شئ من الحنان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

شئ من الحنان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

شئ من الحنان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أنا سيدة في الخامسة والثلاثين من العمر في السنة النهائية من دراستي بإحدى الكليات العملية .. تقدم لي شاب يكبرني بخمس سنوات عن طريق إحدى صديقاتي التي أثنت على أخلاقه وقالت لي عنه أنه على خلق وإنسان وحيد وفقد أبويه في عام واحد ويريد إنسانة متدينة تشاركه حياته وتعوضه عن فقد أبويه .. وكان لا يملك من إمكانيات الزواج الكثير .. ولا يملك سوى بيت ريفي قديم في بلدته ورثه عن والديه .. فقدرت أسرتي ظروفه وتعاطفت معه وتساهلت معه في الشروط المادية إلى أقصى حد واقترض خطيبي ثمن الشبكة من أحد أصدقائه وتم القران وتخرجت من كليتي وفتحت صدري لخطيبي وحدثته عن ظروفي العائلية التي تتمثل في زواج أبي من زوجتين وكيف أننا نعيش في مشاكل مستمرة عانيت الكثير بسببها حتى تخرجت ولا أريد من الدنيا سوى أن أحيا حياة آمنة بلا مشاكل .. وأكد لي خطيبي أنه سيعوضني عن كل ذلك بحبه وحنانه وأنه سيكون لي الزوج والأب والشقيق.

 وسعدت بذلك وقد توسمت فيه خيرا خاصة وقد لمست فيه حرمانه من الأم التي كانت تحنو عليه حنانا زائدا , وعمل خطيبي في إحدى الهيئات .. وبعد فترة قصيرة تعاقد للعمل في إحدى الدول العربية واقترض من شقيقي ثمن تذكرة السفر إليها وسافر إلى عمله الجديد وبعد فترة قصيرة أرسل يستدعيني لألحق به هناك , ووافقت الأسرة بعد قليل من المعارضة نظرا لأني سأتزوج بلا زفاف ولا فستان أبيض , لكني لم أتوقف عند هذه النقطة طويلا وسافرت إليه واستقبلني زوجي في المطار بحرارة واصطحبني إلى عش الزوجية الذي طالت لهفتي عليه .. فذهلت حين رأيته غرفة واحدة بها سرير حديدي صدئ لشخص واحد , وكرسي وثلاجة متهالكة ولا شئ سوى ذلك , ورغم هذا لم أكترث للأمر كثيرا إذ يكفيني أنني سأعيش مع من أحس معه بالأمان وسوف يعوضني بحبه وحنانه عن كل شئ آخر.

 

وبدأنا حياتنا الجديدة وبعد عام سدد زوجي لأخي قرضه ولأبي قيمة المهر الذي لم يدفعه , ولصديقه ثمن الشبكة الذي اقترضه منه , وتواصلت الحياة بيننا وانجبت طفلين ومضت الأيام بحلوها ومرها وكنا نعود إلى مصر في الإجازة السنوية فنقيم في شقة والدتي , ويستقبلنا أهلي بكل ترحاب , ولأن زوجي وحيد فلقد كان يعتمد على أهلي اعتمادا كاملا في كل أموره الخاصة من شراء شقة أو سيارة أو أرض أو بناء دور ثان في بيته الريفي إلخ , وأهلي يؤدون كل ما يطلبه منهم بود وحماس .. ثم بلغ طفلاي سن الدراسة فطلب مني زوجي أن أعود بهما إلى مصر لالحاقهما بالمدرسة بحجة أن وجودنا معه في هذه الدولة العربية مع نفقات التعليم الباهظة هناك لن يمكنه من ادخار شئ من مرتبه لأطفاله في المستقبل , وأن حياته وحيدا هناك سوف تقلل كثيرا من نفقاته ، وحاولت جاهدة أن نبقى معا في مكان واحد حتى لا أعاني من الوحدة مع أطفالي في مصر ويعانيها هو في الغربة لكنه تمسك برأيه بإصرار ونزلت على رغبته في النهاية مضطرة , وعدت لمصر وألحقت الطفلين بالمدرسة , وبدأت أزور زوجي مرة كل ستة شهور لقضاء فترة من الوقت معه ويجئ هو في الإجازة السنوية ليقضيها معنا في مصر.

 ومضت السنوات وانجبت طفلين آخرين ثم بدأت اسمع خلال زياراتي لزوجي في مقر عمله شائعات غريبة عن علاقة له بسيدة عربية  في الخمسين من عمرها تعرف بها عن طريق التليفون !

وتكررت الشائعة أكثر من مرة فواجهت زوجي فإذا به يعترف بها ببساطة ويقول لي أنه كان على علاقة مع هذه السيدة وأنه كان يريد الزواج منها لكي تعوضه عن حنان الأم الذي فقده بوفاة أمه .. لكنه تراجع عن الزواج في اللحظة الأخيرة ! وصعقت مما سمعت .. وعاتبته على تفكيره في الزواج من أخرى وقد عاهدني على أن نحيا حياة هادئة مستقرة فوعدني بعدم تكرار ما حدث .. وأقسم لي على ذلك , ورجعت إلى مصر وأنا مضطربة وحائرة .. فلم تمض شهور حتى سمعت عن قصة مماثلة تماما مع مطلقة عربية في السابعة والاربعين من عمرها ولم يتم الزواج لأنها عادت إلى عصمة زوجها في اللحظة الأخيرة أيضا .. وكتمت هذه القصة كما كتمت الأولى عن أهلي وعانيت أحزاني وحدي وتأثرت صحتي فكثرت حالات إغمائي وأجهضت مرة , ومنذ عام جاء زوجي لزيارتنا في إجازته , وبعد سفره بأسبوع فوجئت برسالة من مأذون الحي ينبهني فيها بأن زوجي الحبيب الذي وعدني بأن يكون أبي وزوجي وشقيقي قد تزوج من مطلقة أخرى في نفس السن تقريبا !

ولم أستطع كتمان الأمر هذه المرة لأني سقطت مغمى علي فعلم به الجميع وبكوا من أجلي لأني والحمد لله متدينة ومحبوبة من الجميع .. وتجلدت وتقبلت الصدمة بصبر وفوضت أمري إلى الله ولم أشك زوجي إلى إنسان وإنما شكوته إلى من لا يغفل ولا ينام , ولم أحزن فقط لأنه تزوج بأخرى خلافا لما تعاهدنا عليه وإنما حزنت أكثر لأنه حين سأله أصدقاؤه عن سبب زواجه من أخرى وزوجته معروفة للجميع بجمالها وأخلاقها وتدينها أجابهم سامحه الله وعفا عنه .. بأن السبب هو أنني مريضة بالصرع !

ومع أني لم أسمع من قبل أنني مريضة بهذا المرض فقد ذهبت إلى الطبيب وفحصت نفسي وأجريت رسما للمخ وتحاليل واشعة وقال لي الطبيب في النهاية أنني سليمة من هذا المرض والحمد لله ولا احتاج إلى أي علاج وأن ما انتابني من حالات اغماء في الفترة الأخيرة إنما كان بسبب كتماني لمعاناتي واحزاني عن الجميع ومحاولتي دائما ارضاء الآخرين على حساب نفسي.

وعند هذه النقطة يا سيدي توقفت مع نفسي ووجدت أنني لا استطيع الاحتمال أكثر مما احتملت .. ولا أرضى لأولادي بمعاناة مشاكل الزواج من اثنتين التي عانيت منها في صباي ومازلنا نعاني من خلافاتها الأشقاء وغير الأشقاء حتى الآن , فطلبت من زوجي الانفصال لأنه لم يحقق لي الأمان ولا حلم الأسرة الصغيرة الآمنة فرفض زوجي مبدأ الطلاق لأنه يريد زوجة تعيش معه في الغربة ويتمتع معها بالهدوء وراحة البال وزوجة أخرى تكون أما لأولاده ترعاهم وتستقر معهم في بلده ! ورفضت هذا الوضع بإصرار وتدخل الأصدقاء وبعد جهد جهيد اقنعوه بأن الحل الأفضل هو أن يطلق زوجته الجديدة ويعود لزوجته وأولاده واستجاب أخيرا إلى ذلك , فطلبت منه أن يصطحبنا معه إلى مقر عمله وأن نحول أولادنا إلى المدارس هناك ليجتمع شملنا معا في مكان واحد أو أن يعود إلى مصر ويرجع إلى عمله الأول ونعيش معا فيها في هدوء وبلا مشاكل لكنه رفض هذا وذاك وطلب فرصة أخرى لكي يرتب أوضاعه سواء سافرنا إليه أو عاد هو إلينا , وسافر زوجي إلى عمله , ثم عاد في إجازته السنوية بعد شهور فإذا بي بعد كل ما حدث أعرف منه هو شخصيا أنه قد تزوج من سيدة عربية في الخمسين من عمرها وأنه كان ينام في حضنها كما ينام الطفل في حضن أمه بلا معاشرة زوجية فضاقت به وطلبت منه الطلاق وطلقت منه !

كما عرفت منه أيضا أنه سعى مرارا إلى التعرف بسيدات أكبر منه سنا عارضا عليهن الزواج ولم يوفق لذلك لأسباب مختلفة ثم اعترف لي أخيرا بأنه مريض فعلا ويحتاج إلى علاج نفسي لكنه رفض الاستجابة لرجائي بالذهاب إلى اخصائي نفسي ووعدني بأن يفعل ذلك حين يعود  في الإجازة القادمة !

إنني أعيش الآن يا سيدي في شقة والدتي مع أطفالي الأربعة وقد افتقدت الإحساس معه بالأمان وفقدت ثقتي فيه فهل أطلب الانفصال منه مع ما في الطلاق من اضرار بالنسبة للأطفال أم أواصل العيش معه وأنا مهددة بأن أفاجأ في أية لحظة بأنه قد تزوج بسيدة في الخمسين أو الستين من عمرها .. إنني في حيرة من أمري فماذا تنصحني ؟

      

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

 

ولـكـــاتــبــة هــذه الـــرســـالــة أقـــول:

 

للكاتب الفرنسي باسكال عبارة طريفة يقول فيها : إذا أرادت الزوجة أن تنال السعادة مع زوجها فعليها أن تفهمه كل الفهم .. ويكفي أن تحبه بعض الحب .. أما أذا أراد الزوج أن ينال السعادة مع زوجته فعليه أن يحبها كل الحب .. وأن يكف نهائيا عن محاولة فهمها !

وإذا نحينا ما في العبارة من سخرية مقنعة جانبا فإنها تؤكد حقيقة هامة هي أن فهم الزوجة لزوجها أمر يبدو في بعض الأحيان أكثر إلحاحا من حبها له لكي تستطيع أن تحيا معه حياة آمنة هادئة تتجنب خلالها الآلام والأشواك والصدمات المفاجئة .. "وفهم كل شئ يؤدي إلى العفو عن كل شئ" .. كما تقول الاديبة الفرنسية مدام دي ستايل وحتى إن لم يؤد الفهم إلى العفو عن كل شئ فإنه يساعدنا على الأقل على تفادي المخاطر قبل وقوعها وعلى طلب العلاج من مصادره الصحيحة.

 وزوجك يحتاج بحق يا سيدتي إلى العلاج النفسي كما قال لك طبيب المخ والأعصاب , ومن عجب وهو المهني المتعلم الذي حذفت طبيعة عمله حتى لا تدل عليه ألا يتنبه هو لحاجته لهذا العلاج منذ البداية ، وأن يتقاعس عن طلبه بعد تسليمه بضرورته , فالواضح أنه يعاني من العقدة الأسرية المعروفة بإسم "عقدة أوديب" وهي النزعة التي تنتج عن التعلق الزائد بالأم وافتقاد وجودها بشدة في حياة الإنسان مهما بلغ به العمر.

ومن أخطاء بعض الأمهات خاصة من لا يرضين عن حياتهن مع أزواجهن أن يحاولن تعويض ما يعانين من نقص عاطفي مع شريك الحياة بغمر الطفل بطوفان من مشاعرهن وعواطفهن التي لا يستطعن منحها للزوج ، فيؤثر هذا الحنان الزائد من الأم على الاتزان العاطفي له ويفسد لديه معايير الحكم على الأمور ويغرس فيه الرغبة الكامنة في الاتحاد مع الأم .. ويؤدي به إلى الانهيار المعنوي عند فقدها .. وقد تتضاعف الآثار النفسية السلبية لذلك لديه فتدفعه للبحث عن "رمز الأم" في أحضان زوجته بدلا من البحث الطبيعي عن رمز الأنثى فيها وهذه الأعراض تظهر عادة لدى الابن الوحيد الذي تتفرغ الأم الشابة بعد وفاة زوجها لرعايته وترفض الزواج من أجله وتغمره بحبها وحنانها فيرتبطان معا برباط غير طبيعي يبدوان معه كما لو كان الحبل السري لم يقطع بعد بينهما بعد ولادة الابن .. وقد ينتهي الأمر في أحيان كثيرة بعجز هذا الابن الوحيد المدلل عن الاقدام على الزواج لعجزه العاطفي في سن الشباب عن أن يوجه مشاعره إلى وجهتها الطبيعية .. بعيدا عن الأم , وفي أحيان كثيرة قد ينتهي به الحال أعزب مزمنا يعيش وحيدا مع أمه .. ولا يستشعر حاجته إلى الزواج إلا بعد رحيلها عن الحياة .. ويكون دافعه اللاشعوري إلى طلب الزواج عند ذلك هو البحث عن رمز الأم في سيدة أخرى .. لتكون بديلا عاطفيا له عن افتقاد الأم.

وزوجك يعاني من بعض هذه الآثار السلبية للالتصاق الزائد عن الحد بالأم وقد ضاعفت وحدته بعيدا عنك منها ودفعته إلى التخبط وتصور أن أي امرأة تكبره في السن تستطيع أن تعطيه ما كانت تمنحه له أمه من حنان وإحساس بالأمان النفسي والعاطفي في أحضانها ولهذا كله فإني لا أنصحك بطلب الانفصال عنه حرصا على مصلحة أطفالك الأربعة , ولست أرضى لك في نفس الوقت بمعايشة القلق والخوف الدائم من أن تفاجئي بزواجه من "أم" بديلة , وإنما أنصحك بألا تدعيه لنفسه ووحدته التي تشجعه على التماس حنان الأم المفقود لدى السيدات الأخريات .. وأن تبذلي معه المستحيل لكي يجتمع شملكما وشمل الأسرة كلها في مكان واحد في مصر أو في مقر عمله , وبأن تحاولي أنت أن تكوني له هذه "الأم" التي يبحث عنها في أحضان الأخريات , فهذا قدرك يا سيدتي أن تكوني أنت الأم والزوجة له بدلا من أن يكون هو الأب والشقيق لك كما كنت تحلمين .. ولا غرابة في ذلك لأن شريك الحياة ينبغي أن يكون لشريكه كل أهله .. وأن يلبي له كل احتياجاته العاطفية والإنسانية و"المرأة سلوى زوجها" كما جاء في الكتاب المقدس .. والرجل أيضا ينبغي أن يكون سلوى زوجته وحصنها الحصين الذي تشعر معه بالأمان والارتواء العاطفي والاكتفاء به عن الآخرين .. فعامليه يا سيدتي كما تعامل الأم ابنها ، وأقنعيه بضرورة اجتماع شملكما في كل الاحوال والظروف وبضرورة طلب العلاج النفسي بلا تردد أو خجل وهو ميسور ومضمون النجاح , والتصقي به دائما في كل مكان حتى لا يعاوده ضعفه النفسي مرة أخرى ويورده موارد التهلكة والمتاعب والمشاكل , فزوجك في سن الأربعين وأحرى به أن يوجه طاقته وموارده لأسرته وأطفاله الأربعة حتى يحقق أهدافه المادية من غربته ويقصر أجلها بدلا من تبديد طاقاته النفسية وموارده المادية في هذه المغامرات العبثية التي لا تليق به ولا بمركزه أو سنه .. وحين تنجحين في تحقيق ذلك .. ويجتمع شملكما سوف تختفي الهواجس .. ويحل الأمان محل الخوف والقلق وتهدأ خواطرك في القريب العاجل بإذن الله.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات