الخبر العجيب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 الخبر العجيب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

الخبر العجيب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


من سوء الطالع أن نحب من لا يحبنا .. وأن نخلص لمن لا يخلص لنا وأن نحرص على من لا يحرص علينا.

عبد الوهاب مطاوع



أثارت مواجعي رسالة "الصندوق المغلق" التي روى لك فيها شاب قصة فجيعته فى وفاء زوجته الشابة له, وكيف يعيش وحيداَ مع ابنه الذي يتعزى به عن الوفاء المفقود, فقررت أن أروي لك أنا أيضاً قصتي, منذ 23 عاماً رأيت زوجتي للمرة الأولى وأعجبت بها وتقدمت لخطبتها وتزوجنا وعشنا فى سعادة خالصة إلى أن حملت وأنجبت ابننا, وللأسف فقد أخطأ الطبيب المولّد وترك فى بطنها فوطة من الشاش, فعانت بسببها من مضاعفات عديدة واحتاجت هى لأكثر من جراحه أخرى إلى أن شفيت من المضاعفات ولكن بثمن باهظ هو عدم قدرتها على الحمل مرة أخرى.

 

وخلال تلك الفترة العصيبة التى أرهقتنا نفسياً ومادياً توفى والد زوجتي, واستطاع مالك البيت بطريقة ما الحصول على حكم بطرد أمها وإخوتها الصغار من شقتهم, فوجدت نفسي بصفتي زوجاً للابنة الكبيرة مسئولاً عنهم رغم ضآلة مرتبي ومرتب زوجتي, واستضفتهم جميعاً فى شقتنا, وواجهت مشاكل عديدة مع صاحب البيت الذى أقيم فيه والذى تصور أنى أؤجر لهم شقتي من الباطن, وترتب على ذلك علينا أعباء مادية إضافية, إلى جانب ما نعانيه من الظروف الأخرى لكننا تمكنا والحمد لله من مواجهة مشاكل صاحب البيت, ومضت بنا الحياة إلى أن تزوج الابن الذي يلي زوجتي فى السن, وبقيت معنا أمها وشقيقها الأصغر, ثم تزوج الابن الأصغر بعد عدة سنوات وبقيت معنا الأم, ولم أفكر لحظة فى لوم أحدهما لتركه أمه رغم سعه مسكنه ورزقه، وإنما قدرت أن لكل إنسان ظروفه ورضيت بحياتنا, وخلال تلك السنوات كنت قد شجعت زوجتي على استكمال تعليمها المتوسط لكي تنسى ظروفها مع ما ترتب على ذلك من أعباء مادية ونفسية أخرى كحضور زملائها بالعمل والمعهد للبيت لاستذكار الدروس معها وخلافه, وحصلت زوجتي على بكالوريوس المعهد, وتمكنت بفضل الله من نقلها إلى عمل أفضل بإحدى الهيئات مما جعل مرتبها يزيد على مرتبي, لكنى بعد قليل سافرت للعمل بإحدى الدول العربية فزاد رزقنا واشتريت لها أشياء كثيرة واستطعت تعويضها عن كل الظروف السابقة.

 

 واغتربت ست سنوات عُدت بعدها واشتريت شقة تمليك وسيارة, وطلبت مني زوجتي إعادة تأثيثها بأثاث لائق, فبعت السيارة واشتريت أثاثاً جديداً وكتبته باسمها دون أن تطلب منى ذلك, وواصلنا حياتنا إلى أن جاء يوم فوجئت بها تطلب منى أن أكتب الشقة باسمها أيضا .. ولم أجد مبرراً منطقياً لهذا الطلب فرفضت ففوجئت لها تطلب الطلاق! وتعجبت لهذا الطلب وفهمت أنها محاولة للضغظ علىّ للاستجابة لطلبها .. إذ ليس من المعقول أن تكون زوجتي جادة فى طلب الطلاق بعد 23سنة من زواجنا وبعد أن تخرج ابننا الوحيد من معهده وخطبنا له زميلته التى إرتبط بها, لكنها واصلت مطالبتي بالطلاق بإلحاح غريب وصاحب ذلك مضايقات واستفزازات عجيبة, وفجعتُ فى أمها وشقيقها الأصغر اللذين رافقانا معظم سنوات الرحلة فى مسكن واحد حين وجدتهما يؤيدانها فى مطلبها.

 

 وفى إحدى نوبات الاستفزاز استجبت لطلبها وطلقتها, ولكنى طلبت منها عدم مغادرة المسكن وإعطاء نفسها مهلة للتفكير بروية فى حياتنا, فليس من المعقول أن تنهار حياة زوجية بهذا الشكل المفاجئ بعد 23 عاماً من العشرة , وتركت للأيام تهدئة الخواطر الثائرة والانفعالات المؤقتة ثم انتهت شهور العدة وعدت ذات يوم من عملي إلى البيت فلم أجدها فى الشقة .. ولم أجد فى الشقة من الأثاث سوى الفراغ والخواء والصمت, فوجئت بأن زوجتي قد حملت الأثاث الذى اشتريته باسمها وتوجهت إلى مسكن شقيقها الأصغر, واستعدت توازني بعد قليل وتوجهت إليها عنده وطلبت منها أن تعود إلى بيتها.فأبت العودة إلا إذا كتبت الشقة بإسمها , وتألمت لذلك ألماً شديداً.

 

وتعجبت منها كيف هان عليها أن تتركني وابنها وحدنا فى شقة على البلاط فى عز برد الشتاء دون أن تفكر فى متاعبنا أو حياتنا فيها, وانصرفت حزيناً وعشت مع ابني فى الشقة الخالية على البلاط نواجه متاعب حياتنا الجديدة .. وبعد فترة علمت بأنها قد دخلت المستشفى لإجراء جراحه جديدة لفك إلتصاقات بالمعدة فتوجهت لزيارتها بالمستشفى وتمنيت لها الشفاء ورجوتها أن تعود لبيتها بعد كل ما حدث .. فرفضت بإصرار وانصرفت حزيناً وأنا أفكر هل تساوى الشقة كل هذا العناد وكل هذه الآلام .. وأين مكان ابننا الوحيد من قلب أمه وعقلها فى كل ذلك؟

ولم أصل لإجابة شافية عن تساؤلاتي, لكنى علمت بعد أيام بخبر عجيب هو أن أحد زملاء زوجتي بالعمل قد تقدم لخطبتها وأنها وافقت عليه .. ولم أصدق الخبر فى البداية ثم تأكدت منه فتوجهت إليها فى بيت شقيقها ودعوتها من جديد للعودة للبيت وفتح صفحة جديدة فى حياتنا الزوجية, فلم تقبل بل ورفضت أيضاً أمها وشقيقها الأصغر سامحمها الله, وسَكت ذاهلاً لحظات ثم سألتها عن الخبر العجيب الذى سمعته, فإذا تؤكده لى وتضيف عليه أنها سوف تتزوج قريباً وأن زوج المستقبل سوف يكتب لها شقة بإسمها !

 

وتساءلت: وماذا عن ابنك الوحيد يا سيدتي ؟ فأجابت بأنه قد كبر الآن وسوف يتزوج ويصبح له بيت ذات يوم .. وسوف يفهم موقفها جيداً ولن تتأثر علاقتها به .. وتأكدت من أنه لا أمل فى محاولة تغيير رأيها فسألتها عن شخص العريس المرتقب .. فإذا بى أصدم صدمة أخرى أشد وهو أحد زملائها بالعمل الذى كثيراً ما دخل بيتي ورحبت به واعتبرته من أصدقائي , ولم أجد ما أقوله فانصرفت وأنا أكثر حزناً, وعلمت فيما بعد من زملائها بالعمل أن القصة قديمة وأنهم كانوا يخشون إبلاغي بها لعدم تأكدهم منها.

 



 

ولــكاتـــب هـــــذه الرســـالة أقـــول:

من سوء الطالع أن نحب من لا يحبنا وأن نخلص لمن لا يخلص لنا وأن نحرص على من لا يحرص علينا .. ومن حقك يا صديقي بكل تأكيد أن تشعر بالمرارة والألم, لكنه ليس من حقك أبداً أن تشعر بالخزي أو عدم الاعتبار , فما واجهته قد يواجهه أى رجل قد يفجع فى وفاء شريكة عمره, وأي امرأة قد تصدم أيضاً فى شريك عمرها, وما أكثر الوفاء وما أكثر الغدر أيضاً لكنها الحياة التى ترينا من صور الوفاء ما نحبها من أجله أحياناً, ومن صور الغدر ما نضيق بها من أجله أحياناً أخرى .. لكن يبقى دائماً أن الوفاء هو القاعدة وأن الغدر هو الخروج عليها .. لهذا ننزعج له بشدة وترتج علينا الأمور حين نصطدم به ونفقد أحياناً الثقة فى النفس والاعتبار, ولا عجب فى ذلك لكنه ينبغي دائماً ألا يتجاوز حدود التأثر الطبيعي لإنسان له مشاعر البشر وأحاسيسهم ,ولفترة محددة لابد أن نستعيد بعدها توازننا وتقييمنا الصحيح للأمور ونعرف عن يقين أن من غدر بنا فلقد خسرنا كما خسرناه, وأن هناك على الجانب الآخر من هو على استعداد لأن يرحب بنا ويرى فينا هبة الحياة له .

 

ومنتهى أمله فيها .. لكننا لم نلتق به بعد .. وسوف نلتقي به بالضرورة بعد أن تحررنا من أسر الماضي وقيوده, ولسوف نحس معه بأننا أخيراً قد أصبحنا على الطريق الصحيح لحياتنا, وربما اكتشفنا أيضاً أن كل ما مضى من العمر قد كان ضرباً على غير هدى فى صحراء التيه والحيرة, وجاء أخيراً أوان الاهتداء إلى واحة الأمان والسعادة الحقيقية .. فهوّن الأمر على نفسك يا صديقي .. ولا تنشغل بأمرها ولا بماذا تستطيع أن تقدم لزوجها الجديد أو لا تقدم, فما يعنينا الآن هو تحجيم خسائرنا النفسية والصحية ومحاصرتها حتى لا نبدد ما بقى لنا من عمر فى المعاناة واجترار الآلام.والحق أنني لم أقتنع منذ البداية بقصة الشقة التمليك كمبرر للطلاق من جانبها, وأحسست دائماً أنها مجرد ذريعة للتمسك به .. وتغيير حياتها .. وبدء صفحه جديدة منها مع الطرف الآخر.بل لعل لو كنت قد قبلت طلبها بمنحها الشقة لما تغيرت النتائج .. ولبحثت عن مبرر آخر للرفض والتمسك بالطلاق.

 

فالقصة قديمة فعلا كما قال لك زملاؤها بعد فوات الأوان, ومن تُقدم على هذه الخطوة الحاسمة فى مثل عمرها لا تثنيها عنها الاستجابة لمطب مادي كالشقة أو كغيرها, ولا شك أن زواجها ممن ارتبطت به هو فى النهاية أكرم لكل الأطراف من استمرار الوضع الخاطئ رغم تعارض ذلك مع مسئوليات الأم تجاه ابنها الوحيد .. وتجاه قيم كثيرة فى الحياة كالوفاء والعرفان وغيرهما, لهذا فدعنا من أمرها فلقد اختارت لنفسها ما أرادت , ولها عاقبة ما اختارت وعليها تبعاته, لكن من لم تضح من أجل ابنها بمغالبة هوى قلبها .. وارتضت له أن تعرضه لهذه التجربة القاسية على نفسه مهما خففت من آثارها عليه بدعوى أنه سوف يفهم ويعذر ,ليس من حقها أن تتحدث عن تضحية الأب من أجل ابنه أو أن تلقى على أحد دروساً فى التضحية وإنكار الذات من أجل الأبناء.

 

فلقد اختارت لنفسها ما يتعارض معها, فأفعل أنت ما يمليه عليك ضميرك وواجبك تجاه ابنك بغض النظر عن رأيها بشأن الشقة .. فأنت الأب المسئول عنه وعن تيسير سبل الزواج له سواء أوفت الأم بعهدها أو لم تف , فإن شئت أن تهبه تك الشقة , فأفعل حباً وكرامة .. وإن شئت ألا تفعل فلعلك تستطيع أن تعينه على أمره بطريقة أخرى .. وفى العمر متسع بعد ذلك بإذن الله لتضميد الجراح وبدء صفحه جديدة من حياتك مع إنسانة أخرى تخفف عنك وحدتك, وتعيد إليك الأمل فى كل شئ جميل فى الحياة, وتأكد أنك حين تلتقي بها سوف يصبح ما عانيناه من آلام وكأنما كان خبراً مؤلماً قرأناه ذات يوم فى صحيفة قديمة .. وتأثرنا به بعض الوقت ثم شغلتنا الحياة عنه بانفعالاتها ومؤثراتها.


رابط رسالة الصندوق المغلق

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في ابريل عام 1993

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات