القلب المحفور .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1986

القلب المحفور .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

                       القلب المحفور .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986


أنا يا سيدي شاب أقترب من الأربعين تخرجت في معهد عالٍ منذ حوالي 17 عامًا وتخصصت في أحد المجالات الضرورية للعمل الفني لكن صاحبها يبقى معظم حياته في الظل لا ينال شهرة ولا يحفظ الناس اسمه .

وحين كنت في السنة الثانية بالمعهد .. ارتبطت عاطفيًا بزميلة لي شدني إليها صفاؤها .. وجمعت بيننا الظروف المتشابهة فلقد كانت مثلي مقطوعة من شجرة كما يقولون يتيمة الأب تعيش مع أمها في إحدى المدن القريبة من القاهرة على معاش صغير بلا إخوة ولا أعمام ولا خالات .. وليس لها سوى أقارب بعيدين صلتها بهم شبه منقطعة .. وكنت يتيم الأبوين لي شقيقتان فرقت الدنيا بيني وبينهما فإحداهما تزوجت وعاشت في البحر الأحمر والأخرى تزوجت واستقرت مع زوجها في سوهاج في بيت الأسرة .. وجئت أنا إلى القاهرة الكبيرة لألتحق بالمعهد .. معتمدًا على ما تبقى من معاش أبي ، وأقمت في القاهرة في غرفة مفروشة صغيرة في حي بين السرايات في أحد البيوت التي تقبل سكنى الطلبة وفي هذه الظروف التقينا .. هي تقيم في بيت للطالبات يلتهم معظم معاشها وأنا أقيم في غرفة مفروشة تلتهم معظم معاشي .. وبدافع من الوحدة والتماس الصحبة كنت أمضي معظم يومي في المعهد أدرس وأقرأ .. وأتكلم مع زملائي وزميلاتي .. وكانت هي مثلي تمضي معظم نهارها فيه واقترب كل منا من الآخر .. ووجد فيه عزاءه عن غربته ووحدته .. وذات يوم كنا نشاهد بروفة مسرحية كجزء من دراستنا في أحد المسارح وسط المدينة .. وكنت جائعًا فتسللت من المسرح لأذهب إلى محل للفول مواجه له .. فوجدتها فيه تأكل الساندويتش .. فشاركتها المائدة وطلبت طعامي .. وبعد انتهائه طلبت مني أن أوصلها إلى بيت الطالبات لأن الوقت تأخر بها .. وانحشرنا في الأتوبيس إلى الجيزة وعندما صافحتني مودعة استبقيت يدها في يدي وسألتها سؤالاً واحدًا هو : هل ما أحس به تجاهها هو نفس ما تحس به نحوي ؟ فأومأت برأسها نعم .. ثم انفلتت جارية إلى مسكنها .. ووقفت أنا مذهولاً من السعادة لحظات قبل أن أستدير عائدًا إلى مسكني .

 

 كنا أيامها في السنة الثالثة بالمعهد فأصبحت أصحو من نومي مبكرًا لأذهب إلى ميدان الجيزة سيرًا على الأقدام وأقف على محطة الأتوبيس القريبة من بيت الطالبات حتى تجئ ثم نركب معًا إلى المعهد .. فنمضي اليوم كله معًا ثم نعود إلى ميدان الجيزة فأودعها وأسير أنا إلى غرفتي في بين السرايات وهكذا كل يوم .. نذهب معًا ونجئ معًا .. ونشارك في نشاط المعهد معًا .. ونذاكر معًا في حديقة الأورمان .. أو نشاهد تجارب الفرق المسرحية والندوات معًا، وقد عرف كل الزملاء ارتباطنا واحترموا علاقتنا التي توجناها بالخطبة فسافرت إلى بلدتها في عطلة نهاية الأسبوع والتقيت بأمها وطلبت يدها منها .. وقدمت لها دبلة الخطبة وعدنا سعيدين إلى دراستنا.

وتخرجنا معًا في يوم واحد .. وجاءنا تعيين القوى العاملة بعد شهور فأنقذنا من الضياع .. فعينت هي في وظيفة صغيرة بأحد قصور الثقافة .. وعينت أنا في وظيفة أصغر بأحد أجهزة الثقافة.

 

 وبدأنا نستعد لبناء عشنا .. بلا سلاح سوى مرتبينا الصغيرين ..

وفي هذه الفترة مارست أعمالاً كثيرة لكي أجمع بعض المال لاستئجار شقة .. فكنت أطوف على مكاتب الإعلان لأعرض عليهم كتابة الإعلانات الضخمة التي تعلق في الشوارع لأني أجيد كتابة الخط والرسم إلى حد ما .. وكنت أجد فرصة أحيانًا فأحمل جردل اللون والفرشة الضخمة وأرسم وأكتب مقابل جنيهات .. وكانت هي تخرج من عملها تبحث عني في شوارع القاهرة فتجدني مرة في شارع رمسيس ومرة في الهرم واقفًا أمام لوحة إعلانات .. فتأتي لي بساندويتشات الفول والطعمية .. ثم تحمل إليّ الأدوات وأنا على السلم وتشاركني الكتابة والرسم إلى أن ينقضي النهار ونعود سعداء بالجنيهات التي أعطاها لنا المعلم، ثم جاءت انتخابات عامة اشتد الطلب فيها على الخطاطين لكتابة لوحات الدعاية .. فأمضينا ليالي عديدة ساهرين في ميدان الجيزة نكتب اللافتات ونسلمها لأصحابها .. وبعد أن انتهت الانتخابات كان معنا ما يكفي لاستئجار شقة متواضعة بالدور الأرضي في بيت شبه ريفي من بيوت الهرم في ذلك الوقت، ورغم تواضعها فلقد فرحنا بها فرحة العمر .. وأسرعنا ننقل ملابسنا إليها ونشتري "أثاثًا" .. وكان أثاثُا عجيبًا بحق .. لكننا فرحنا به ورأينا فيه رياشًا فاخرًا .

 

فبروحها الساخرة الصافية نزلنا إلى أحد محلات الكليم في الجيزة واشترينا 3 قطع من الكليم الملون ووسادتين وبطانية وبعض أدوات المطبخ و"سبرتاية" وعدنا للشقة .. فراحت "تفرشها" .. تفرش كليمًا في غرفة خالية وتقول هذه هي غرفة النوم .. وكليمًا في غرفة أخرى وتقول هذه هي غرفة المعيشة .. وكليمًا في الصالة وتقول هنا الأنتريه .. أما الغرفة الثالثة فتركتها خالية للمستقبل، وحددنا يوم عقد القران والزفاف واستدعينا أمها .. وأرسلت أستدعي شقيقتي ثم أذعنا بين الأصدقاء وزملاء الدفعة موعد القران .. وكان بعضهم قد بدأ يعرف طريق الشهرة والمال .. في عالم المسرح والفن، فجاءوا جميعًا يحمل كل منهم شيئًا للبيت أو الحفل .. بل جاء أحدهم وكان من أقرب الأصدقاء إلى قلبي يحمل معه "ترابيزة" كبيرة من بيته قال إنه لا يحتاج إليها .. وآخر جاء ومعه دستة فناجين وبراد شاي وثالث معه شرائط زينة وبالونات قام بتعليقها في الشقة ورابع جاء ومعه دستتان من المقاعد المؤجرة من محل فراشة قريب .. وهكذا وبعد انصراف المأذون .. بدأ الزملاء يقيمون لي زفة وحفل زفاف استمر حتى الصباح .. أقسم لك أنه لو أراد مليونير أن يقيمه لابنته الآن لتكلف عشرات الألوف لأن مطربيه ونجومه أصبحوا الآن من المشاهير ! الذين يتقاضون الألوف !

 

المهم بدأنا حياتنا الزوجية سعداء، وليس في غرفة نومنا سوى كليم ووسادة وبطانية وبدأنا نشتري قطع الأثاث قطعة قطعة .. وبدأت هي تفصل الستائر وتعيد طلاء الشقة وخلال 3 أعوام كان لدينا شقة مقبولة من كل الوجوه .

وبدأت أنا أنجح في عملي ويزيد رزقي .. فأعطيه كله لزوجتي الحبيبة تتصرف فيه بحكمة .. وبعد خمس أعوام من الزواج نجحت في استئجار شقة حديثة من 3 غرف في الهرم أيضًا ولكن على وش الدنيا انتقلنا إليها "بزفة" أخرى من الزملاء والأصدقاء .. وأصبح لنا أثاث معقول .. وأصبحت لي غرفة مكتب ومائدة رسم أعمل عليها في البيت .. أما هي فقد زادت جمالاً وتوردًا وأصبحت أكثر حبًا للناس والحياة .. وقد ألحت على أمها لتعيش معنا فأصبحت تمضي معنا بعض شهور السنة وهي سيدة طيبة كابنتها من هذا النوع الذي لا يكره أحدًا، وكلما أهديت لزوجتي فستانًا أو بلوزة جميلة .. فرحت بها ثم ارتدتها مختالة لفترة .. وبعد ذلك أراها بالصدفة على بنت البواب .. أو ابنة المكوجي أو أي فتاة تتعامل معها .. فإذا سألتها قالت لي ببساطة أن الثوب "يدعو" لصاحبه وهو على جسم غيره حتى يذوب آخر خيط فيه .. وأنها توزع كل ملابسي القديمة وملابسها أيضًا طلبًا للدعاء .. لكي يحفظ الله لنا سعادتنا وصحتنا، وأسمع ذلك فأزداد حبًا لها وأفهم ساعتها سر خلو دولابي من كل ملابسي وملابسها التي لم يمض أكثر من عام أو عامين على شرائها وأضحك حين تذكرني إذا ناقشتها في ذلك بكفاحنا أو عندما تقول لي  تريد لغيرك أن يكون وحيد "البنطلون والبلوفر" أو وحيدة "الفستان" كما كنا في شبابنا ؟!

 

لقد زادتها النعمة صفاء على صفاء وحبًا للدنيا والناس .. وحين عرضت عليها ذات يوم أن تستقيل من عملها وتتفرغ للبيت رحبت بذلك استجابة لطلبي وقالت لي أنه ليس لها أي طموح سوى أن تسعدني وتسعد معي بقية أيام حياتنا ، وفعلاً استقالت غير نادمة وزادت حياتي بهجة بتنظيم أموري وعملي الذي توسع بعد أن تعاملت مع المحلات التجارية وأصبحت مصمم ومنفذ ديكور مطلوبًا في السوق .. وأصبحت هي تشاركني في عملي .. فترسم وتصمم وتشارك في التنفيذ .. وذوقها ممتاز ودائمًا أستشيرها في أعمالي .

 

ثم نأتي إلى المشكلة .. وهل تخلو حياة من مشاكل يا صديقي كما تقول دائمًا ؟

إن المشكلة التي لابد أنك فهمتها هي أننا مازلنا بعد 14 عامًا من الزواج "عروسين" نتبادل الحب والإخلاص والاحترام ولكننا وحيدان تمامًا بلا أطفال وبلا أمل فيهم ! فلقد شُغلنا بحبنا وسعادتنا وكفاحنا خلال السنوات الخمس الأولى من الزواج فلم نلتفت إلى أننا لم نرزق أطفالاً .. ثم بعد أن استقرت أحوالنا المادية وانتقلنا إلى الشقة الجميلة بدأنا نواجه تساؤلات الأصدقاء لكني لم أكن قلقًا بسبب ذلك .. حتى لاحظت أن زوجتي قد بدأت تشرد أحيانًا بعيدة عني .. وحين سألتها صارحتني بأنها قد فحصت نفسها وأن الطبيب قد قال لها أنه لا أمل في الإنجاب .. وصدقني أني لم أهتز لذلك .. وقد وجدت فيها الأم والزوجة والابنة والابن ولست أحتاج معها إلى شيء آخر .. مادامت هذه هي إرادة الله . ونسيت الأمر كله .. حتى جاء يوم وجدت بالصدفة في دولابها فستانًا واسعًا من الفساتين التي ترتديها الحوامل .. لم تكن قد أشارت إليه معي من قبل .. فأدركت أنها تحن إلى أن تكون ككل الزوجات حاملاً وأن ترتدي هذا الفستان الواسع لكي تختال به .. وأدركت عمق المشكلة لديها وحزنت لذلك وحاولت التخفيف عنها بانتهاز الفرص لكي أقول لها في كل حين أنني سعيد بحياتي معها وأن نشأتي كطفل وحيد يتيم قد نفرتني من الأطفال .. وأنني لا أطيق "دوشتهم" ومشاكلهم .. إلخ فتسمعني باهتمام وشك كأنها لا تصدقني .. ثم تبتسم وتقبلني وتقول لي ساهمة : ظننت أنك تحب الأطفال وتريدهم ! فأقسم لها على عكس ذلك .. ثم ننسى الموضوع كله إلى أن تأتي مناسبة أخرى وهكذا .

 

ولقد جاءت المناسبة هذه المرة على غير قصد منّي .. إذ كنت أستعد معها لركوب سيارتي من أمام بيتي فوجدت مجموعة من أطفال العمارة يلهون حول السيارة وفوقها .. فداعبتهم وداعبتهم هي معي ثم دعتهم زوجتي للركوب معنا في جولة حول العمارة فركبوا متصايحين وانحشروا في السيارة وطلبت مني التجول بهم قليلاً وهي تضحك وتلاعبهم وبعد أن أنزلناهم وواصلنا طريقنا كانت سعيدة ضاحكة .. لكنها بددت سعادتي فجأة باقتراح غريب ، فهل تدري ماذا اقترحت عليّ زوجتي ؟ لقد قالت لي أنها لا تريد من الدنيا سوى سعادتي .. وأنها تأكدت من حبي للأطفال من خلال ملاحظات عديدة وأنها لا تريد حرماني من شيء أريده بسببها .. لذلك فهي تقترح عليّ أن أتزوج زوجة أخرى لأنجب منها طفلاً يحقق رغبتي .. على أن تستمر في حياتنا الزوجية السعيدة معًا ! .. ظننتها تمزح .. لكنها أكدت لي أنها جادة ، وعادت إلى نفس الحديث بعد أيام بجدية تامة مؤكدة لي أنه من الأفضل لها أن يتم ذلك بموافقتها بدلاً من أن يتم في الخفاء بعيدًا عنها .. وأنها لن تحس بأي غضاضة في ذلك لأن ما يهمها هو سعادتي .. كما أن إمكانياتي الآن تسمح لي بفتح بيت آخر وحبذا لو كان قريبًا من مسكننا لكيلا أتشتت بينهما .. وأن كل ما تطلبه مني هو أن أكون عادلاً في الحياتين والبيتين !

 

لقد رفضت هذا الاقتراح لكنه أزعجني .. لأنه كشف لي عن عمق المشكلة .. ولم أعد إلى الحديث فيه من جديد .. حتى أثارته منذ أيام وطالبتني بالتفكير فيه بجدية وحين رفضت شارحًا أسبابي أصرت .. حتى اقترحت عليها تخلصا من الموقف أن نحكمك بيننا .. وها أنذا أفعل .. وأطالبك بأن تقول رأيك بصراحة .. مع العلم بأني لا أشعر بحاجتي إلى الأطفال وقد أعطتني الحياة هذه الشريكة المحبة .. وهذا النجاح .. وهذه السعادة حتى لقد استعرضت معها أحوال بعض زملاء الدراسة القدامى الذين أصبحوا من المشاهير الآن، وبعضهم أنعم الله عليه بالإنجاب لكن حياتهم ممزقة، وبعضهم تزوج أكثر من مرة .. والبعض دفع ثمن النجاح من صحته وتعاسته الشخصية .. والبعض الآخر تهدمت حياته الزوجية وتمزق الأبناء بين الآباء والأمهات .. لكنها مازالت متشككة .. فماذا تقول لي ولها ؟

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 

ولماذا يا صديقي تفسد الأحلام الجميلة بالبحث عن العذاب ؟

إنك تعيش معها حلمًا جميلاً من أحلام السعادة الزوجية وكلاكما محفور في قلب صاحبه بنقوش عميقة من الذكريات وقصص الكفاح وروابط التفاهم العميق والإيثار .. فلماذا تفتحان على نفسيكما أبواب الجحيم ؟

إنني أصدقك وإن خالفني البعض في ذلك حين تقول لي أنك سعيد في حياتك كما هي الآن وراضٍ بها ولا تحس برغبة حقيقية في هدم السعادة جريًا وراء الإنجاب، مادامت هذه هي إرادة الله ولا راد لإرادته ، أصدقك يا سيدي لأن لكل حال جمالها كما لكل حال أيضًا مشاكلها .. ولأن كثيرين غيرك يستطيعون العيش بغير الإنجاب ولا يفرطون في شريكات العمر لهذا السبب وحده أبدًا ولا غرابة في ذلك .. ألسنا نرى في الحياة عديدين يستطيعون الحياة بلا زواج من الأصل ؟

فما وجه الغرابة إذًا في أن يكتفي مثلك بهذه الزوجة الرائعة المتفانية في إسعادك إلى حد التطوع بإكمال ما تعتقده نقص في حياتك باقتراح زواجك من غيرها ؟

 

إن المشكلة ليست مشكلتك أنت يا سيدي .. لكنها في رأيي مشكلة زوجتك التي تعاني من قلق كامن على سعادتها، ومن خوف شديد من ضياعها .. لذلك فهي "تدافع" عن سعادتها بهذا الاقتراح كأنها تتعجل مواجهة المشكلة قبل أن تفاجأ بها وهي غافلة عنها !

إنها تتصور أن هذه الرغبة كامنة داخلك أنت .. وتحاول مساعدتك على إظهارها .. وتعفيك مقدمًا من أي شعور بالذنب تجاهها وهي في ذلك سيدة عظيمة بكل معاني الكلمة .. لكنها تظلم نفسها كثيرًا بلا داعٍ، و"اختباراتها" المتكررة لاكتشاف مدى حبك للأطفال عذاب لا مبرر له .. لأن رضانا عن حياتنا بلا أطفال أحيانًا لا يعني أبدًا أن نكرههم لأن حب الأطفال شعور إنساني طبيعي سواء أكنا محرومين منهم أم غير محرومين ولا يعني حبنا للأطفال أننا نريدهم جميعًا أبناء لنا .

ثم لماذا ننظر  دائمًا إلى المستقبل هذه النظرة الحزينة الخائفة غير الآمنة على سعادتنا ؟ أليس عجيبًا أننا لا نكاد نقترب من أي إنسان تمضي حياته بلا مشاكل درامية ظاهرة حتى نكتشف داخله أعماقًا حزينة خائفة من المستقبل ؟ لقد أصبحت أشك دائمًا في أن هذا الميل الغريزي للحزن داخلنا هو من ثمار تربية خاطئة في بيئات أسرية حزينة تستجيب لدواعي الحزن بأكثر مما تستجيب لدواعي السرور وتستغرب السعادة وتتوقع لها دائمًا نهايات مأساوية .. بل وتتوجس من السرور خوفًا مما سيليه من أحزان .

 

ألسنا جميعًا شركاء بشكل أو بآخر  في هذه النظرة الحزينة الخائفة ؟ وألسنا جميعًا شركاء في هذه الجريمة التي تسرق أيامنا بغير أن ندري وتبددها في المخاوف والأحزان غير الجدية .

إن زوجتك  خائفة على سعادتها معك يا صديقي وتحاول أن تدفع عن نفسها هذا الخوف وهذا القلق وعلى مستقبلها معك بهذا الاقتراح فطمئنها على سعادتها وعلى نفسها وأكد ها أن كليكما مشدود للآخر بحبل سري لم ينقطع ولن ينقطع بإذن الله .. فإذا كانت هي تحس بالحنين إلى الأطفال فما أسهل أن ترعى طفلاً يتيمًا محرومًا تفرغ فيه أمومتها المكبوتة وتخدم به الحياة وتخفف من بعض آلامها ، أما إذا كانت لا ترغب في ذلك فلتواصلا حياتكما كما هي .. ولتستمتعا بما بين أيديكما من أسباب للسعادة .. لأن "لكل شيء إذا ما تم نقصان" كما يقولون ولأن لكل إنسان حظه في الحياة ، ولأن الحظوظ تتفاوت دائمًا بين البشر فتعطي الدنيا لإنسان شيئًا وتسلبه شيئًا .. وتعطي للآخر أشياء وتسلبه أشياء أخرى فتتساوى الأقدار دائمًا في النهاية وإن بدا لنا غير ذلك.

 

لقد أعجبني منطقك وأنت تذكّرها بحال بعض زملاء الدراسة من المشاهير الذين تجرعوا التعاسة رغم وجود الأبناء .. ولو شاءت هي لقصصت عليها عشرات القصص من هذا النوع ، لكنها لا تحتاج إلى ذلك لأنها تعرف تمامً أن ثروتها من السعادة لا تقدر بمال .. لكنها فقط خائفة .. والخوف قد يدفع الإنسان للمبادأة بالهجوم دفاعًا عن نفسه .. كما فعلت هي باقتراحها هذا .. لذلك فإني أطمئنها نيابة عنك إلى أنه لا أساس لمخاوفها هذه ولا مبرر لها وأؤكد لها مرة أخرى أن علينا دائمًا أن نسلم بإرادة الله ونشكره على ما أعطانا وأن نصبر على ما يشقينا ، فإذا فعلنا ذلك تصبح "المخاوف كلهن أمان" كما يقول الشاعر .. وكما أتمنى لكما دائمًا بإذن الله.

رابط رسالة ألسنة اللهب تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات