيداً لمدة شهرين أتردد عليها كل يوم .. وكلما سألتها عن موعد العودة تقول لي عندما أسترد صحتي ، واطمئن إلى أن الطفلة بخير .

 

 ثم أخيراً عادت تاركة الطفلة في رعاية أمها لكي تعود إليها كل يومين فتمضي بجوارها ثلاثة أيام ، وهكذا وكلما طالبتها بإحضار الطفلة لبيتنا والاستقرار معي فيه ، رفضت في البداية بهدوء ثم بشدة ، ثم بعنف ، ثم صرخت في : ( تيجى تعيش فين ، فى شقة ما بتدخلهاش الشمس بالخمسة وعشرين جنيه بتوعك ) !

واتضحت الحقيقة المؤلمة أمامي لأول مرة ، لقد هدأت نار الحب الذي جمعتها بى .. وبدأت حبيبتي تضيق بمتاعب الحياة معي وبضآلة راتبي ، وصدقني يا سيدي أن قصة سعادتي معها انتهت بالفعل بعد زواجي منها بسنة وثلاثة شهور ، فمنذ ذلك الحين لم تستقر الحياة بنا أبدا .. وخلال السنوات الثلاث التالية كانت تصفو لي أحيانا ويتجدد الحب في قلبها فتعود لتقيم معي شهوراً .. ثم تضيق بمتاعب الحياة فجأة فتعود إلى بيت أسرتها وأعيش وحيداً مشرداً وهكذا ، والعجيب أنها حين تصفو تصبح كالنسمة الرقيقة تفيض حباً وحناناً .. وحين تنقلب تصبح كالقطة المتوحشة التي تخمش من يقترب منها ولا تخفى رأيها فى أنها أخطأت بالزواج مني لأني لم أكن لها ، وأن شقيقاتها ينعمن بأزواج أثرياء ويتقلبن في النعيم وهى تعاني شظف العيش معي ، وليس غريباً طبعا أنها قاطعت أهلي بعد الزواج بقليل ونفرتهم من زيارتي .

 

وهكذا مضت بي الحياة معها .. حتى جاءتني الفرصة للعمل في الخارج فذهبت إليها وأبلغتها بأن مشاكلنا سوف تحل ، وأنني سأحقق لها كل مطالبها .. فشجعتني على السفر وسافرت فعلا ، واستدعيتها بعد 3 شهور فجاءت فرحة مقبلة على الحياة وعلى التجربة ، ووجدتني قد استأجرت شقة من 3 غرف وأثثتها بالأثاث المناسب لغريب سيعمل عدة سنوات ثم يبيع كل شىء ويعود لبلاده ، فرفضت هذا ثم نزلت إلى الأسواق لتشترى أثاثاً فاخراً يليق بها .. ولم تكف نقودي فطالبتني بالاقتراض من البنك بضمان راتبي لاستكمال الأثاث .. وفعلت راغماً ، وهكذا عدت مدينا في غربتي رغم ضخامة راتبي .. ونفذت ما أرادت وأصبحت لنا شقة كشقة أسرتها في مصر .

وهدأت الأحوال بيننا لمدة 4 سنوات عشتها في هذا البلد .. لم تكف خلالها عن الشراء وإقامة الولائم ، ودعوة الأصدقاء والمعارف . ولولا أني أخفيت عنها موردا من مواردي هناك لما استطعت أن أدخر مليماً ، ولما استطعت أن أعود في إحدى الأجازات وحيدا لاستأجر شقة من 4 غرف فى حي راقي قريب من حي الأسرة العتيد ، لأنها متلافة بشكل عجيب .. وكالبحر الهائج دائما .. في السلم والحرب معا أي في السعادة .. وفى الشجار .. لا وسط عندها أبدا ، لها أصدقاء وأعداء باستمرار ، مع الأصدقاء تذوب رقة .. ومع الأعداء كالنار الموقدة ، ورغم أنى لم أدخر عشر ما كان يبغى أن أدخره خلال هذه السنوات الأربع ، فلقد كانت أجمل سنوات حياتنا وأكثرها استمرارية .. إذ عدنا بعد ذلك إلى مصر وتكبدت نفقات هائلة لشحن الأثاث الملوكي الذي اشترته هناك وحققت لها جميع رغباتها ، وعدت إلى عملي الذي حققت فيه بعض التقدم ، وأصبح لى منه دخل معقول ، لكنه كان لا يفي بمطالب حياتها الباهظة ، وطبعاً عادت المتاعب بعد فترة وتفاقمت حين أهانتني ذات مرة إهانة جارحة أمام أسرتها وهي تتحداني إن كنت رجلاً أن أطلقها ، ولم تكن المرة الأولى ولا العاشرة التي طالبتني فيها بالطلاق .. فطلقتها لكي تعود إلى رشدها .

 

وانتظرت 6 شهور كنت أرى ابنتي عن طريق أختها .. ثم بدأت أتوقع أن تفتح أختها باب الحديث عن الصلح بلا فائدة ، فبدأت أنا أقترب منه فإذا بأختها تلقى علي قنبلة لم أتوقعها عندما قالت لي إن مطلقتي وأم طفلتي التي لا يزيد عمرها على 8 سنوات قد تزوجت بالفعل منذ أيام من أحد أقاربهم أي من مستواها ، وأنها تقضى شهر العسل في أوروبا ، وأحسست بالدنيا تميد بى . أهكذا سريعا لم تفكر في ابنتها وفى .. وفى الأيام التي عشناها معا ، لقد تركت ابنتها مع جدتها وانطلقت تتمتع بالحياة بلا أي إحساس بالمسئولية ، وبغير أن تعطي نفسها فرصة للتفكير ، واسودت الدنيا في وجهي وعشت شهوراً كالدائخ لا أعرف رأسي من قدمي ، وسعيت للانتداب في مدينة بعيدة عن القاهرة في أقصى الجنوب عشت فيها عاما طويلا وكئيبا .. حتى بدأت أتمالك نفسي وأفكر في العودة للقاهرة والذهاب إلى بلدتي لخطبة أية فتاة ترضى بى ، وعدت واتصلت بشقيقتها لأطلب رؤية ابنتي ، وذهبت إليها فقالت لي ألا تحب أن ترى فلانة ؟ فقلت ولماذا أرى زوجة رجل آخر ؟ فقالت لي إنها لم تعد زوجة رجل آخر لأنها طلقت منه وعادت إلى لمصر ولبيتها .. وإنها تحس بأنها أخطأت في حقي فقلت لها سأفكر في الأمر .

 

وبعد أيام كنت في عملي حين سمعت صوتها في التليفون تخاطبني .. واعترف لك بأني نسيت كل عذابي خلال السنة الماضية حين سمعتها تناديني باسمي ووجدتني أقابلها ..ووجدتني اصطحبها إلى المأذون لأعيدها إلى عصمتي وإلى الشقة الخالية لننفض عنها ترابها ونستعيد ذكرياتنا ، وكانت سعيدة لا تكف عن التأكيد بأنها اكتشفت أنه لا أحد في العالم يحبها مثلي ، وبعد الأيام السعيدة التي أمضيناها وحدنا بعد العودة ، قررنا أن نذهب إلى شقة أسرتها لتصطحب ابنتنا لتعيش بيننا بصفة دائمة ، وذهبنا معا وجمعت زوجتي أشياء الطفلة واستعددت للخروج مع ابنتي فرأيت زوجتي تحمل على يديها طفلا رضيعاً وتقبله باسمة .. ثم تركب معي السيارة وتتحدث وتضحك وتعلق بمرح على كل شىء .. كأن شيئا لم يكن .. وأنا ساهم حائر أكذب عيني .. ثم سألتها عنه فقالت ببساطة إنه فلان أخو فلانة أي ابنتي ! ثم انتقلت للحديث عن شىء آخر ، كأن الأمر لا يستحق التوقف عنده ! وذهلت للمفاجأة الأليمة وفى البيت سألتها لماذا لم تخبريني بالأمر من قبل ؟ فقالت مندهشة إنها ظنت أن أختها قد أبلغتني بالأمر ، وأني تجنبت الحديث معها عنه مراعاة لمشاعرها وسكت .. وتساميت فوق جراحي .. وقلت لنفسي إن كثيرين يتزوجون مطلقات ولهن أولاد ويربوهم .. فلماذا لا أعتبر الأمر كذلك ! لكنى أعود فأجد نفسي تنفر من هذا المولود وأقول لنفسي إنه ليس ابن أية مطلقة .. إنه رمز خيانتها لحبي .. وجريها وراء زوج ثرى يحقق لها ما لا تجده معي ، إنه ثمرة حمقها واندفاعها الذي قادها لتدمير بيتنا .. ثم الزواج من رجل ثري قضى وطره منها وزهدها سريعاً فطلقها وعاد لحياته الأولى .

 

لا تقل لي كن إنسانا ، وانس هذا الأمر ، فإنني إذا نسيته ، فإنها لا تنساه .. فلقد عادت بعد فترة قصيرة من الضعف إلى قوتها وجبروتها ، وأصبحت لا تخفى إعزازها الخاص لهذا الطفل لأنه ابن ذوات ودمه أزرق مثلها ! بل وأصبحت لا تخجل من أن تتحدث أمامي عن أبيه وللعجب بلا أي مرارة ضده ، رغم أنه رماها ، بعد عشرة شهور بل تتحدث عنه أحيانا بحنين ، وكأني لست موجودا أمامها .. وأكثر من ذلك تتصل بأهله أمامي بحجة أنهم أهلها وأنها واجبات إجتماعية ، فإذا ثرت وغضبت قالت لى هل تحس بالغيرة من خيال غير موجود ، إنه لا يعيش في مصر وهو أبو طفلي ولا فائدة من مقاطعة أهلي وأهله بسبب ذلك ، فإذا تماديت في ثورتي انطلقت براكين غضبها وهددت بتحطيم كل شىء ، ثم تطور الأمر بعد ذلك تطوراً خطيراً ..حين لاحظت كثرة أحاديثها مع أقاربه .. حتى بدأت أشك في أنها ترتب أمراً ما معهم .. فصارحتها  بشكوكي فقالت لى بأنها ضاقت بكل شىء وطلبت مني الطلاق وأصرت عليه ، واجتنبتني وإن كانت لم تغادر الشقة لكيلا أتصور أنها تفعل شيئا خطأ .. ومضى على انفصالنا الواقعي 3 شهور وهى مستمرة في الحديث تليفونياً كل يوم مع شقيقات مطلقتها ، وتخفض صوتها إذا اقتربت منها ، تستقبلهن على انفراد في الصالون وتمضي معهن الساعات الطويلة وإذا ناقشتها قالت لي كلمة واحدة : طلقني .. وبتصميم شديد أعرفه فيها حين تنوى شراً .. لكني لا أريد أن أجاريها في اندفاعها هذه المرة .. فما رأيك ؟

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

رأيي في أي شىء يا سيدي ؟؟ ، إنها ترتب مع شقيقات مطلقها أمر عودتها إليه

تحت سمعك وأمام بصرك .. وترفض مغادرة الشقة هذه المرة إلى بيت أهلها لكي تطمئنك إلى أنها لن تلتقي به إلا بعد أن تطلقها ، وهى امرأة مغرورة جبارة مدللة لا تعرف إلا الخضوع لرغباتها ، وسوف تحصل على الطلاق الآن أو غداً ، ولا تخفى ضيقها بك وندمها على الارتباط بك ،بل ولا تلهفها الآثم وهى معك على مطلقها الغائب الذي عرف كيف يروض روحها الجامحة ، وألقى بها في الطريق مع وليدها عند أول خلاف ،ومع ذلك فهي لا تحمل مرارة تجاهه وتهفو روحها إليه وهى معك .. أهناك جحيم أكثر من هذا ؟

إن المرأة لا تحترم الرجل الضعيف المسلوب الإرادة الذي يقبل الهوان ولو منها ، وزوجتك من هذا النوع القوى من النساء الذي لا يخضع إلا للأقوى منه ، ولا يحترم سواه ، وأنت يا سيدي مسلوب الإرادة معها .. وقبلت منها ما لا يقبله الحر على مدى سنوات طويلة .. وقد أخطأت من البداية بزواجك منها لأنك لست من عالمها ولا هي من عالمك ، ولأن التكافؤ الاجتماعي شرطا أساسي من شروط الزواج الناجح . وأخطأت أكثر بتسرعك في العودة إليها حتى قبل أن تتبين إذا ما كانت قد أنجبت من غيرك أم لا ، وقد عدت إليها تقول لا بعد أن اكتشفت أنها تحبك وإنما اكتشفت هى أنك أكثر إنسان يحبها فى الوجود ، وهذه الشهادة فى حد ذاتها جريمة فى حقك .. ودليل على نوع العلاقة العاطفية التى تربطك بها .. وهى علاقة الحب من طرف واحد يتعذب ويعطى ولا ينال شيئاً ، واعذرني إذا قلت إنني لا أحترم هذا النوع من الحب ، إذ كيف يحب الإنسان السوي من يجرح كرامته ومشاعره ويلفظه كلما وجد الفرصة ؟

 

يا سيدي إنه ليس عاراً أن نتجرع الفشل في الحب لأسباب خارجة عن إرادتنا ، لكن العار كل العار أن نستمرىء الهوان .. ولا نفرط فيه كأننا نؤكد بذلك قول الشاعر : (من يهن يسهل الهوان عليه ) ، ولا أريد أن أكمل باقي البيت لأني أربأ بك أن تكون كذلك .. إن الإنسان لا يستطيع أن يشترى حب أحد لأنه كما تعرف لا يباع ولا يشترى ، ولا يستطيع أن يفرضه على أحد ، لكنه يستطيع على الأقل أن يفرض احترامه على الآخرين باحترامه لنفسه وبمفارقته قبل أن يكتوي بألسنة اللهب . واستمرار زواجك بهذه السيدة جحيم يتوارى إلى جواره جحيم ( دانتى ) ، لأنه محكوم عليه بالفشل ولا راد لقضائه فى ذلك ، فهذه السيدة ليست لك ولن تكون لك . وابنتك لا دخل لها فى حسابات زوجتك بالنسبة لك فمصيرها الطبيعي هو رعاية جدتها التى ربتها منذ البداية ،وقد تعقد الأمر بوجود هذا الطفل الذي أضاف للمشكلة أبعاداً جديدة تربطها بمطلقها بأكثر مما تربطها بك ، والأمر كله معقد كأنه تراجيديا إغريقية ، أنت ضحيتها الأولى ، لأنك بكل أسف الطرف المغلوب على أمره فيها ، الذي يتكالب عليه أعداءه من الداخل والخارج .. فمن الداخل عدوك هو قلبك الجريح الذي لم يتخلص بعد من حب هذه السيدة الجاحدة ، التي لا تستحقك . ومن الخارج هؤلاء الوحوش الذين يرتبون الأمر لعودتها لمطلقها ، وكأنك لست طرفا فى المأساة كلها ، او كأن انفصالها عنك أمر محتوم ومسألة إجراءات ليس إلا ، ثم تقول لى بعد ذلك إنك لا تريد أن تجاريها فى اندفاعها هذه المرة وتطلقها !

 

يا سيدي جاريها فى اندفاعها هذه المرة بالذات من أجل خاطري ومن أجل خاطر كرامتك ، قبل أن تفاجأ بما يطعنك في رجولتك أكثر من هذا ، ولن تفقد شيئاً ثمينا بفقدها ، فماذا يساوى عندنا من لا يريدنا ولا يرغب فينا ؟ ثم إنها ليست نهاية الحياة يا صديقي فكم من تجارب أليمة يبدأ الإنسان بعدها حياته من جديد ، وكم من محن شخصية يمر بها ثم تعطيه الحياة بعدها حقه العادل من السعادة الذي غاب عنه سريعاً ، بل لعل هذا نفسه يرشح الإنسان للحصول على حقه من السعادة بعد أن أدى ضريبة الألم غالية من زهرة عمره وشبابه .. ففارقها يا سيدى وتألم حتى تشفى منها ومن هذه المحنة .

 

فلربما صحت الأجسام بالعلل .. كما يقولون . ولربما كانت هذه البداية الصحيحة في حياتك فتعود إلى أهلك ومجتمعك وأقاربك .. وترتبط بإنسانة أخرى تدخرها لك الحياة وترى فيك أملها وفخرها ومستقبلها .. لا طيشها .. وخطأها .. وعاقبة رفضها لنصائح الأهل .. كما تفعل هذه السيدة المتوحشة .

رابط رسالة القلب المحفور

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات