الوجه الملائكي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا صديقة قديمة لك على الورق فقد سبق أن كتبت إليك منذ ثلاث سنوات من إحدى الدول العربية حيث كنت أقيم مع زوجي الحبيب لأرجوك أن تناشده أن يسمح لي بالعودة إلى مصر لأرى والدتي المريضة فلم تخيب رجائي وكتبت لزوجي بضعة سطور في ردود الخاصة كان لها أثر طيب في نفسه ووافق على نزولي إلى مصر في إجازة وشكرته أنا كثيرا وأضفت ذلك إلى رصيده عندي من الحب والاحترام .
وها أنذا أكتب إليك مرة أخرى لألجأ إليك في رجاء جديد أتمنى ألا تنكره علي أو تستغربه مني .. وقبل أن أبوح لك به سأحكي لك قصتي من البداية , فأقول : إنني في السابعة والثلاثين من عمري يقول عني الجميع أنني على خلق وأن وجهي مريح أو ملائكي كما يقولون وإن كنت لا أعتبر نفسي جميلة وقد تزوجت زوجي الحبيب الذي يكبرني بثلاث سنوات فقط بعد قصة حب جميلة وجمعت بيننا العشرة الطيبة والاحترام المتبادل وصدق المشاعر فوثقت الروابط بيننا إلى أقصى حد وزادها عمقا أن أنعم الله علينا بطفلين جميلين فسعدت بأسرتي الصغيرة ثم سافرنا إلى إحدى الدول العربية منذ سنوات , ونعمنا بالعلاقة الطيبة مع عائلتي وعائلته .. وأصبحت فترات الإجازة التي نعود فيها إلى مصر من أجمل أيام حياتنا ونقضيها وسط ترحيب الأهل ودفء مشاعرهم ونستمتع بكل لحظة نعيشها منها.
ومن بين أقاربي العديدين جمع الحب بوجه خاص بيني وبين فتاة صغيرة يعمل والدها في الخارج أيضا وتنتقل والدتها بين ابنتها وبين زوجها معظم شهور السنة , فأوليت هذه الفتاة رعايتي وحبي قبل سفرنا إلى الدولة العربية واعتبرني الأهل أما ثانية أو شقيقة كبرى لها وبعد أن أنجبت الطفلين لم تفتر مشاعري تجاهها وإنما ظلت الابنة أو الأخت المدللة لي إلى جوار الطفلين حتى كان والدها يستعين بي لاقناعها بما يريد لأنني أقرب الناس إليها , ثم حصلت هذه "الابنة" على الثانوية العامة والتحقت باحدى الكليات وتواصلت العلاقة الحميمة بيني وبينها .
وفي العام الماضي كان قد مضت 4 سنوات بغير أن يعود زوجي في إجازة إلى مصر ثم قرر أن يرجع إليها في إجازة لمدة شهرين .. وعدنا وطابت له الحياة في مصر بعد الغياب الطويل فطالت الإجازة وانتهى الشهران ولم يرجع زوجي إلى مقر عمله وبقي في مصر خمسة شهور كاملة يغالب نفسه للرجوع إلى مقر عمله ولا يقدر , وأخيرا استجمع إرادته وسافر إلى عمله متكدرا وكأنه يعود إلى الجحيم وليس بيتنا الجميل الهادئ الذي طالما نعمنا فيه بالحب والسعادة .
ومضت الشهور وهو شارد ساهم وقد تغير فيه شئ جوهري لكني فسرته بتأثير الغربة والبعد عن الأهل بعد أن تجدد لديه الحنين مرة أخرى لبلده خلال الإجازة .. ومنذ ثلاثة شهور وجدت أمامي حقيبته السوداء التي يحتفظ فيها بأوراقه الهامة ويغلقها بالأرقام السرية .. فدفعتني هواجسي إلى فتحها ولا أعرف لماذا .. فإذا بي أجد فيها صورا وخطابات غرامية تحكي بالتفصيل العلاقة الفاضحة التي نشأت بينه وبين الفتاة الصغيرة ذات التسعة عشر عاما التي طالما اعتبرتها ابنة لي فاذا بها تتطلع إلى زوجي وتخطفه مني !
وصرخت من أعماقي .. حين رأيت الصور وقرأت الخطابات التي تسترجع ذكريات الشهور الخمسة التي قضاها في مصر واللقاءات والهمسات إلخ .. وصرخت مولولة .. وسقطت على الأرض ونقلت إلى المستشفى وعولجت بالمهدئات .. وعدت لبيتي وقد أسودت الحياة في وجهي وفهمت سر بقائه في مصر خمسة شهور طويلة أمضاها إلى جوار الشيطانة الصغيرة وهو لا يستطيع البعد عن الجينز والجيبات القصيرة المفتوحة من الخلف , والبلوزات المفتوحة من الظهر حتى الرقبة , والبنطلونات التي تُلبس "بالصابونة" ! وباع حبي وأولاده ووقاره واحترام الجميع له .. والعجيب أنني كنت قد شعرت بأن شيئا فيه قد تغير بعد أيام من بداية هذه الإجازة المشئومة .. وأن الفتاة أيضا ليست طبيعية في تصرفاتها معه وابديت ملاحظتي هذه لزوجي فأنكرها .. وابديتها لها كذلك فنفتها عن نفسها بشدة واستسلمت لغفلتي واطمئناني حتى عرفت كل شئ من الحقيبة السوداء.
لقد واجهت زوجي بما عرفت فانهار واعترف بخطئه وطلب مني أن أسامحه واغفر له هذا الخطأ لأن "الشيطانة الصغيرة" هي التي أغرته واستدرجته لما حدث ..
لكني لم أستطع للأسف أن أكتم فجيعتي في زوجي الحبيب ولا في هذه "الابنة" العاقة , واصيب أهلي بالذهول حين علموا بما حدث وانقسموا إلى فريقين .. فريق يرى أن زوجي هو المسئول أولا وأخيرا عن هذه المصيبة , وآخر يرى أن هذه الفتاة العابثة هي المسئولة لها عن غواية زوجي .
وتأزم الموقف بين إخوتي وبين زوجي وبين الجميع .. ليس فقط لخيانته لي ولكن لأن الطرف الآخر أيضا من أفراد الأسرة .. ولم أحتمل البقاء معه في هذه الفترة العصيبة من حياتي فعدت إلى مصر منذ أسبوعين في إجازة واستقر رأينا على أن يعود بعدي وأن نعقد مجلسا عائليا يحضره إخوتي وأهلي ليفصلوا في الأمر وينتهي المجلس إما بالصلح وإما بالطلاق .
والرأي الذي لمسته بين إخوتي جميعا "وهم كلهم في مراكز مرموقة" هو أن زوجي لابد أن يطلقني تكفيرا عما فعل بي وبالأسرة كلها , وسوف ينعقد هذا المجلس خلال أيام قليلة والرجاء الذي حدثتك عنه في بداية الرسالة هو أني أريدك أن تكتب لإخوتي الكبار كلمة تناشدهم فيها أن يسامحوا زوجي عما فعل لأنه في النهاية والد أطفالي ولأنه معترف بخطئه وقد اقسم لي أنها غلطة عمره كما أنه لا يريد الانفصال عني ويبكي بالدمع ندما على ما فعل , وأنا أيضا يا سيدي لا أريد أن يتشرد أولادي وأبوهم على قيد الحياة .. صحيح أنني أحببته فجوزيت على الحب بالخيانة , لكن زوجي بشر في النهاية , وسيدنا يوسف عليه السلام قال عنه القرآن الكريم : "ولقد همت به , وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " وهو نبي الله , وزوجي بشر , وكيف كان يستطيع أن يقاوم اغراء افعى صغيرة عمرها 19 عاما قالت له أنها تحبه وتريد أن تعطيه قلبها ونفسها ! والله يغفر الذنوب فلماذا لا يغفرها البشر؟
صدقني يا سيدي أنني لا أكذب عليك في مشاعري ولا أتظاهر بغير ما أريد أو أحس .. فأنا مصدومة حقا في زوجي الذي أحببته وأخلصت له الود والعشرة منذ عرفته ومصدومة أيضا في هذه "اللعينة" التي أحببتها وربيتها منذ كانت طفلة صغيرة , لكن لأولادي حقا علي لابد أن أضحي من أجلهم بحقي عند زوجي رغم خطئه الفادح , وأرجو أن تكتب له أيضا أن يحافظ علينا كما نحافظ عليه وأنني لم أبع بعد حب العمر ولا عشرة السنين والله يهدي من يشاء وأرجو ان يساعدني في اقناع إخوتي بأن ما حدث لن يتكرر لكي تستمر الحياة بيننا ونربي أولادنا معا , وشكرا لك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـــاتــبة هــذه الـرســالــة أقـــول:
الحكمة في عبارة بسيطة هى : منع النفس .. واحتمال هذا المنع ! وبهذا المفهوم فإنك يا سيدتي بكل تأكيد من أصحاب القلوب الحكيمة التى تتعالى على هوى النفس وصغائرها وميلها الغريزي للانتقام ممن اساءوا إليها أو نقضوا عهودهم معها .. وتضعين مصلحة أبنائك فوق اعتباراتك الشخصية , وتنظرين للأمر كله ببصيرة تنفذ إلى ما يستحق الحرص عليه والدفاع عنه وتتجاوز عن عثرات الطريق التي لا تخلو منها حياة .. إن الملائكية التي يصفون بها وجهك لا تقتصر بذلك على ملامح الوجه فقط وإنما تمتد أيضا إلى الروح والنفس .. فمن طبائع الملائكة ألا تسمح للمرارة أن تفسد عليها مشاعرها الأصيلة عند أول بادرة جحود أو خطأ .. ولا تسمح لغضبها أن يحجب عنها سوابق الفضل أو رصيد العشرة أو حصاد السنين من العطاء ولو كان صاحبها قد زل زلة لا تغتفر .
والحب الصادق في النهاية يا سيدتي قلب غفور مستعد دائما لأن يلتمس العذر لمن يحب في أخطائه ولو كانت فادحة كأنما يقول مع الشاعر العربي :
إذا الحبيب أتى بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع !
ولاشك أنك قد غفرت لزوجك ما فعل بقلب الزوجة المحبة الذي تجاوز عن ذنبه .. وقبل شفاعة "محاسنه السابقة" أو التمسها له على الأقل , وليس فقط رعاية لحق الصفح والنسيان .. ولولا نعمة النسيان يا سيدتي لما اتصلت حياة بين رفيقين على ظهر الأرض ولما احتمل كثيرون طعنات الغدر أو زلات الرفاق .. ولولا مسئولية الأباء والأمهات عن سعادة أبنائهم ولو تحققت على حساب كثير من الاعتبارات الشخصية لانهدمت أسر كثيرة لم ينفرط عقدها من قبل إلا رعاية لحق هؤلاء الأبناء .
والمؤكد أن لك كل الحق في أن تغفري لزوجك ما فعل فأنت صاحبة الشأن الوحيدة في ذلك .. وصاحب الحق يملك أن يتنازل عن حقه أو أن يتمسك به ولا لوم عليه في كلا الحالين .. لكن هناك حقا "عائليا" آخر هو في تقديري سبب تشدد إخوتك في موقفهم من زوجك إلى جانب غضبهم لك ولما أصابك من خيانته , وهو حقهم عليه لعبثه مع فتاة صغيرة شديدة القرابة منك ومنهم , ومع تقديري لسماحتك وحكمتك , فإن تلك الشيطانة الصغيرة مهما كانت تستحق اللوم والادانة لاستهتارها وجحودها لك ولعدم التزامها الخلقي والديني , فقد نجد في صغر سنها وقلة تجربتها بعض ما يفسر هذا النزق وإن لم يبرره , لكن بماذا نستطيع أن نفسر عبث الرجل الرشيد الناضج مع مثل هذه الفتاة الطائشة ؟ وهل يكفي أن تقول أية فتاة عابثة لزوج وأب مسئول أنها تحبه وتسلم له قلبها ونفسها لكي ينسى مسئولياته ودينه وتنهار حصونه أمامها بلا أية مقاومة ! وأين مغالبة النفس وردها عما تشتهيه من أهواء ونزعات , وهما من "الجهاد" الذي يؤجر المرء عنه في نفسه وعرضه وأولاده واحترامه لنفسه واحترام الآخرين له ؟
إن الضعف البشري حقيقة إنسانية لا نستطيع انكارها أو تجاهلها , ومن كان منا بلا خطيئة فليرمه بحجر , لكنه حتى العبث إذا كان لا مفر منه فإن له أيضا "اخلاقيات" لو التزم بها العابث فإنه يخفف كثيرا من عواقب أخطائه وضعفه , ومن أبسطها ألا يعبث مع من كانت بمنزلة الابنة أو الاخت أو الصديقة من زوجته , وألا يطعن شريكة حياته في مأمنها فيضيف آلام الغدر والجحود إلى آلام الخيانة ومرارتها , وألا يعبث مع فتاة في حكم القاصر فيضيف إلى وزر العبث .. ثقل المسئولية عن افسادها حتى ولو كانت هي أكثر منه استهتارا .
إذن .. فليقض إخوتك في أمره كيف يشاءون فيما يتعلق بحقهم العائلي الذي اعتدى عليه , وليدعوا لك أنت أن تقرري ما تشائين لنفسك بشأن استمرار حياتك معه أو انقطاعهم مع عرفانك لهم وتقديرك لغضبهم لك ولكرامتك , وأرجو أن يكون في كل ما حدث وما سيحدث درس لزوجك لا ينساه في قادم الأيام , وأن يضيف موقفك منه ودفاعك عنه في هذه المحنة إلى رصيدك الكبير عنده , فيقدره لك ويرعى حقوقك وحقوق أبنائه عليه ما اتصلت بينكما حياة , كما أرجو أن تلهمة هذه المحنة البصر والبصيرة ليفرق بعد ذلك بين من تستحق ألا يفرط فيها أبدا أو يسئ إليها , وبين من لا يستحقون منه للحظة واحدة أن يخسر من أجلهم أمانه وحياته وسعادته الحقيقية وأحسبه سوف يفعل .. وسوف يستفيد من درس هذه التجربة كثيرا .. والله يهدي لنوره من يشاء حقا وصدقا كما قلت في ختام رسالتك .. وشكرا لك .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر