الشئ الغامض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 الشئ الغامض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

الشئ الغامض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994 


الضمير الحي قد تصيبه أحيانًا غاشية فيغفو قليلاً أو يتغافل لكنه لا يموت أبدًا، ليستعيد عافيته – بعد قليل – ويحاسب نفسه عن اختياراتها ، ويردها إلى الصواب.

عبد الوهاب مطاوع

 

أنا سيدة نشأت في أسرة متوسطة بين أبوين فاضلين وشقيقين يكبرانني، وعشت حياتي في هدوء حتى التحقت بكلية مرموقة ، وتقدمت في سنوات التعليم الجامعي حتى قاربت على نهايتها دون أن يجذب نظري أحد من زملائي أو يخفق قلبي لأحد برغم أني قد تعرفت ببعض الزملاء وتشاركنا في بعض الرحلات والأنشطة الجامعية.

 وفي عامي الأخير بالجامعة ، اقترب مني أحد الزملاء أكثر من غيره .. وأحسست باهتمامه الخاص بي، وبإحساس طالبة جامعية توشك أن تودع الجامعة وتستشعر القلق لعدم ارتباطها بمشروع زواج مع أحد وجدت نفسي أكثر استعدادًا لتقبل اهتمامه بي عن السنوات الماضية .. ويومًا بعد يوم بدأت أستجيب لمشاعره .. إلى أن فاتحني برغبته في الارتباط بي قبل امتحان العام الأخير بأيام .. ووجدت كل ظروفه ملائمة فهو مثلي من أسرة متوسطة ، ووالده موظف محترم ووالدته ربة بيت من أسرة طيبة ، وله شقيقتان أصغر منه .. وهو إنسان جاد ومستقيم ومتفوق في دراسته ويتصرف مع الجميع برجولة .

 

 وبعد أداء الامتحان وظهور النتيجة ونجاحنا معًا اتصل بي في بيتي يطلب موعدًا لزيارة أسرتي ، وجاء مع أسرته وطلب يدي وخلال فترة الخطبة تفتحت مشاعري الحقيقية له، وأحببته بجنون ووجدته إنسانًا طيبًا وعطوفًا ومتيمًا بي ، وتعاونا معًا على تكاليف الزواج بغير إرهاق لأحد الطرفين وعمل خطيبي بسبب تفوقه في وظيفة مناسبة لتخصصه بإحدى الهيئات وعملت أنا في هيئة أخرى في نفس التخصص بعده بقليل ، وبعد عامين من الخطبة تزوجنا وانتقلنا إلى عش أحلامنا السعيدة ، وأنجبت طفلتي الأولى بعد عام من الزواج ثم أنجبت طفلين بعدها ، وأصبحت أسرتنا الصغيرة هي واحة زوجي التي لا يرتاح إلا فيها ، وبالرغم من معاناتي في الجمع بين عملي وبين رعاية الأطفال الثلاثة وهم في أعمار متقاربة ، فقد حرصت دائمًا على ألا أقصر في واجباتي تجاه زوجي العاشق الذي لا يكف عن إعلان حبه لي في كل مناسبة ، وفي وسطنا العائلي وبشكل كثيرًا ما أسعدني وأثار فخري واعتزازي ، فحرصت دائمًا على ألا أبدو أمامه إلا في أجمل صورة وأنا جميلة إلى حد كبير والحمد لله ، وحرصت على الاستجابة لكل اللمسات الشاعرية التي يحبها زوجي ويرتاح إليها وعلى تلبية كل دعوة منه للخروج وحدنا في المساء لتناول الطعام .. أو زيارة  الأصدقاء .. أو حضور حفلة أو مناسبة ، أو حتى المشي فوق كوبري 6 أكتوبر وتناول الآيس كريم في أي محل في الطريق فأودع أطفالي الثلاثة بيت أمي .. وأرتدي أجمل ملابسي وأخرج معه وألحظ بسعادة سروره وفخره بي ، وارتياحه لوجودي معه .

 

 وحين كبر الأطفال وتحسن دخلنا .. حرصت على الاستعانة بشغالة بأجر اقتطعته من مرتبي .. لكي تخفف عني متاعب البيت وتتيح لي وقتًا أطول لقضائه مع زوجي الذي لم أعرف رجلاً غيره في حياتي ، وتعودت ألا أخفي عليه شيئًا من شئون عملي أو أسرتي ، وكان هو أيضًا لا يخفي عليّ شيئًا ، ويصارحني بكل صغيرة وكبيرة في حياته ، حتى أنظر للحياة بعينيه وأكره من يكرههم وأحب من يحبهم .. وأعرف عن زملائه وعمله كل شيء .. وأعرف من يدبرون له الدسائس في عمله .. ومن يتعاملون معه بشرف ، وأعيش معه كل مشكلة من مشكلات العمل بتفاصيلها حتى تنتهي وأشد من أزره وأنصحه بما أراه في صالحه .. وأوفر له الجو الهادئ للعمل في البيت وأبعد عنه الأطفال حين ينشغل بعمل إضافي ، وبسبب كفاءته وجديته في العمل ارتقى فيه سريعًا .. وحقق لنفسه مركزًا مرموقًا ، وتقدمت أنا أيضًا في عملي لكني لم أحقق فيه ما حققه هو في عمله من نجاح بسبب كفاءته وكفاحه فسبقني في الترقية للمنصب الأعلى ، وأصبحت له غرفة مكتب مستقلة وسكرتيرة ومساعدون .

 

ومضى خمسة عشر عاما على زواجنا حققنا خلالها أكثر ما حلمنا به لأنفسنا من نجاح وحب وسعادة ، فانتقلنا إلى شقة جميلة في حي آخر ، وأعدنا تأثيث مسكننا بما يتلاءم مع مركزنا الاجتماعي الجديد ، ورأيت أن وضعه قد أصبح يفرض عليه أن يمتلك سيارة ملائمة .. فبعت مصوغاتي واقترضت مبلغًا من شقيقي الأكبر ودفعت ما جمعته كمقدم لسيارة اشتريتها باسمه على أن يدفع هو أقساطها .. وفاجأته بالخبر عند توقيع العقد .. ولم أقبل اعتراضه على شراء السيارة باسمه ، وأصررت على ذلك وسافرنا بها إلى المصيف .. وأصبحنا نخرج بها معًا في الأمسيات .. ونذهب إلى النادي وبيت أسرتي .

 

وفجأة يا سيدي وجدت زوجي العاشق يبدي فتورًا عجيبًا نحوي ، فلم يعد الزوج المحب الذي عرفته ملهوفًا عليّ منذ فاتحني برغبته في الارتباط بي في عامنا الأخير بالكلية ولم يعد الصديق العطوف الذي لا يستريح في مكان إلا إذا كنت إلى واره فيه ، وبدأ يتأخر في العودة للبيت ، ويمضي معظم ساعات اليوم في العمل .. ويخرج في المساء كثيرًا ويعتذر عن اصطحابي معه بأعذار مختلفة .

وحرت في فهم أسباب تغيره تجاهي ، وراجعت تصرفاتي معه عسى أن أكون قد أغضبته في شيء فلم أجد فيها ما يبرر هذا التغير إذ لم نختلف على شيء ولم تشهد حياتنا طوال 15 عامًا سوى بعض الخلافات العابرة البسيطة التي لا تخلو منها حياة زوجية ، ولم يطل خلاف منها عن بضع ساعات يبدأني بعدها بالاعتذار أو الكلام أو أبدأه أنا به ، أما الآن فقد حلّ الفتور والصمت بيني وبينه بلا سبب واضح ، وأصبح لا يبدأني بكلام .. ولا يتحدث معي إلا إذا بدأته بالحديث ، ويبدو مهمومًا بشيء غامض ومحرج لسبب لا أدريه وتوقعت أن يفاتحني بما يشغله .. فلم يفعل فسألته عما به فلم يجبني سوى بأنه مهموم بمتاعب العمل وبأنني قد تعودت على أن يعزف لي باستمرار أنغام الحب فإن توقف عنها للحظات لانشغاله بهموم العمل أو الحياة تصورت أنه قد تغير ، ولم أقتنع بهذا التفسير ومع ذلك فقد تظاهرت بقبوله ، وتعاملت معه بطريقة طبيعية .. وإن كنت لم أكف عن محاولة اكتشاف أسباب تغيره ، وبعد مفاتحتي له بأيام طلب مني زوجي لأول مرة منذ زواجنا أن يبيت في غرفة مستقلة لأنه يريد أن ينفرد بنفسه لفترة من الزمن وبرغم تألمي لهذا الطلب الغريب إلا أنني وافقته عليه على أمل أن يساعده ذلك على استعادة نفسه ، والعودة لحالته الطبيعية .

 

 واضطررنا " لإيجاد غرفة نوم جديدة في مسكننا" إلى أن نقسم غرفة الأولاد إلى قسمين بحاجز من الخشب وإلى شراء فراش ودولاب جديدين ، وأصبحت لزوجي غرفة نوم مستقلة انتقل إليها ، وواظب على النوم فيها بعيدًا عني .

ودام هذا الحال بضعة شهور لم يقترب خلالها مني بأي شكل من أشكال الاقتراب ، ولم نخرج معًا إلى سهرة عائلية .. وظل زوجي خلالها مهمومًا بالشيء الغامض الذي لا أعرف كنهه ، ويتفادى التقاء نظراتنا وأشعر بأنه يعاني من إحساس بالخجل مني . وأدركت بغريزة المرأة أن هناك "أخرى" قد ظهرت في حياته ، وأنه يعاني من التمزق بيني وبينها ويحس بالذنب تجاهي ، ولأني أعرف زوجي جيدًا وأعرف أخلاقياته واستقامته وتدينه فلقد أدركت عمق أزمته وهو الإنسان الجاد المستقيم الذي لا يعرف الخداع .. ولا يستطيع التظاهر بغير ما يحس ، ولا يستطيع "العبث" مع أي امرأة لتدينه وخوفه من ارتكاب معصية ، فإذا كان قد "عرف" فتاة أو سيدة أخرى .. فلابد أنه قد وقع في غرامها ويحاول أن يجد مخرجًا من أزمته بطريقة شريفة ، وفكرت ماذا أستطيع أن أفعل لأنقذ سعادتي من هذا الهجوم الغادر عليها .. وبدأت أتقصى أخباره بحذر .. فإذا بي أعرف أن قصته شائعة في جهة عمله وعلى ألسنة زملائه الذين يتأسفون لما أصابه من اضطراب لا يليق برجل جاد مثله ، ويروون كيف أن فتاة تصغره ب 17 عامًا قد عينت منذ عام بإدارته .. ونصبت شباكها حوله لما رأته من سمعته الطيبة ومكانته في العمل .. فبدأت تبدي اهتمامها به .. وتستشيره في مشكلاتها الخاصة .. ثم طلبت مساعدته لها في امتحان القسم الأول من الماجستير فساعدها بشهامته المعروفة عنه حتى نجحت في الامتحان وبدأت تعد رسالتها ، ثم صارحته بأنها قد أحبته ، وترى فيه بأنه فتى أحلامها برغم أنه متزوج وأب لثلاثة أبناء .

 

وعلمت أن زوجي قد قاومها في البداية طويلاً ، وحاول تحديد علاقته بها في إطار العمل .. ثم انهارت مقاومته .. وأصبحت هذه الفتاة التي لا ضمير لها هي شغله الشاغل التي يخرج معها لقضاء مصالحها وحل مشكلاتها الكثيرة .. ويذهب معها إلى كليتها ليوصي عليها زملاءنا القدامى الذين ساروا في سلك التدريس الجامعي ، واضطربت أحواله في العمل .. وفي البيت .. وفي كل مكان . ووقفت مندهشة أمام ما سمعت .. وأصارحك بأنني لم أغضب من زوجي لانزلاقه في هذه القصة بقدر ما غضبت من هذه الفتاة المستهترة التي لم تتورع من إغواء زوج وأب لثلاثة أطفال ورجل معروف في عمله بالاستقامة والجدية ، إرضاءً لرغباتها وأطماعها الحقيرة .. وقررت ألا أتخلى عن زوجي في محنته وبذلت كل جهدي لأن أستعيده بغير أن أحرجه أو أسئ إليه ، أو أجرح مشاعره ، وتشاورت مع شقيقيّ اللذين يحبانه ويحترمانه فيما أفعل واتفقنا على أن أحاول اجتذابه إليّ ليعود كما كان مع محاولة إبعاده بقدر الإمكان عن هذه الفتاة وعانيت الكثير لكي لا أجرح مشاعره أو أثور عليه وهو يعود إليّ في المساء بعد يوم طويل أمضاه معها .. فيتفادى نظراتي إليه ويجلس مع أولاده مطأطئ الرأس ويتشاغل بالحديث معهم لدقائق .. ثم ينسحب لغرفة نومه بدعوى أنه مرهق وسينهض من النوم مبكرًا .

 

 وبرغم جرحي الشخصي منه فقد احتفلت بعيد ميلاده وقدمت له سلسلة مفاتيح ذهبية محفورًا عليها تاريخ اليوم الذي اعترف لي فيه بحبه ونحن طالبان بالسنة النهائية في الجامعة تقبلها شاكرًا وهو خجلان وأخيرًا ضقت بصبري وانتظاري فقررت مواجهة غريمتي لإقناعها بالبعد عن زوجي والاختفاء من حياته ، وتحايلت حتى حصلت على رقم تليفونها ، واتصلت بها وحادثتها بكل رقة ورجوتها أن تبتعد عن زوجي وألا تحرم أبناءه منه وألا تلعب بمشاعره وهو الرجل الصادق الذي لا يعرف الخداع وهي الفتاة الصغيرة التي تستطيع أن تجد بسهولة من يحبها ويتزوجها دون أن يكون مثقلاً بزوجة وأبناء ، وبكيت وأنا أكلمها وأرجوها فلم تجبني بكلمة مريحة واحدة ولم تزد إجابتها على كلمات من نوع : ولماذا لا تقولين له هو هذا الكلام ؟ أو : وماذا بيدي أن أفعل هل أضربه وأرغمه على العودة لك ؟

 

ولم أجد جدوى من الحديث معها فأنهيت المكالمة شاكرة ومعتذرة لها عن إزعاجها .. وفي اليوم التالي رأيت وجه زوجي يتضرج بالاحمرار كلما نظرت إليه ، فكدت أثور عليه وأنفس عما في صدري لكني أشفقت عليه من خجله وحرجه وانكساره أمامي فلم أفعل ، وبرغم يأسي منها فقد كررت معها المحاولة مرة أخرى فكانت أكثر جرأة عليّ من المرة الأولى ، وقالت لي بوقاحة تُحسد عليها إن زوجي ليس "سعيدًا" معي .. وإنني لم أسعده ، ومن حقه أن يبحث عن سعادته حيث يجدها ، فوضعت السماعة وأنا أشعر بالحمى ، وبالفعل مرضت بعدها وارتفعت درجة حرارتي وأمضيت يومين عليلة في الفراش واساني خلالهما زوجي وهو يتفادى نظراتي أيضًا .. ووضع يده على جبهتي ليجس حرارتي فكانت المرة الأولى التي يلمسني فيها منذ عام طويل !

 

وتكررت بعد ذلك أزماتي الصحية .. وأصبح الصداع وارتفاع ضغط الدم يلازماني بصفة شبه دائمة .. ولاحظ أهلي سوء حالتي الصحية والنفسية .. فبدأ شقيقاي يطالباني بحسم موقفي من زوجي حتى لا أظل فريسة للمرض بلا طائل وعرض عليّ شقيقاي الأمر بصورة واضحة .. فإما أن أستمر في حياتي مع زوجي من أجل الأبناء ولكن دون معاناة نفسية وصحية إلى أن يعود إلى رشده حين يأذن الله له بذلك ، وإما أن أواجهه وأطلب الانفصال منه .. وأتزوج غيره إذا رغبت في الزواج ولن يكون الأبناء مشكلة في طريق زواجي لأنهم جميعًا فوق سن الحضانة وسيكون زوجي ملزمًا برعايتهم . وفكرت في الأمر طويلاً .. فلم أتوصل إلى حل مريح فلا أنا قادرة على الاستمرار في هذا الوضع مع تجنب المعاناة النفسية كما يطالبني شقيقاي ولا أنا قادرة على اتخاذ قرار المواجهة والانفصال وبدء حياة جديدة من رجل آخر غير زوجي الذي لم أعرف رجلاً سواه ولم أحب رجلاً سواه ولا أتصور أن تكون في حياتي رجل غيره بعد أن بلغت الثالثة والأربعين منذ أيام ، ولا زوجي الغائب الحاضر يعود من "غيبته الطويلة" ويرجع كما كان زوجًا وعاشقًا وأبًا مثاليًا لأولاده .

 



 

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 

لزعيم الهند الفيلسوف المهاتما غاندي عبارة حكيمة تقول إن من يسيطر على نفسه يصبح حرًا كملك الغابة وتخترق نظراته الحادة عدوه ! وهذا صحيح تمامًا يا سيدتي .. فلقد فقد زوجك سيطرته على نفسه إزاء هذه الفتاة الجريئة ففقد معها حريته .. ولم تعد نظراته تردع أحدًا وتبعده ! ويبدو أنه – وهو الرجل الصادق مع نفسه – قد تحول بطوفان المشاعر العاطفية المتأجج دائمًا في داخله والذي طالما أغرقك به من قبل إلى هذه الفتاة الصغيرة ، وسلم قياده لها بعد طول تردد أمام الاعتبارات الاجتماعية والعائلية المألوفة .

 

وربما يكون أحد هذا الانهيار المفاجئ أمام الإغراء هو أن الأخرى هي التي قد "بادرته" بمشاعرها سواء أكانت صادقة أو مزيفة ، فأتاحت له أن يمارس إحساسًا لم يجربه من قبل وهو أن يكون "محبوبًا ومطلوبًا" لا محبًا وطالبًا كما كان معك في بداية قصتكما معًا ، حتى تفجرت شرارة الحب في قلبك تجاهه ، وربما أيضًا في مجمل علاقته بك والرجل يا سيدتي خاصة في محنة منتصف العمر قد يفقد سيطرته على نفسه أمام من تشعره بأنها تحبه "لشخصه" الفريد ، وليس لأية اعتبارات عائلية أو مسئوليات أسرية وبأنها تتحدى الصعاب للفوز به .. وتواجه سخط الآخرين من أجله .. فيراجع نفسه مختالاً وطروبًا بما يرى ويلمس .. ويرى "منصفًا" أن الأخرى تقدم له أدلة عملية على صدق مشاعرها تجاهه وتضحيتها من أجله فيقتنع بها بعد الرفض وقد يحمل لها في البداية نوعًا من الإحساس بالعطف .. أو الاعتزاز "بحبها" له ثم يغرق تدريجيًا في حبها .. ولا يمضي وقت طويل حتى يفقد سيطرته نهائيًا على نفسه ، ويسلم إليها زمامه .. ثم يدفع ثمن تجربته وضعفه غاليًا من سعادته الحقيقية وسمعته واحترام الآخرين له .. وأيضًا من احترام أبنائه وحبهم له .

 

وليس من الغريب أن تصادف هذه المحنة أيضًا حتى من يتعذر عليهم أن يجدوا مبررًا للوقوع فيها من تعاسة زوجية أو خلاقات مستديمة مع شريكة العمر كما يبرر البعض لأنفسهم وقوعهم في هذا الشرك بمثل هذه المبررات ؛ فالنفس البشرية لغز لم تفك بعد كل طلاسمه .. والإنسان ضعيف دائمًا أمام من يطارده بمشاعره الصادقة أو المزيفة فيحرك فيه الرغبة الكامنة في الاستمتاع بحب الآخرين له وتقدير الذات نتيجة لذلك والاعتزاز بها والإحساس بتميزها وتفردها .. والمغريات كثيرة حول الجميع رجالاً ونساءً دائمًا .. فلماذا إذًا يضعف البعض أمام نداء الإغراء .. ويصمد له آخرون حتى النهاية ؟ ..

 

ليس هناك من تفسير لذلك سوى اختلاف قدرات البشر على السيطرة على أهوائهم ورد النفس عما لا يحق لها أن تفعله حتى ولو كان يلذ لها ويطيب ، وأيضًا في اختلاف نظرة الأشخاص إلى السعادة وحقهم فيها ، فمن البشر من لا يريدون على تصرفاتهم أي قيد في طلب سعادتهم حتى ولو ترتب عليها شقاء الآخرين ، ومنهم – وهم الأغلبية العظمى من البشر والحمد لله – من لا يسمحون لأنفسهم بطلب سعادتهم على حساب شقاء الأعزاء .. وواجباتهم تجاههم ، وعشرات الاعتبارات الأخرى . ولهذا فلابد دائمًا من مغالبة النفس وردها عما لا يليق بها ولا يحق لها أن تطلبه بغير مراعاة لاعتبارات الآخرين .

 

والواضح أن هذه الفتاة الجريئة ممن لا يريدون على تصرفاتهم أي قيد في طلب السعادة .. وأن زوجك على الناحية الأخرى مازال يعاني من تمزقه بين واجبه تجاهك وتجاه أبنائه وبين ما يتصور أنه "الحب الناضج" الذي صادفه في سن الرجولة والكمال وقد لا يصادفه بعد ذلك إلى نهاية العمر إذا تركه يفلت من بين يديه كما يقول بعض الرجال والنساء لأنفسهم في مثل هذه الحالة . وهذا التردد نفسه علامة طيبة على أنه لم يحرر إرادته بعد من كل القيود الإنسانية والعائلية والاجتماعية ، وينطلق وراء ما يتصور فيه سعادته كما يفعل من لا تحركهم سوى أهوائهم .

 

ولأني أستشعر في رسالتك عمق حبك واحترامك له بل وإشفاقك عليه أيضًا مما يعانيه ، فإني لا أرى لك الانسحاب من حياته .. وتسليمه هدية خالصة الثمن لهذه الفتاة الجريئة على الأعراف والتقاليد ، إذ لن يستفيد من هذا الانسحاب سواها .. ولن تتردد – مع قدرتها على الخروج على المألوف – عن أن تحل مكانك في بيتك .. وبين أبنائك ، وإنما أرى لك أن تساعدي زوجك على الشفاء من مرضه الغامض بهذه الفتاة وهو في سن الحكمة والنضج ، وأن تواصلي الوقوف إلى جواره وتعينيه على اجتياز هذه المحنة التي تهدد صورته في أعين أبنائه الثلاثة !

 

ولقد احترمت فيك كثيرًا تعففك عن جرح مشاعره وإهانته وإحراجه احترامًا لتاريخه السابق معك .. والحق أنه يحتاج إليك الآن بأكثر مما كان في أي وقت مضى ، ولولا أني أخشى أن تؤدي المواجهة الصريحة معه إلى إسقاط حاجز الخجل والإحراج الذي يمنعه من إعلان رغباته غير مبالٍ بآثار ذلك عليك ، لنصحتك بمواجهته بالموقف كله مواجهة صريحة ، ومطالبته بقطع كل صلة له بهذه الفتاة ونقلها من إدارته ، وتخييره بينك وبينها .. لكني أخشى مع ظروفه وعمق أزمته إن نصحتك بذلك أن يساعده ذلك على التحرر من هذا الحاجز الأخير ، فيصارحك بما لا تودين سماعه ، لهذا فلن أنصحك هذه المرة بالمواجهة الصريحة الشاملة معه .. وإنما بالمواجهة عن بعد وبغير مصارحة كاملة ولا حديث مباشر يضع النقط فوق الحروف بلا مواربة مع الحفاظ على حاجز الخجل والحرج المفيد حاليًا في منع تدهور الموقف أكثر مما حدث .. وسأنصحك بأن تؤكدي له بوضوح لا يحتمل أي شك أنك لن تفرطي فيه أبدًا ليس لأنه والد أطفالك الثلاثة ، وإنما لأنه حب عمرك كله وشبابك وكل ما يربطك بالحياة الذي لا تتصورين لنفسك حياة بعيدة عنه .. وأن ترددي له دائمًا بأنك تثقين بضميره الذي سيهديه في الوقت المناسب إلى أن حبك له هو الحب الحقيقي المبرأ من الغرض والجدير بالحرص عليه أكثر من أي شيء آخر في الحياة ، وبذلك تنقلين عبء القرار ومسئوليته إلى ضميره هو وتحرميه بذلك من أن يجد مبررًا منطقيًا واحدًا يبرر به ظلمه لك وغدره بك وبأبنائك إذا أراد ذلك ، والضمير الحي قد تصيبه أحيانًا غاشية فيغفو قليلاً أو يتغافل لكنه لا يموت أبدًا وإلى النهاية بل دائمًا يستعيد عافيته بعد قليل ويحاسب صاحبه عن اختياراته في الحياة ويرده إلى الصواب ، وزوجك – كما فهمت من الرسالة – من أصحاب الضمائر الحية .. والطبع المستقيم ، لهذا فلن يطول شروده بعيدًا عنك ولن يطول "ذهول" قلبه أمام هذه الفتاة المقتحمة التي أنصحك بألا تتصلي بها أبدًا وألا تمتهني نفسك باستعطافها أو الحديث إليها ، فحل مشكلتك في يد زوجك وليس في يد أحد سواه .. ولأنك تحبينه وتحترمينه وتتمسكين به .. فلن تجدي غضاضة في أن تحاربي معركتك هذه بكل ما تملكين من حكمة ونضج وحب لحماية زوجك وإنقاذ سعادتك وسعادة أبنائك .. وسيكون الخيار لك في النهاية يا سيدتي.

 

 فإذا عجزت عن الاستمرار فيها لفترة طويلة أو إذا لم تؤت بثمارها المرجوة بعد وقت مناسب فلا لوم عليك في النهاية إذا اخترت الطريق الآخر والمواجهة العاصفة .. وطلب الانفصال ، لكني أثق أنك لن تحتاجي إليها وستكون الجولة الأخيرة لك في الصراع بينك وبين الغازية المقتحمة .. وسيعود طائر الحب والأمان ليرد في عشك بعد هذه المحنة الطارئة .. وكما كان الحال قبل هذه العاصفة .. بإذن الله

رابط رسالة الشئ الواضح تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1994

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات