النوافذ المغلقة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1999
ليست رسالتي هذه عن مشكلة
شخصية لي وإنما عن قصة إنسانية مؤلمة لم أعاصر بداياتها.. ولكني شهدت آثارها
البشعة وتألمت لها.. فأنا طالب بإحدى الكليات العملية, وأمر كل يوم في طريقي من
بيتي لركوب وسيلة المواصلات التي تحملني إلى كليتي على منزل صغير قديم بحي عين شمس
له حديقة ذات باب حديدي صدئ تظهر من خلال فتحاته أطلاله حديقة تمتلئ بالأشجار وأصص
الزهور والتكعيبات الخشبية التي تتسلق عليها النباتات المختلفة, ولقد لفت نظري من
خلال مروري بهذا البيت يوما بعد يوم أن الحديقة رغم أشجارها وزهورها وتكعيباتها
ميتة وأن أوراق الشجر والزهور قد جفت بسبب نقص الماء فيما تصورت, ثم شاهدت صاحبة
هذا البيت أو المقيمة فيه فرأيتها سيدة نحيلة وهزيلة الجسم للغاية وشاحبة الوجه
وتعبر قسماتها بغير كلام عن كل ما تعاني منه..
وأثارت هذه السيدة النحيلة
وحديقتها الميتة فضولي فسألت عن قصتها وعرفت أنها تعيش في هذا المنزل وحيدة, وإنها
أرملة لمهندس زراعي كان يعاني من مشكلة في الإنجاب, فلم يرزقا بأطفال, وعوض هو
افتقاد الأطفال في حياته بتركيز كل اهتمامه ووقته للعناية بهذا البيت وتجميله
ورعاية الحديقة وزراعتها وتنسيقها, وكان بالرغم من ذلك بخيلا ومقترا على زوجته فلا
يعطيها أية نقود بالمرة, وإنما يأتي هو بمتطلبات البيت أولا بأول ويحاسبها ويدقق
معها بشدة في نفقات المعيشة, واستمرت حياتها معه على هذا النحو لمدة 12 عاما, ثم
حدث أن صدمته سيارة مسرعة وهو يعبر الطريق فتوفي على الفور, وشيع إلى مثواه الأخير
وبكته أرملته كثيرا.. وفقدت بفقده "رغم كل شيء" الرفيق والشريك والسند
الوحيد في الحياة, فلم تكد تمضي بضعة أيام علي وحدتها في هذا البيت, حتى كشف لها أخوة زوجها عن حقيقة مذهلة.. هي أنها
ليست أرملة شقيقهم الراحل, وإنما هي مطلقته.. وبالتالي فلا حق لها في شيء من
ميراثه أو معاشه, أو في البقاء في البيت الخالي بعد وفاته!!
وقدم لها الأخوة وثيقة طلاق تثبت طلاقه لها
بالفعل قبل ثلاث سنوات من رحيله عن الحياة.. وصدمت السيدة صدمة مزلزلة.. وتساءلت
مع أي رجل كانت تعيش وقد كان حتى وفاته يحيا معها حياة زوجية كاملة؟! وبعد الصدمة
المروعة والجرح النفسي الغائر, بدأت رحلة المعاناة للمطالبة بحقوقها عن طريق
القضاء وطعنت بالتزوير في وثيقة الطلاق, فإذا بتقرير الخبير يثبت صحتها, وأسقط في
يد الأرملة الحائرة.. ونتج عن إثبات صحة وثيقة الطلاق حرمانها من أية حقوق لها في
الميراث عن زوجها وفي المعاش كذلك.. وأخذت المحكمة ـ تقديرا لظروفهاـ بشهادة
جيرانها الذين تطوعوا للشهادة لصالحها وأكدوا جميعا أنها كانت حتى اليوم الأخير من
حياة زوجها تعيش معه في بيته حياة زوجية طبيعية بلا مشاكل ولا أزمات, وأنها لم
تعرف أبدا ولم يعرف أحد من الجيران انه قد طلقها.. ولم يشر حالهما اطلاقا إلى
أنهما مطلقان أو منفصلان, فقضت لها المحكمة رأفة بحالها بالبقاء في منزل الزوجية,
وكفت أيدي أخوة الزوج عن التصرف في البيت طوال حياتها, ورفضت الدعوى التي أقامها
عليها الأخوة لطردها منه. وهكذا واجهت هذه السيدة الحياة بعد رحيل زوجها.. وهي
تقيم في بيت لا تملك طوبة واحدة منه ولا حق لها عليه.. وبلا أي ميراث أو معاش وبلا
مدخرات ولا أقارب يتكفلون بها.. وعلى عكس ما يفعله الزوج الطيب الذي يرحل عن
الحياة فيترك لزوجته الذكريات الجميلة وما يقيم أودها ويقيها شر الحاجة, فلقد رحل
هذا الزوج عن الحياة تاركا لها الإحساس المر بالدنس والعار, والحاجة, مما يجعلها
كما علمت تلعنه في كل صلاة ومع كل أذان بدلا من أن تترحم عليه!
وشيئا فشيئا نفد كل ما كانت
تملكه من مصاغ قليل باعته لكي تسد بثمنه رمقها, وانعكس حالها المؤلم على حال
الحديقة التي كانت زاهرة.. فتماثل الاثنان في المحنة وغدر الأيام بهما فهزل جسم
السيدة, وجفت دماء الحياة فيها تدريجيا من أثر سوء التغذية, وذبلت أشجار الحديقة
وجفت أوراق أصص الزهور وماتت النباتات المتسلقة لقلة الماء ونقص الرعاية, فلقد
تراكمت على هذه السيدة فواتير الماء والكهرباء, حتى انتهي الأمر بقطعهما عنها
نهائيا منذ عدة سنوات, ومنذ ذلك الحين والسيدة تعيش في ظلام دامس وبدون قطرة ماء.
ووهنت قواها حتى لم تعد
تقوى على فتح نوافذ البيت كل فترة لتهويته, فيظل مغلق الأبواب والنوافذ دائما
وكأنه مقبرة, وشكت السيدة من آلام مبرحة في قدميها حتى كادت تعجزها عن الحركة,
ولقد يمر عليها اليوم واليومان والأيام الثلاثة دون أن تقوى على فتح نوافذ بيتها,
ناهيك عن أن تجد ما يقيم أودها.. ولك أن تتخيل يا سيدي أن هذه السيدة رغم كل ما
تعانيه, فإن ما أعطيه لها من ماء قليل كل فترة أو يعطيه لها جيرانها.. فإنها
تستخدمه في النظافة والوضوء, ولا تشكو حالها لأحد سوى لربها, وفي كل مرة أذهب فيها
إليها حاملا إليها بعض الماء أتعجب لاحتمالها لكل هذه الأهوال وبصبرها العظيم على
هذا الابتلاء حتى لأدير وجهي عنها لكيلا ترى دمعي.. وأدعو الله العلي العظيم أن
يرفع عنها هذا البلاء.. لقد كتبت إليك هذه الكلمات لعجزي عن أن أفعل لهذه السيدة
المزيد وأرجو أن تصل هذه الكلمات إلى من بيده أن يرفع عنها بعض هذه المعاناة.. مع
رجاء العلم بأن هذه السيدة تحتاج إلى من ينتقل إليها لبحث حالتها.. لأنها لا تقوى
على الخروج من شدة الهزال وضعف الصحة وانعدام العناية الطبية. والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته..
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
قد وصلت الرسالة بالفعل إلى
مالك الملك ومن بيده ملكوت كل شيء سبحانه فجرت مشيئته عز شأنه بأن ترجع الكهرباء
إلى المنزل المظلم المقبور.. والماء المقطوع إلى الحديقة العطشى والأشجار الجافة
والأصص الخابية, وتنفتح نوافذ هذا البيت المغلقة ويتجدد هواؤه, وتسترد سيدته دماء
الصحة والعافية بأمر ربها ومشيئته وهو الرحيم العليم, فلقد سمع الله جل في علاه
نجوى هذه السيدة لربها وهيأك لنقل الرسالة إلى وأكرمنا بتسخير "بريد الجمعة"
لإنفاذ مشيئته برعاية هذه السيدة الوحيدة والتكفل بأمرها, وتوفير الحياة الكريمة
والرعاية الصحية اللازمة لها, ولسوف تزورك خلال ساعات الأخصائية الاجتماعية لبريد
الجمعة لتصطحبها لزيارة هذه السيدة في بيتها وحل مشكلتها بما يحفظ عليها كرامتها
ويقيها شر الحاجة ومذلة السؤال بإذن الله.. فهي ممن عناهم الحق سبحانه وتعالى
بقوله يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ..
273 البقرة.
وهؤلاء هم الأحق بالرعاية
والعطاء, لأنهم عاجزون نفسيا عن سؤال الغير ولو كانت بهم خصاصة, ولقد تعتصر الحاجة
أحدهم فلا يطيعه لسانه في الطلب, أو الشكوى لغير ربه, ولهذا أمرنا بأن نتحرى هؤلاء
في مواقعهم وخلف أستارهم التي يستترون وراءها بعوزهم عن الغير وبأن نبادرهم
بالعطاء بغير طلب ونترفق بهم ونشعرهم بحقهم علينا.. ونكفيهم مئونة السؤال, ونتحرى
حفظ كرامتهم والستر عليهم بما نقدمه لهم, ولولا أني قد أردت أن يشاركني قراء هذا
الباب في قصة هذه السيدة ليستفيدوا بدروسها المؤلمة ويطلعوا على وجه آخر من وجوه
النفس البشرية الملغزة, لما نشرت رسالتك هذه ولبادرت بإرسال الأخصائية الاجتماعية
إليك علي الفور بغير نشرها, لكن كيف كان لنا أن نعلم عن النفس البشرية وشحها
وبخلها وحساباتها الدنيوية الحقيرة في بعض الأحيان ما علمناه من هذه القصة المحزنة
لو كنت قد عزفت عن نشرها.. لقد تحيرت طويلا في فهم الأسباب التي تدعو رجلا يشارك
زوجته الحياة تحت سقف واحد وترضي هي بحياتها معه رغم حرمانها من الإنجاب, وبخله
معها وتقتيره إليها, لأن يطلقها سرا ويتكتم عنها أمر هذا الطلاق فلا تعلم به في
حينه, ثم يواصل حياته معها كزوجين يجمعهما فراش واحد, وحياة مشتركة, ويرضي هو
لنفسه بهذا الوضع الآثم ويقبل بهذا الخفاء على زوجته متحملا عنها وزره الكامل
لأنها لا تعرف به ويعلم به أيضا إخوته فلا ينهونه عنه, ولا يحثونه على تصحيح وضعه
الشائن ووضع هذه السيدة الضحية, ولا يبرئون ذمتهم من إثم المشاركة بالصمت في خداع
هذه السيدة والقبول بالخنا لها ولأخيهم, ثم يرحل عن الحياة فجأة فإذا بهؤلاء
الإخوة يشهرون في وجه أرملته وثيقة طلاق عمرها ثلاث سنوات ويسعون لطردها من بيت
أخيهم وحرمانها من ميراثه ومعاشه, بغير أن يتوقف أحدهم ويسأل نفسه: كيف رضي بأن
يعلم عن أخيه انه يعاشر من تحرم عليه معاشرتها بغير أن يبرئ ذمته من إثمه بنصحه أو
على الأقل بإعلام هذه السيدة بما علم به لترى رأيها في حياتها معه, ويبرأ هو من
حقها عليه؟.
وأي شيء من متاع الحياة
يستحق أن يشارك إنسان أخاه بالصمت الشائن على مثل هذا الدنس الذي ينكره الشرع
والدين والقانون؟.. لقد فكرت طويلا في دوافع هذا الرجل لما فعل, فلم أجد له تفسيرا
سوى بخله الذي تمكن منه حتى صبغ نظرته إلى كل شيء في الحياة بالصبغة المادية
الكريهة حتى ولو كان ذلك ..غفر الله له على حساب الحق والعدل والفضائل الدينية
والأخلاقية.
فلقد كره الرجل أن تشاركه
السيدة التي تقاسمه حياته في شيء من أملاكه أو معاشه أو ماله وهو على قيد الحياة
وبعد رحيله عنها, وكره أن تنازع إخوته بعد وفاته في ملكية البيت الذي يملكه ويبدو
أن لإخوته نصيبا منه بالميراث عن الأب, فطلق زوجته وتحايل على عدم إبلاغها بذلك,
وتستر عليه في هذا الإثم الشائن إخوته طلبا لمتاع الدنيا الرخيص, وواصل حياته معها
في الدنس والإثم مقدرا فيما يبدو أنه سيطول به العمر وقد يأتي الوقت الذي يراه هو
مناسبا لإخراج هذه الزوجة من حياته بغير أن يتكبد دفع أية حقوق مادية لها لفوات
المواعيد القانونية للمطالبة بنفقة المتعة والنفقة الشرعية ومؤخر الصداق, فيكتفي
بوحدته في المنزل والحديقة اللذين يكرس فيهما كل اهتمامه.. أو لعله يستبدل بزوجته
أخرى أقل نفقة من سابقتها إذا رغب في ذلك, فإذا بمكره يخيب وإذا بأقداره تسبق كل
مكره وتدبيره ويرحل عن الحياة تاركا وراءه كل شيء للآخرين ومخلفا الزوجة التي
عاشرها سنوات طوالا لا تدري أكانت أرملته أم مطلقته ولا تجد ما تواجه به الحياة,
وتعاني مما تشعر به من إحساس غائر بالإثم لغدره بها ومعاشرته لها بغير زواج لثلاث
سنوات قبل الوفاة.. وكل ذلك لكي لا تنازع اخوته في حصة محدودة من بيت صغير وحصة
بائسة من معاش هزيل مهما بلغ قدره فأي إثم.. وأي مكر حقير؟!
يا إلهي.. إنني لم أستطع
حتى الآن برغم خبرة السنين أن أفهم هذا التناقض الغريب بين ضن رجل كهذا الرجل على
زوجته بأن ترث حقها المشروع في حاله بعد الرحيل مما يقطع بشحه وبخله الفاضح وعدم
عدالته, وبين هذا الإحساس العائلي المفترض فيه أن يكون من الفضائل بشرط العدل
والذي يدفع مثل هذا الرجل لإيثار إخوته بميراثه دون زوجته فهل يستطيع أحد أن يفسر
لي هذا التناقض الغريب بين المنع للزوجة والإيثار للإخوة, وهما نقيضان تناقض المنع
والعطاء ولا يجتمعان في النفس الشحيحة إلا نادرا؟.. أم ترى أن هذا الرجل لم يكن
يضع حتى إخوته في حساباته, وكان مطمئنا إلى الدنيا وإلى أنه سوف يعمر طويلا فينفرد
فيها دون زوجته والجميع بماله وأملاكه إلى ما لانهاية؟! فلندع إذن أمره لخالقه,
ولنفكر معا في كيفية تعويض هذه السيدة المتعففة عما تعرضت له من عناء كاد يقضي
عليها في وحدتها.. كما قضي من قبل على أشجار حديقتها وزهورها ونباتاتها.. وشكرا علي
رسالتك الكريمة هذه.. وأرجو الله أن يجزيك عنها خيرا كثيرا في حياتك ومستقبلك بإذن
الله والسلام..
النوافذ المفتوحة .. من ردود خاصة تعقيباً على رسالة النوافذ المغلقة
انهالت عليّ خلال الأيام القليلة الماضية الاتصالات التليفونية والرسائل من قراء
بريد الجمعة في مصر والخارج , يبدي أصحابها فيها تأثرهم بظروف بطلة قصة
"النوافذ المغلقة" التي نشرتها في الأسبوع الماضي.
واهتمامهم بمعرفة تطورات
قصتها ورغبتهم في المساهمة في فتح "النوافذ المغلقة" وإعادة الحياة
والأمل والأمان إلى هذه السيدة الوحيدة.
وتلبية لرغبة هؤلاء وغيرهم
فلسوف أعرض في السطور التالية ما تم بشأن هذه السيدة خلال الأيام الماضية, فلقد
زارتها الأخصائية الاجتماعية لبريد الأهرام ورجعت من زيارتها لتقول لي في تقريرها
عن الحالة , إن كل ما رواه الشاب الطيب كاتب الرسالة عن ظروف هذه السيدة لا يصور
بعض ما رأته على الطبيعة خلال زيارتها لها .. فلقد اتصلت بوالدة هذا الشاب
واصطحبتها معها لزيارة السيدة التي لا تفتح بابها لأحد سوى لوالدة هذا الشاب خوفا
من أن يحاول ورثة أخوة الزوج الراحل طردها بالقوة من البيت ليتمكنوا من بيعه
وتقسيم ثمنه على المستحقين .. واستقبلتهما السيدة في غرفة خالية من الأثاث أشبه
بغرفة بستاني في حديقة البيت المهجور .. فوجدتها تعيش على شمعة واحدة وسط ظلام
دامس كظلام القبور .. ورأتها شديدة الهزال وتنتشر التقيحات الناتجة عن مرض السكر
وعدم تلقي أي علاج له في جسمها النحيل, في حين تمرح القوارض الكبيرة في حرية كاملة
حولها في المنزل الخالي .. ولقد تلقت المساهمة العاجلة التي بعث إليها بريد الجمعة
بفرحة طاغية استدرت الدموع في عيون من شهدوا الموقف.
وكانت خلاصة تقرير
الأخصائية الاجتماعية هي أن هذه السيدة في حاجه إلى فحص طبي ورعاية صحية كاملة لا تتوافر
لها إلا في المستشفي, غير أنها تخشي إذا استجابت لطلبنا بنقلها إليه أن يستولي
ورثة أخوة زوجها الراحل على البيت خلال غيابها .. وتجد نفسها بلا مأوى وهي الضعيفة
التي لا تصمد للنزاعات والقضايا مرة أخرى بعد أن خاضت معركة قضائية استمرت 5 سنوات
من قبل والتهمت كل إمكاناتها القليلة في الفترة السابقة.
وقد اتصلت بصديق من أصدقاء
بريد الأهرام وهو أستاذ بكلية الطب جامعة عين شمس ورجوته أن يتفضل بزيارة هذه
السيدة في بيتها, لكي يشير علينا بما نفعله معها بشأن علاجها , واستجاب
_مشكورا_للنداء وتوجه إلى بيتها برفقة مندوب من البريد .. وبعد الاتصال بالشاب
الطيب الذي كتب قصتها اتصل بي الطبيب الفاضل في المساء ليروي لي ما شاهده خلال هذه
الزيارة الغريبة, فقال إنه رأى حين توجه إليها مشهداً كان يظن من قبل أنه لا يراه
إلا في أفلام الرعب.
فقد فتحت لهم الباب سيدة
نحيلة كالخيال منحنية الظهر من الوهن والضعف وترتدي معطفاً رثا مترباً, وتحمل في
يدها شمعة صغيرة , ثم قادت ضيوفها بخطوات متعثرة إلى بيت غارق في الظلام الدامس
وخال من كل أنواع الأثاث تقريباً, فلاحظ انتشار التقيحات في كل جسمها , وعلامات
الأنيميا الحادة في وجهها , وحين فحصها وهي المريضة بالسكر وجد نسبه السكر لديها
منخفضة بسبب ما أسماه بانعدام التغذية وليس سوءها .. كما وجد ضغط الدم عندها
مرتفعاً.. والحالة الصحية العامة لها متدهورة.
وكان رأيه في النهاية أنه لابد من نقلها إلى
المستشفي على الفور, وتوفير بعض الملابس العاجلة لها لتقيها برد الشتاء إلى جانب
الخطوات الأخرى التي يقوم لها بها بريد الجمعة.
أما المندوب الذي رافقه
فلقد رجع حاملا معه رسالة من هذه السيدة تقول فيها بعد كلمات التحية والشكر المؤثر.
"هزتني كلماتك وأبكتني
رغم أنني صاحبة المشكلة .. ولقد أحسست عند قراءتها أنني أبكي لآخر مرة كما أحسست
بدنو الأجل إلا أنني أحب أن أوضح لسيادتك وأن أطمئنك إلى أن القضاء العادل قد حكم
لي بعد 5 سنوات من العذاب بصحبة زوجي .. وباعتباري أرملة لزوجي ولست مطلقة له لأن
زوجي عندما قام بالطلاق الغيابي كان غافلا على أن الطلاق الرجعي يعطي الزوج الحق
في أن يراجع زوجته مادامت في عدتها وقد اعتبر القضاء العادل دوام الإقامة والعشرة
مراجعة شرعية دون مهر أو عقد جديدين .. ونبهت المحكمة أخوة زوجي ورثته إلى
عدم التعرض لي, وكل ما أتمناه هو أن تعود المياه والكهرباء للمنزل وأن يأتي
المحصلون في مواعيدهم و جزاك الله عني وعن أمثالي كل خير..
وبقدر سعادتي بما قرأته في
هذه الرسالة القصيرة عن إنصاف قضاء مصر العادل لهذه السيدة .. ورد شرفها واعتبارها
في نظر نفسها وأنظار الآخرين فلقد رأيت ضرورة نقلها إلي المستشفي لتوفير العلاج
اللازم لها..
وقبل تنفيذ هذه الخطوة
اتصلت بالسيد اللواء محمد سيف النصر حسين مدير أمن القاهرة .. وأطلعته على ظروف
هذه السيدة فوجدته يعرف قصتها ويبدي كل استعداد طيب لمساعدتها وحفظ حقها في البيت
الذي يؤويها, ولقد اتصل مشكورا ومأجورا من ربه بإذن الله بمأمور قسم شرطة مصر
الجديدة وكلفه بتأمين بيت هذه السيدة والتصدي لأي محاولة من جانب الورثة للاستيلاء
عليه بغير حق في خلال فترة غيابها عنه في المستشفي.
أما الكهرباء والمياه فلقد
بدأت إجراءات تسديد الفواتير المتأخرة وإعادتهما إلى المنزل الخالي الذي ذكرني بما
سمعته عنه من الأخصائية والطبيب الفاضل بما قرأته منذ سنوات بعيدة في رواية
الروائي الروسي الكبير دستوفيسكي الشهيرة:منزل الموتى!
ولسوف تغادر ربة هذا البيت
المستشفي بعد تلقي العلاج اللازم فيه, لتجده مضاء والمياه تجري في مجاريه .. وقد
شغلت مساحاته الخالية ببعض الأثاث الضروري بإذن الله.
يبقي شئ واحد أرجو أن
يعينني عليه أصحاب شركات النظافة الصغيرة في مجتمعنا.
ذلك أن بيت هذه السيدة
يحتاج إلى حمله لتطهيره من القوارض والحشرات وتنظيفه من تراكمات السنين , فهل من
مساعد في هذه المهمة مع استعداد , بريد الأهرام لدفع كل التكاليف؟
وفي النهاية..فالشكر واجب لكل من شاركوا في إعادة الأمل لهذه السيدة الضعيفة .. وكل من اهتموا بأمرها ..والحمد لله من قبل ومن بعد .
شارك في إعداد النص / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر