الزيارة المفاجئة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

 الزيارة المفاجئة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

الزيارة المفاجئة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

هذه الرسالة تذكرنا بقول أديبة أمريكية شهيرة من إن بعض الأمهات يتعاملن مع أبنائهن كما تفعل أنثي الضفدع مع صغارها، إذ ما أن تضع الأنثى بيضها على حافة المجرى المائي وتخرج منه صغارها حتى تتركها لنفسها وتنصرف عنها وتدعها لتواجه أقدارها بلا حماية ولا رعاية من جانبها‏.‏
عبد الوهاب مطاوع

أكتب إليك لأني في أشد الحاجة لمن يسمعني ويشير علي‏,‏ فأنا رجل متوسط العمر نشأت في أسرة متوسطة‏,‏ بين أب موظف بالحكومة وأم تتفنن في تدبير حياة أسرتها وتلبية مطالب أبنائها الأربعة.‏.‏ وشققت طريقي في الدراسة حتى حصلت على ليسانس الحقوق‏,‏ ووجدت أبواب الوظائف مسدودة أمامي وليس لي نصير يوصي بتعييني في أي جهة حكومية فاتجهت إلى العمل بالمحاماة‏,‏ وبدأت بالتدريب لدى محام من أقارب والدتي‏,‏ وحصلت بعد فترة على عضوية نقابة المحامين وانتقلت للعمل لدى محام أوسع نشاطا في حي العباسية‏,‏ وحصلت على أول مرتب لي منه‏..‏ ثم تقدمت في العمل وأصبح يكلفني ببعض القضايا البسيطة نيابة عنه ويخصص لي نسبة من  الأتعاب‏,‏ فاستطعت أن أساعد أبي في تعليم إخوتي الصغار‏,‏ وظفرت لذلك بمكانة كبيرة لدى أبي وأمي وأسرتي‏,‏ ومضت بي الأيام‏,‏ وازدادت خبرتي بالعمل واتسعت دائرة معارفي وكثرت القضايا التي أباشرها‏,‏ فاستأذنت المحامي الكبير الذي أعمل معه في أن استقل بنشاطي في مكتب خاص بي‏ ..‏ ولم يعترض الرجل ولم يغضب لذلك‏,‏ وإنما قال لي إن هذه هي سنة الحياة ولابد للصغير من أن يكبر ذات يوم ‏..‏ وأرشدني إلى مكتب لأحد المحامين شبه المعتزلين‏,‏ ونصحني باستئجار غرفة من مكتبه لبدء نشاطي الخاص فيها‏,‏ وتم ذلك بالفعل ووضعت لافتة تحمل اسمي على واجهة العمارة التي يقع بها المكتب‏,‏ وبدأت أمارس عملي في مكتبي الجديد‏,‏ ومررت بفترة ركود في البداية حتى كدت أعجز عن دفع الإيجار‏,‏ لكني تمسكت بالأمل ولم أيأس‏,‏ ثم بدأ النشاط يدب تدريجيا في مكتبي وسددت الإيجار المتأخر وديون تأثيث المكتب‏..‏ وبدأت أحاول تنظيم حياتي‏..‏ وكنت قد بلغت الثلاثين ولم أرتبط بأية علاقة عاطفية‏..‏ وخفت أن يسرقني العمر فلا أتزوج كما فعل المحامي الكبير الذي بدأت حياتي معه‏,‏ وكان أبي وأمي يلحان علي بالزواج ويبحثان لي عن عروس مناسبة‏..‏ فرأيت أكثر من فتاة من الأقارب والمعارف‏..‏ ووافقت في النهاية على التقدم لابنة موظف كبير يعرفه أبي‏..‏ وزرنا بيته واسترحت إلى شخصية هذه الفتاة‏,‏ وقرأنا الفاتحة‏,‏ وبدأنا نرتب لعقد القران‏,‏ وقبل أن نحدد موعده دخلت مكتبي في مساء أحد الأيام سيدة شابة وجميلة ولها شخصية مؤثرة‏,‏ ووكلتني في قضية ميراث لها‏,‏ فوجدتني أهتم بهذه السيدة وقضيتها‏,‏  وتكررت اللقاءات بيننا فعرفت أنها متزوجة ولها ابن في السابعة من عمره وزوجها يعمل بإحدى شركات البترول‏,‏ وحياتها العائلية مستقرة‏..‏ لكن شيئا ما في عينيها أنبأني بأنه سيكون لي مع هذه السيدة شأن آخر بعيد عن قضيتها‏,‏ وصدق حدسي‏,‏ إذ وجدتها تتعمد إطالة زياراتها لي‏..‏ وتتجاوب معي في الحديث في أمور بعيدة عن مشكلتها القانونية‏,‏ وطلبتها ذات يوم هاتفيا لأبلغها بشأن يتعلق بالقضية‏,‏ فإذا بها ترحب بي بحرارة وتطيل الحديث معي وتنتهي المكالمة باعتراف متبادل مني ومنها بأن كلا منا في أشد الحاجة إلى الآخر‏.

 

وبدأت علاقتي بها من هذه اللحظة وتعمقت على مدى الشهور التالية‏..‏ وشغلت تماما عن الفتاة التي قرأت الفاتحة مع والدها ورحت أتهرب من تحديد موعد القران‏,‏ وأبي وأمي يلحان علي في ذلك ويشكوان مما يواجهانه من حرج مع أسرة الفتاة‏..‏ إلى أن جاءت اللحظة التي جرأت فيها على مصارحة أبي بأنني لا أعتزم إكمال مشروع الزواج من تلك الفتاة‏,‏ فغضب مني بشدة لكنه لم يملك لي شيئا‏..‏ وتفرغت بكل عواطفي لهذه السيدة الجميلة‏..‏ وبعد فترة بدأنا نتحدث عن الزواج فعرضت علي أن تطلب من زوجها الطلاق ونتزوج في أقرب فرصة‏,‏ وسعدت بذلك وشجعتها عليه وطمأنتها من ناحية ابنها بأنني سوف أكون أبا ثانيا له,‏ فلم تعلق على ذلك ولم يبد لي أنها مهمومة بأمر طفلها كثيرا وإنما بأمر زوجها الذي قالت إنه يحبها ولن يفرط فيها بسهولة‏,‏ وبدأت هي المعركة مع زوجها وطلبت منه الطلاق فرفض بإصرار‏..‏ وهجرته إلى بيت أسرتها مصطحبة معها طفلها‏..‏ ونشط الوسطاء بين الطرفين لمحاولة  الإصلاح دون جدوى ‏..‏ وفي كل يوم يأتي وسيط حاملا عرضا جديدا للصلح وتتصل بي هي فأشير عليها بالرفض‏,‏ وأصبحنا نلتقي كل يوم ونفكر في مشكلتنا‏..‏ واستقر رأينا أخيرا على أن أقابل زوجها وأواجهه بأن زوجته لا تريده وإنما تريد رجلا آخر وأنه من الأكرم له أن يسرحها بإحسان‏,‏ وإلا فإنني سوف أقيم دعوى طلاق باسمها ضده‏,‏ وسأتخذ كل السبل التي تحقق هذا الغرض‏..‏ وسألتني هي هل تستطيع بالفعل مواجهته بذلك حتى ولو تعدى عليك‏,‏ فأجبتها في ثقة إنني أستطيع ذلك بغير شك‏..‏ وقابلته بالفعل وواجهته بكل شيء‏ بصراحة قاتلة ولم أهتز حين قال لي إنني بذلك أهدم بيتا كان سعيدا قبل ظهوري في حياة زوجته‏..‏ وأمزق طفلا صغيرا بين أبويه وأحرمه من حياته التي كانت هادئة‏..‏ كما لم يؤثر في كثيرا قوله إن الله سوف يحاسبني حسابا عسيرا على ذلك‏,‏ وقلت له إن هذا شأني مع ربي ولا دخل له به‏.

 

 وانتهت الجلسة العاصفة بأن قبل بأن يطلقها ولكن على شرط واحد لا محيص عنه‏,‏ وهو أن تترك له ابنها وأن توقع إقرارا بالتنازل عنه له‏,‏ وفشلت كل محاولاتي معه لكي يتنازل عن هذا الشرط‏..‏ فرجعت إليها وأنا مشفق مما سيحدث حين تعرف بشرطه القاسي‏..‏ وتخوفت من أن تتراجع عن مشروع زواجها مني أمام هذا الشرط المعجز‏,‏ وبدأت الحديث معها بحذر شديد إلى أن وصلت إلى الشرط القاسي وفوجئت بها تتقبل الأمر باستهانة‏,‏ وتقول لي إن ابنها سيكبر ذات يوم وينفصل عنها سواء أقام معها أم مع أبيه‏,‏ كما أنه لن يعجز عن زيارة أمه في أي وقت وهو مع أبيه أو جدته‏..‏ وأنها قد اختارت أن تتزوج من تحب  وسوف تدفع ضريبة ذلك راضية‏!‏

وتنفست الصعداء لاطمئناني إلى أن ارتباطنا سيمضي في طريقه المألوف‏,‏ لكني توقفت قليلا أمام تنازلها عن طفلها بهذه السهولة‏,‏ وتساءلت هل يكون ذلك دليلا على عمق حبها لي ورغبتها في فقط‏,‏ أم هو مؤشر أيضا لضعف أمومتها‏..‏ وتفضيلها لسعادتها الشخصية على أي اعتبار آخر ولو كان ابنها‏,‏ ولم أفكر طويلا في هذا الأمر‏..‏ ومضينا في الإجراءات‏..‏ وتم طلاقها وتوقيع التنازل عن ابنها‏..‏ وانتظرنا انتهاء فترة العدة في لهفة شديدة‏,‏ وتزوجنا وأقمت معها في شقتها التي ورثتها عن أبيها‏,‏ وكانت موضوع النزاع القانوني الذي عرفني بها وذلك إلى حين أستطيع تدبير مسكن آخر للزوجية‏.‏
ونهلنا معا من نبع الحب والعواطف الحارة‏..‏ وبذلت كل ما أملك من جهد لإسعادها‏..‏ وتعويضها عن حرمانها من ابنها‏..‏ وأنجبنا طفلا جميلا عمق الروابط بيننا‏..‏ وتحسنت أحوالي المالية كثيرا فدفعت مقدم ثمن شقة بمدينة نصر تليق بزوجتي‏,‏ وعشنا معا حياة جميلة معطرة بعبق الحب والعاطفة‏..‏ وقمنا برحلات سعيدة إلى المصايف والمشاتي‏,‏ وزرنا بيوت أهلها وأقاربها وبيوت أهلي وشهد لنا الجميع بأننا أسرة مثالية يجمعها الحب والتضحيات المتبادلة‏.‏ وأنجبت زوجتي بنتا أخرى اكتملت بها سعادتنا‏,‏ وسعيت لدعوة ابن زوجتي من زوجها السابق لزيارتنا ليتعرف على إخوته‏,‏ فلم أجد لديه ترحيبا بذلك بالرغم من موافقة والده‏,‏ ولم ينغص علينا حياتنا سوى جفاء هذا الابن لأمه‏,‏ لكنها بالرغم من ذلك تفهمت الأمر وقالت إنه سيأتي اليوم الذي يبحث هو فيه عن أمه‏.

ورحل عن الحياة المحامي المعتزل الذي كنت أستأجر غرفة في مكتبه‏,‏ فتفاهمت مع ورثته على شراء المكتب كله ودفع ثمن معتدل له‏..‏ وتم ذلك بالفعل وسعدت به زوجتي كثيرا‏,‏ وأشرفت على تنظيمه ووضع اللمسات الجميلة فيه‏..‏ وأصبح لي مساعدون وساع خاص‏..‏ وازداد نشاط المكتب فاشتريت أول سيارة لي‏,‏ وتسلمت شقة مدينة نصر وعرضت على زوجتي الانتقال إليها لكنها فضلت البقاء في شقة والدها‏,‏ حيث يعرفها كل الجيران وأصحاب المحال التجارية المجاورة‏,‏ وتشتري ما تحتاج إليه بالتليفون وتجد دائما من يقضي لها طلباتها‏..‏ ولم أعترض على ذلك‏,‏ لكن شيئا ما دفعني لأن أؤثث شقة مدينة نصر بالتدريج من باب الاحتياط‏,‏ فأصبحت كلما وجدت في يدي مبلغا طيبا من المال اشتري حجرة نوم مستعملة أو سفرة أو ثلاجة أو أنتريه‏,‏ حتى اكتمل تأثيثها على مدى سنتين أو ثلاث سنوات‏,‏ وكبر ابني وابنتي والتحقا بالمدرسة الابتدائية ورحل أبي عن الحياة يرحمه الله‏,‏ ومن بعده بشهور والدتي‏,‏ ولم يبق في بيت العائلة سوى أصغر إخوتي الذي يدرس بالجامعة بعد زواج بقية الإخوة‏,‏ وفي هذه الفترة شكت زوجتي من أسنانها‏..‏ فاصطحبتها إلى طبيب شاب للأسنان عرفته خلال إحدى القضايا التي كان طرفا فيها وهو شاب من أسرة غنية وطبيب ناجح وعيادته مزودة بأحدث الأجهزة‏,‏ وتطلب علاج أسنان زوجتي أن تتردد على هذا الطبيب عدة مرات‏,‏ فتركتها تذهب إليه وحدها بعد أن عرفت الطريق  إليه‏..‏ وشغلت بعملي وأسرتي‏ .. ولاحظت بعد فترة أن زوجتي قد أصبحت فجأة ضيقة الصدر وكثيرة العصبية مع الطفلين ومعي‏,‏ وسألتها عما بها فلم تفدني بشيء سوى بأنها تشعر بالتعب من خدمة الطفلين والاستذكار لهما والواجبات المنزلية وملل الأيام المتشابهة في كل شيء‏..‏ فقدرت أنها ربما تكون قد افتقدت ابنها الذي أصبح مراهقا الآن‏,‏ فسعيت سرا لمقابلته وحدثته عن أمه وواجبه في أن يصل رحمها ويتواد معها‏..‏ الخ‏,‏ فوجدته مغلق القلب من ناحيتها تماما ويتهمها بالأنانية وبأنها ضحت به من أجل رجل هو أنا‏..‏ وتحدث معي بروح عدائية تحملتها صابرا عسى أن أستطيع إقناعه أو التخفيف من عدائه لأمه‏,‏ ولكن دون جدوى‏.‏


وأبلغت زوجتي بما حدث بغير أن أشير لروح العداء التي أبداها ابنها تجاهها وتجاهي‏,‏ ففوجئت بها تثور علي ثورة عارمة‏..‏ وتطلب مني ألا أستجدي مشاعر ابنها من أجلها مرة أخرى‏,‏ وتقول لي إنه إذا كان لا يريد أن يرى أمه فهي بالمقابل لا تريد أن تراه‏!‏ وجفلت من ثورتها‏..‏ وعجزت عن تفسيرها والتزمت الصمت لكيلا تتضاعف ثورتها وغضبها‏..‏ لكن شيئا ما كان قد فسد ولم يعد في الإمكان إصلاحه‏..‏ فلقد كثرت ثوراتها العصبية علي وعلى الطفلين لأتفه الأسباب‏,‏ وخاصمتني إثر ثورة من هذا القبيل لأول مرة منذ زواجنا وحرمتني من نفسها ولزمت غرفة الطفلين لأكثر من شهرين‏,‏ وأنا أحاول أن أعرف أسباب كل هذا الغضب وأراجع نفسي وما صدر مني فلا أجد سببا جديا للخلاف‏..‏
ومرت هذه العاصفة دون أن أعرف تفسيرا لها‏..‏ ثم تكررت الزوابع والعواصف بعد ذلك كثيرا ولغير أسباب واضحة‏,‏ حتى فوجئت بها ذات يوم توسط لدي عمها في أن أغادر البيت إلى شقة مدينة نصر حتى تهدأ أعصابها وتفكر بهدوء في حياتها ومستقبلها‏!‏
وحاولت التفاهم معها فلم تبد أي استعداد لذلك‏,‏ فقررت أن أستجيب لطلبها مؤقتا عسى أن تمضي هذه العاصفة في سبيلها وترجع حياتنا إلى سابق عهدها‏,‏ وانتقلت إلى مدينة نصر‏,‏ وأصبحت أزور الطفلين كل يوم في طريقي للمكتب‏,‏ فلا تتبادل معي زوجتي كلمة واحدة‏,‏ وإذا رأتني دخلت أي غرفة وأغلقت بابها عليها حتى أغادر الشقة‏,‏ وإذا أرادت مني شيئا كتبت لي رسالة ووضعتها على السفرة‏,‏ وإذا اتصلت بها تليفونيا لا تجيب‏,‏ وأنا حائر في أمري وأتساءل أين ذهب الحب الذي جمع بيننا‏ 12‏ عاما كاملة ؟ وأين ذهبت التضحية من أجل الحب بأعز الأشياء؟ .. إلى أن جاءت الصاعقة التي لم أتوقعها في أي يوم من الأيام‏,‏ وطلبت مني زوجتي الطلاق .. لماذا ؟ لأنني لم أعد أحبك ولا أستطيع أن أحيا مع إنسان لا أحبه ؟ وماذا فعلت حتى فقدت حبك لي ؟ أنت مشغول عني بعملك وأصدقائك وأهلك ومعارفك‏,‏ ولا أسمع منك كلمة حب‏..‏ ولا تتذكر أنني زوجتك إلا حين ترغب في كامرأة‏,‏ كما أنك لا تقدم لي الهدايا ولم تشتر لي سيارة كما فعلت لنفسك‏..‏ ولم تقدم لي أية قطعة ألماسية أو ذهبية منذ زواجنا كما يفعل الأزواج المحبون‏,‏ ولا تذهب بي إلى الساحل الشمالي و‏..‏ و‏..‏ و‏..‏ الخ‏.‏

 

يا ربي أهذه هي كل شكواها مني ؟ وماذا عن الأولاد ؟‏..‏ وكيف تدمرين حياتهم العائلية من أجل مثل هذه الأشياء الصغيرة ؟‏,‏ وهل إذا فعلت كل ما تأخذينه علي تعدلين عن قرارك‏,‏ فيكون الجواب‏:‏ لا‏,‏ لأنه قد فات الأوان ولم يعد يجدي الآن أن تفعل أي شيء سوى أن تطلقني في هدوء إكراما للحب الذي جمع بيننا ذات يوم‏!‏
ورفضت الاستجابة لطلبها بالطبع وقدرت أنها قد تعيد النظر في موقفها ومسئوليتها تجاه الطفلين‏,‏ خاصة أنها قد جربت من قبل أثر الطلاق على ابنها الأكبر‏,‏ ووسطت لديها أخوتي وإخوتها وكل أهلها بلا فائدة‏..‏ وقررت أن أصبر عليها إلى أن تراجع نفسها‏,‏ وأواصل الرفض لأطول فترة ممكنة أملا في الإصلاح وإنقاذ الأسرة‏..‏ إلى أن جاء يوم وفوجئت بزيارة مفاجئة لي في المكتب من طبيب الأسنان الشاب‏,‏ لم أعرف سببها في البداية‏,‏ وظننته يريد أن يوكلني في قضية له‏..‏ فإذا به يحدثني عن زوجتي ويطلب مني أن أطلقها لأنها لا تحبني‏,‏ وإنما تحب رجلا آخر وتريد أن تتزوجه‏,‏ وهو هذا الطبيب نفسه‏!‏

وكدت أغيب عن الوعي وأنا أسمع حديثه‏..‏ وشعرت بأن كل كلمة نطق بها كانت خنجرا مسموما يحز في جسمي‏,‏ واسترجعت على الفور موقفي المماثل من زوجها السابق وحديثي القاتل إليه بكلمات مشابهة‏..‏ وأدركت كم كنت قاسيا ومتجبرا وأنا أحدثه بمثل هذا الحديث‏,‏ وأطعنه بلا رحمة في كرامته وكبريائه‏.‏
ولولا خشيتي من الفضيحة لهجمت على هذا الشاب وانهلت عليه ضربا وركلا ولكما‏,‏ لكني تمالكت نفسي بصعوبة بالغة وتعلقت بالخيط الأخير الذي أملت أن يعيد زوجتي إلى رشدها‏..‏ وتساءلت عن مصير الأبناء‏,‏ وقلت لهذا الشاب أنني لن أفرط في أولادي وسيكون الاحتفاظ بهم هو شرطي الوحيد للموافقة على الطلاق‏..‏ وهونت عليه الأمر بأن هذا الشرط لن يحول بينها وبين ما تريد‏,‏ لأنها قد سبق لها أن تنازلت عن ابنها من زوجها الأول حين تزوجتني‏,‏ وغادرني الشاب محرجا‏..‏ وسلمت باليأس منها وأنا أتعجب لنفسي ولحال الدنيا‏.‏ فلقد دارت الأيام وتجرعت نفس الكأس المرة التي جرعتها أنا للزوج الأول لزوجتي‏..‏ وخبرت مشاعره وهو يسمع من رجل غريب أن زوجته تحبه ولا تريده هو‏..‏ وشعرت بالتعاطف الشديد معه بعد أن أصبحت مثله ضحية لهذه الغادرة التي تتقلب عواطفها كل بضع سنين‏.


وتم الطلاق بعد أحداث كثيرة ومريرة‏..‏ وظللت متمسكا بالأمل في أن تتحرك مشاعرها تجاه أطفالها في اللحظة الأخيرة وتعدل عن مشروعها وتواصل حياتها الزوجية معي‏..‏ بل وصل بي الحال إلى أن عرضت عليها أن تستمر كما هي زوجة لي وتقيم مع أطفالها وأعيش وحيدا في شقة مدينة نصر إلى أن تغير رأيها ولو طال الأمر لعدة سنوات‏,‏ ولم تقبل‏,‏ وأصرت على الطلاق وتركت لي الطفلين ووقعت التنازل عنهما‏..‏ دون أن يهتز لها طرف وتزوجت طبيب الأسنان الشاب الثري ابن الأسرة الكبيرة‏,‏ الذي يملك شقة فاخرة وشاليها في مارينا وشاليها في العين السخنة‏,‏ وسيارتين أهداها واحدة منهما وقضيا شهر العسل في أوروبا‏..‏ وهي ناعمة البال‏,‏ وعشت أنا وحيدا  في شقتي بمدينة نصر مع الطفلين أخدمهما وأرعاهما وأذاكر لهما دروسهما‏..‏ وأغسل ملابسهما‏,‏ وأمهما سعيدة بحياتها الجديدة ولا يشغلها أمر ابنيها في شيء‏,‏ ولا تطلب أن يزوراها‏..‏ بل أنا الذي أسعى لترتيب لقائهما بها في أحد بيوت الأهل لكيلا تتأثر معنوياتهما‏,‏ وأحرص على ألا يكرها أمهما كما كرهها ابنها الأول‏,‏ حرصا عليهما هما‏,‏ وليس عليها‏:‏ وسؤالي إليك الآن يا سيدي هو‏:‏ ما هو تفسيرك لما حدث وماذا أفعل بحياتي ومع أبنائي‏..‏ وماذا تقول لي ولها؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

من لا تتردد في التخلي عن طفلها الوحيد استجابة لهوى النفس ودون أن تتريث أو تضع في اعتبارها مصلحة واستقرار حياته‏,‏ يسهل عليها أن تتخلى عن المزيد من أطفالها إذا فترت عواطفها تجاه الشخص الذي شردت ابنها الأول من أجله‏..‏ أو إذا تحركت مشاعرها المتقلبة تجاه فارس جديد ورغبت في أن تعيش معه أسطورة الحب الملتهب بضع سنين أخرى‏,‏ وليس من المستبعد أن تترك بعد ذلك أطفالها منه جريا وراء حب جديد أو مغامرة عاطفية مفاجئة‏..‏ ولم لا تفعل وهي لا تؤمن ـ كما هو واضح مما ترويه عنها ـ بمسئولية الأم عن إسعاد أبنائها واستقرار حياتهم والتضحية من أجلهم باعتباراتها الشخصية‏,‏ وإنما يحكمها المنطق الفردي السائد في مجتمعات الغرب‏,‏ والذي يرى أن هدف الإنسان الوحيد هو السعادة‏,‏ وأن كل ما يحقق له سعادته مطلوب ومرغوب بغض النظر عما يترتب عليه من إضرار  بالآخرين أو تكدير لصفو حياتهم‏.

 

لأن المهم هو الأنا وليس الـ نحن‏,‏ والأهم هو سعادة الفرد وليست سعادة أبنائه أو صغاره أو من يتحمل المسئولية عنهم‏.‏ ومثل هذا المنطق ينكر بالطبع التضحية من أجل الأبناء أو من أجل أية اعتبارات عائلية وإنسانية مهمة‏,‏ وقد أدى الإيمان به إلى ارتفاع نسب الطلاق في المجتمعات الغربية إلى ما يقرب من‏ 45 ‏أو‏50‏ في المائة من حالات الزواج‏,‏ ولا عجب في ذلك إذا كان الجميع يبحثون عن سعادتهم الشخصية بغير أن يتوقفوا أمام مصلحة الأبناء وأمانهم‏,‏ مما يذكرنا بقول أديبة أمريكية شهيرة إن بعض الأمهات يتعاملن مع أبنائهن كما تفعل أنثي الضفدع مع صغارها‏,‏ إذ ما أن تضع الأنثى بيضها على حافة المجرى المائي وتخرج منه صغارها حتى تتركها لنفسها وتنصرف عنها وتدعها لتواجه أقدارها بلا حماية ولا رعاية من جانبها‏.‏
وهكذا تفعل في ظني كل من لا تضع مصلحة أبنائها في اعتبارها‏,‏ وهي تتخذ قراراتها المصيرية التي تنعكس عليهم بالضرورة سلبا .. وكل من تبرر لنفسها هدم عشها وتشريد أبنائها بزعم الحب الذي لا سلطان لأحد عليه‏.


وقصتك يا سيدي خير دليل على ذلك‏,‏ فأسطورة الحب التي بررت لزوجتك السابقة ولك أيضا هدم حياة أسرة كانت هانئة وحرمان طفل صغير من أمه بدعوى الحب الذي لا حيلة لأحد فيه‏,‏ لم تصمد لأكثر من بضع سنين‏,‏ ولعلها كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة قبل هبوب العواصف والزوابع على حياتك العائلية قبل ذلك بأعوام‏,‏  مما يعني في النهاية أن هذا الحب العظيم الذي زلزل الجبال قد ذوت جذوته بعد ثلاث أو أربع سنوات على الأكثر ففترت العواطف‏..‏ وساد الملل‏..‏ وضعفت المناعة ضد الغزو الخارجي‏,‏ فكان ما كان من أمرها مع طبيب الأسنان‏.‏

إنني لا أريد أن أذكرك بدورك المؤسف في هدم حياة أم طفليك حين كانت زوجة لرجل آخر وأما لطفلها منه‏,‏ ولا أريد أن أذكرك أيضا بما فعلت مع زوجها الأسبق حين واجهته بحبك لزوجته ورغبتك في الزواج منها وهي مازالت عرضه وشرفه وشريكة حياته‏..‏ ولا أريد أن أذكرك بقسوتك عليه حين لم تترفق به‏..‏ ولم ترع حرماته ومشاعره باندفاع المسحور بالحب الزائف الذي لا يرى في الحياة إلا هدفه وحده‏.‏
نعم لا أريد أن أذكرك بكل ذلك مراعاة لما تكابده الآن من مشاعر مؤلمة في وحدتك وحيرتك في أمرك وأمر طفليك بعد أن هجرتك بطلة الملاحم العاطفية إلى فارس جديد‏..‏ وأيضا لأن الحياة قد تكفلت بتلقينك درسها القاسي‏..‏ فتكررت معك نفس الزيارة المفاجئة من رجل غريب عنك ليحدثك في أدق شئونك الخاصة ويواجهك بما يكره كل إنسان في الوجود أن يواجهه في مثل هذا الموقف العصيب‏..‏ بلا تحسس ولا استحياء‏!‏ وإنما سأقول لك فقط انك قد أديت ثمن ما فعلت حين خببت امرأة أي أفسدتها على زوجها وهو ما نهانا عنه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وحذرنا منه‏.‏ وانك تحملت عاقبة سوء تقديرك لشخصية زوجتك السابقة‏,‏ حين سعدت بتضحيتها بابنها من أجلك‏,‏ وغابت عن فطنتك في نفس الوقت دلالة هذه التضحية نفسها‏,‏ ومدى إشارتها إلى نمط شخصية زوجتك التي لا تعنيها إلا نفسها ورغائبها وأهواءها‏,‏ وإلى نوع القيم الأخلاقية التي تؤمن بها‏,‏ ولقد كان الأحرى بك أن تشقى بهذه التضحية في حينها وتحترس من صاحبتها لا أن تسعد بها‏..‏ وتشعر بالنشوة المؤقتة والرضا عن النفس من أجلها‏.‏

 

 والآن فإنك تسألني عما أقول لك ولها‏..‏ والحق أنني لا أريد أن أوجه إليها أية كلمة لأنه لن تجدي معها الكلمات‏,‏ وإنما أتوجه إليها فقط برجاء وحيد هو ألا تنجب المزيد من الأبناء في زواجها الثالث‏,‏ لكيلا تزيد عدد ضحايا تقلباتها العاطفية‏..‏ وقدرتها المذهلة على نبذ الأبناء‏..‏ وبدء حياة جديدة مع رجل آخر كل بضع سنوات‏.‏ وهي لن تخسر شيئا كثيرا إن استجابت للتضحية‏,‏ فأمومتها من الأصل ضعيفة‏,‏ وصبرها على عناء الأطفال قليل‏,‏ واستعدادها للتضحية بسعادتها من أجل سعادة الأبناء منعدم‏..‏ فلماذا تجيء إلى الحياة بالمزيد من الصغار الذين يتعرضون بعد قليل للحرمان من أمهم‏.‏
أما أنت‏,‏ فإن نصيحتي لك هي أن تطوي هذه الصفحة كلها من حياتك‏..‏ وأن تنزع من نفسك كل أثر لأي ميل عاطفي قديم تجاه زوجتك السابقة‏..‏ وأن تحاول بعد فترة مناسبة من النقاهة النفسية أن ترمم بنيان حياتك وترتبط بسيدة فاضلة لا تبحث عن المغامرات العاطفية‏,‏ ولا تريد أن تكون بطلة لأسطورة جديدة‏,‏ لتكون أما ثانية وربما أولى لطفليك‏,‏ وشريكة رشيدة لحياتك‏..‏ ورفيقة عطوفا  لرحلة آمنة في الحياة بلا عواطف‏..‏ ولا زوابع ولا مغامرات‏!‏

رابط رسالة الخيال الجميل تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2004

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات