الصندوق المغلق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
لا أعرف لماذا أكتب إليك ولا ماذا أريد منك ، لكني أحس بأنك قريب مني بشكل ما وأنك ستعطيني من اهتمامك وفهمك ما قد لا أجد حولي .
فأنا شاب أو
رجل في الثانية والأربعين من
عمري نشأت بين أبوين طيبين وتخرجت في إحدى الكليات وساعدتني الظروف على العمل
بهيئة عامة مرموقة ، وكان أبي بعيد النظر .. فاقتطع من قوته ما دفعه كمقدم بسيط
لشقتي تمليك لي ولأخي الوحيد في منطقة كانت وقتها نائية في المعادى وظل يدفع
أقساطها بصبر وجلد إلى أن تخرجنا وعملنا وتحملنا عنه عبء باقي الأقساط وشكرنا له
نحن ذلك وتعاونا معه على جهاز شقيقتنا الوحيدة حين تزوجت ونجحنا بفضل الله وبالحب
الذي يجمع بيننا في أن نزفها إلى زوجها بأفضل مما تسمح به إمكانياتنا ، ويكفى أن
أقول لك أنني وشقيقي ظللنا ثلاث سنوات بعد عقد قرانها ندفع مع أبی أقساط الأثاث
والديون ولا يبقى لى ولشقيقي من مرتباتنا سوی تکالیف المواصلات وربما من الشاي
والقهوة في العمل .
ولم يشعر أحد من الأهل والأقارب بما نحن فيه
من ضيق وتكفينا سعادة أختي مع زوجها الفاضل ونظرة الحب والعرفان في عينيها واهتمامها بنا ،
ودعوات أبي وأمي لنا في الغدوة والروحة ، واطمئنان ضميرنا إلى أننا قد أدينا واجبنا
.. ثم خطب أخي شقيقة أحد أصدقائنا وفعلت معه ما فعلت مع شقيقتي من قبله فظللت لمدة
عامين أسلمه مرتبي أول الشهر ما عدا مبلغا بسيطا للمواصلات والنثريات وهو يكتب كل
ما يأخذه مني في "النوتة" لأنه كما قال ليس مسئولا منی کشقيقتنا وإنما
هي ديون سوف يؤديها إلى حين ميسرة ، وتزوج شقيقي وهو في السابعة والعشرين وسعد
بحياته الجديدة وأكرمني الله بعمل إضافي في شركة خاصة فدر علي أكثر من ضعف مرتبی
من الوظيفة وعوضني عن الحرمان الذي تحملته خلال السنوات الماضية وأراد أخي بعد
زواجه بعام أن يبدأ في تسديد دينه لي فرفضت لأن زوجته حامل وطلبت منه أن يدخر ذلك
إلى أن أتزوج وأحتاج إليه .. فسألني : ومتى تتزوج يا أخي ؟ ووجدت نفسي أتأمل
السؤال نعم لماذا لم أتزوج وقد قاربت الثلاثين ؟
لقد أمضيت سنوات الجامعة والعمل بغير أن تكون
لى أي تجربة عاطفية ورغم شخصيتي الاجتماعية .. وروحی المرحة . ولقد تقربت مني أكثر
من زميلة خلال الدراسة وبعد العمل لكني لم أتجاوب مع إحداهن وحين تزوج شقيقي
الأصغر أحس أبي وأمي بالقلق تجاهي وعرضا علي أكثر من فتاة مناسبة فكنت أرى كل فتاة
وأحس بأن قلبي صندوق مغلق أمامها فأعتذر إلى أن يئسا مني ، وازداد انشغالي بعمل
بالشركة الخاصة وتضاعف دخلي منه فحصلت على أجازة بدون مرتب من وظيفتی وتفرغت له .
وكان عملي هذا يفرض علي إنهاء بعض المعاملات مع جهات مختلفة فكان الله يعينني على إنهائها بحسن تعاملي مع الناس وكثرة أصدقائي واستعدادي الدائم لخدمة الآخرين وكلا وفقني الله في إنهاء معاملة صعبة كافئني عليها صاحب الشركة مكافأة مالية كبيرة وعلا قدري عنده حتى أصبحت خلال عدة سنوات رئيسا لإحدى إدارات الشركة . وتحسنت أحوالي المالية واشتريت سيارة صغيرة ، وبدأت في إعداد شقتي الخالية بالمنطقة التي كانت نائية استعدادا ليوم أتزوج فيه .
وبلغت الثلاثين
ولم ينفتح بعد الصندوق المغلق لأية فتاة ، ثم أرسلني صاحب العمل لإنهاء معاملة
هامة في إحدى الهيئات العامة المرموقة فلاحظت تعنت المسئول الأكبر عنها في تعقدها
رغم وضوح الحق فيها .
وكنت أنهی
معاملاتی ببركة دعاء الوالدين وبالمجاملات والخدمات البريئة لمن يساعدني فيها ..
أما الرشوة فلا وألف لا . وحين شممت في الحكاية رائحة غير مريحة رجعت إلى صاحب
العمل وطالبته بأن يتحرى حقيقة الأمر مع هذا المسئول أو يوكله إلى غيري .
وأعفاني الرجل
مشكورا من المهمة .. ونسيتها .. وبعد حوالي شهرين فوجئت بصاحب الشركة يستدعيني إلى
مكتبه ويقدم لي فتاة تجلس أمامه بشيء من الكبرياء ويقول لي أنها موظفة جديدة في
إدارتی ويطلب مني تعليمها والاهتمام بها ، فرحبت بها وطلبت منها النهوض معي فخرجت
واستبقاني صاحب الشركة ليعطيني فكرة سريعة عنها .. فإذا به يقول لي أن هذه الفتاة
هي : الأمر الذي شككت أنا فيه عندما تعسرت في إنهاء تلك المعاملة مع الهيئة
السيادية الكبرى منذ شهرين ، فهي ابنة المسئول الكبير عنها وقد أراد تعيينها وتم
ذلك وبمرتب
مضاعف ، لكنها
مدللة وعصبية وقد تشاجرت مع رئيسها فرشحها للعمل معي لما يعرف عني من طول بال وصبر
إلى أن تنتهي معاملاتنا مع تلك الهيئة أو يحال رئيسها إلى المعاش قريبا فيفقد
قدرته على عرقلة أعمالنا !
وعدت لمكتبي
.. واستدعيت الفتاة وتلطفت معها في الحديث واخترت لها عملا سهلا.
وبعد يومين أو
ثلاثة فوجئت بها تدخل علي ثائرة لأن أحد الزملاء أهانها وأبدى ملاحظة على عدم
دقتها في العمل .. فردت له الصاع صاعين ولفت نظرها بحزم إلى أنه لا يصح لها أن
تجيب بهذه العصبية على زميلها فانصرفت غاضبة ، ولم آبه لها ولاحظت أنها فضلا عن جرأتها
وشراستها مع الزملاء غير ملتزمة بمواعيد العمل وكنت أعرف أنه لا فائدة من أن أشكوها
لصاحب العمل لأنه لن يتخذ ضدها أي إجراء للأسباب المعروفة ، فحاولت أن أحافظ على
نظام العمل بأن ألومها بحزم على عدم الالتزام بالمواعيد فتلتزم أياما ثم تعود
للاستهتار إلى أن وجدت نفسي ذات مرة أكاد أرجوها أن تلتزم بالمواعيد مراعاة لعدم
إحراجي شخصيا وحتى لا تثير حقد الزملاء المطحونين عليها .. ففوجئت بها تقول لي بجرأة
علشان خاطرك أنت بس ، واحمر وجهی ، أما هي فلم يهتز لها رمش ثم غادرت مكتبي وهي
تشير إلي بيدها كما يفعل الأصدقاء في النادي .. های !
ومنذ ذلك اليوم أصبحت أول من يحضر إلى المكتب .. وآخر من يغادره وبالتزام مثالی بمواعيد العمل .. وبما يطلب منها أداؤه وحمدت الله أن استطعت حل مشكلتها لكني بدأت أشعر بأن مشكلتها مع العمل قد انتقلت إلى مكان آخر .. هو ذلك الصندوق المغلق الذي لم ينفتح لفتاة قبلها فلقد أحبتها واعترفت لنفسي بذلك بعد إنكار واستنكار طويل ، فهي من وسط عائلي ينتسب أو يدعى الانتساب لأهل النفوذ والسطوة في المجتمع وأنا من وسط عائلي عادي لا يعرف القوة ولا النفوذ وهي جريئة عنيدة مدللة .. قوية الإرادة إلى حد مخيف .. ترتدي ما يروق لها من ملابس ولا يهمها رأى الآخرين فيها وتفعل ما تشاء حين تشاء بلا تردد وطموحها بلا حدود وأنا شاب بسيط خجول متدین باعتدال ، أبی مدیر بالمعاش وأمی جامعية قديمة ودنیای بسيطة وهادئة .
لكن الصندوق المغلق انفتح يا سيدي على مصراعيه فقد جاءتنی بعد فترة وسألتني عن رأيي في التزامها في العمل فأجبتها بأنی مذهول لاستجابتها فقالت لي ببساطة : هكذا أنا دائما لا يستطيع أحد أن يفرض علي شيئا إلا بالحب .. وأنا أحببتك !
ووجدت نفسي
غارقا في هذه القصة التي لم أتوقعها ذات يوم .
وعرضت عليها
كل ظروفي ومخاوفي من الفروق الاجتماعية الكثيرة بینی وبينها وبين طريقتي في الحياة
وطريقتها .. فهزأت بكل شيء وأكدت لي أن الحب يهد الجبال .
واستشرت صديقي الأول وهو شقیقی فغاب عنى أسبوعا أو أكثر وجاءني بنتيجة استقصائه عنها وكانت خلاصة رأيه بعد التحريات أنها لا تصلح لي ليس فقط للفروق الاجتماعية بيننا وشخصيتها الجريئة .. ولكن لأنها أيضا متقلبة المشاعر ولها عدة تجارب عاطفية سابقة بدأت كلها من جانبها وانتهت كلها من جانبها أيضا!
ونصحني شقيقي
بالابتعاد عنها .. ولكن هيهات للغريق أن ينجو من قدر محتوم ، فسرت في طريقي ورغم
تحفظ أبي وأمي وشقيقتي بتأثير أخي إلا أن الجميع تمنوا لى السعادة مخلصين .. وبدأت
خطوات الزواج وعانيت من صلف والد فتاتي وأمها ما لم أكن أتصور أني سأواجهه ذات يوم
، وفوجئت بمطالب تعجيزية من جانب أبويها رغم وقوف فتاتي في صفی .. واستنفدت كل ما
ادخرته وانجدني شقیقی برد دینه وزاد عليه إقراضي مبلغا كبيرا وتعاون أهلي معي في
الحفاظ على مظهري أمام أسرة فتاتي التي بدا من الواضح أنها لم ترحب بی .
وتزوجنا والحمد
لله في شقة المعادي .. ونهلت من نبع السعادة البكر التي لم أعرفها من قبل ، وبدلا
من أن ينتهز صاحب الشركة فرصة انتهاء معاملاتنا مع الهيئة التي يعمل بها والد
زوجتي لمضايقتها في العمل حتى تضطر للاستقالة من نفسها كما هو المتبع في مثل هذه
الحالة إذا لم تكن مفيدة للعمل ، أصدر قرارا بزيادة مرتبها إكراما لى ونقلها
لإدارة أخرى في موقع آخر .
وبعد عامين
أنجبت حبيبتي طفلنا الأول ومضت الحياة حلوة جميلة .. حتى رغم "غلاسة"
صهري وتكبر بعض أهل زوجتي بلا مبرر وتذكرت تحذيرات المحذرين وحمدت الله أنها لم
تصح ..
وبعد انتهاء أجازة
الولادة عادت زوجتي للعمل ، وبعد فترة لاحظت أنها ضيقة الصدر برعاية طفلنا مع ظروف
عملها فعرضت عليها أن ندعه لأمي وأبي بعض الوقت فرحبت بذلك وأصبح الطفل يمضي كل
أيام الأسبوع في رعاية أمي ولا تستعيده زوجتي إلا يوم العطلة .. وبعد فترة أخرى
بدأت أسمع من زوجتي لأول مرة تأففا من ضيق معيشتنا رغم أنني أضع كل ما أكسبه من عملي
وهو كثير في يدها .. وضاعفت من ساعات عملي حتى أصبحت لا أكاد أتوقف عن العمل لأحصل
على دخل أكبر ومكافآت أكثر ، وكلما حصلت على مبلغ جديد أسرعت به إلى زوجتي الحبيبة
لعلها ترضى .
وحدث بيننا
نقاش بسيط لم أقل فيه سوى أنني لا أدخر جهدا لكي أكسب كل ما أستطيع كسبه من حلال
لأوفر لها الحياة التي تريدها ، فإذا بزوجتی تغضب لذلك وتترك البيت إلى بيت أبيها
بحجة أنها تحتاج إلى فترة لإراحة أعصابها ، وسألتها إن كانت تفضل أن تصطحب معها
ابننا فرأت إبقاءه مع أبوي ، وعدت إلى بيت أبي وأمي واكتشفت أنی محروم من رؤية
ابنی معظم الوقت فالتصقت به وبدأت أؤدی له كل ما يحتاج إليه من شئون ، وأنام وأنا
أحتضنه .. ومضى أسبوع ثم أسبوعان .. وكاد الشهر ينتهي ولم يجتمع شملنا بعد ، وكنت
خلال ذلك أتصل بها وأزورها من حين لآخر فأجدها مرات ولا أجدها مرات أخرى .
ثم عادت بعد
شهر كامل .. وعدنا لحياتنا معا مع اختلاف واحد هو أني أصررت على عودة طفلنا إلينا
لأني لم أعد أحتمل بعده عني ، ووافقت زوجتي على مضض بعد أن أكدت لها أني سأقوم بكل
شئونه
.. ولم أقصر
في إرضاء زوجتي .. لكني أحسست رغم ذلك أن شيئا ما في روحها قد تغير إلى الأبد ..
فهي واجمة معظم الأوقات .. شديدة العصبية .. لا تكاد تتحمل مداعبة طفلها لها أو
صوت بكائه إذا بکی كما أنها أصبحت تنفر من اقترابي منها ، وطلبت مني أن أنام مع
الطفل في غرفته لأرعاه في الليل بدلا منها لأن أعصابها مرهقة !
وكل ذلك وزوجتي
ترضي أحيانا قليلة فتبهج أيامي بقدرتها السحرية على خلق السعادة حين تريد ذلك ،
وترجع إلى صمتها ووجومها في معظم الأحيان .. فأعود للانزواء مع ابني في غرفتنا
ننتظر الفرج من السماء !
وشيئا فشيئا
لاحظت كثرة خروجها منفردة .. وكثرة تليفوناتها الغامضة واختفاءها من العمل في
فترات كثيرة مع عدم وجودها في بيت أسرتها .. وبدأ الشك يساورني تجاهها فبدأت أراقبها
وأنا أدعو الله أن يخيب فيها سوء الظن .. ولاحظت ملاحظات مؤلمة أحالت نهاري إلى
جحيم وليلى إلى عذاب طويل وصارحتها بشکوکی وملاحظاتي على أمل أن تطمئن قلبي وتنفيها
لأستريح .. فهاجت هياجا مدويا أتبعته بترك البيت غاضبة .. وانحنيت على ابني الوليد
المحروم من أمه منذ ولادته تقريبا وأفرغت فيه عاطفتي المكبوتة وفوجئت بعودتها بعد
أسبوعين على غير انتظار ، غاضبة أيضا کما خرجت وترفض مجرد الحديث معي ، وزادت
شکوکی لأنها شديدة الكبرياء ولابد أن وراء عودتها من تلقاء نفسها أمرا لا أعرفه
وبدأت أضيق عليها الخناق في الخروج ليلا وذات صباح خرجت إلى العمل وكانت منذ نقلها
إلى موقع آخر قد اشترت بمساعدتي سيارة صغيرة قديمة لتذهب بها إلى عملها ، فركبت سيارتها ..
ونزلت بعدها بدقائق وركبت سيارتي وتابعتها عن بعد ففوجئت بها تسير في طريق بعيد عن
طريق عملها ثم رأيتها تتوقف في شارع خال من المارة ثم تنزل من سيارتها وتغلقها
وتتجه إلى سيارة أخرى واقفة بجوارها ويجلس فيها شاب لا أعرفه ثم ركبت بجواره وبدأ
يتحرك بالسيارة وهما يتبادلان الضحك والابتسام والنظرات الرقيقة .. وهی تسوي له
شعره وهو يضع يده على شعرها ويداعبها بيده في خدها وهي ترد له المداعبة وانتهزا
فرصة خلو الشارع من المارة في الصباح وتبادلا قبلة سريعة ، ففقدت كل ما تبقى لي من
عقل ولم اشعر بنفسي إلا وأنا أصرخ بأعلى قوتي وأنا في سيارتي وأبکی بدون وعي ولا
إرادة وأندفع تجاههما أريد أن أصدمها وأموت ويموتان معي ، ولست أعرف ماذا حدث على
وجه الدقة وقتها ، فلقد اندفعت إليها فأحسا بی ورأتني زوجتي فصرخت .. وتفادى الوغد
صدمتي لا اعرف كيف فصدمت الحائط وغبت عن الوعي ، وحين أفقت وجدت نفسي في المستشفى
القريب وبجواری أبي وشقيقي .. ولم أصب بشيء خطير فلقد غبت عن الوعي من الصدمة
العاطفية وليس من صدمة السيارة وعدت مع أبي وشقيقي لبيتي وأنا أحس بالانكسار
والخزي والعار واحتضنت ابني الصغير وبكيت بمرارة .
وحصلت على أجازة
من العمل واعتصمت بالبيت لا أريد أن أغادره حتى لا أرى أحدا ولا يراني أحد.. ولم
يسألني أحد من أسرتي عن زوجتي الغائبة لكنهم أحسوا بان هناك شيئا يتعلق بها . وبعد
3 أيام من جلوسی صامتا محتضنا ابني في صدری معظم ساعات النهار والليل
صارحت
أبي وشقيقي بالحقيقة المرة وهي أنه لم تعد لي حياة مع هذه الزوجة التي تفانيت في
حبها ورعايتها وإرضائها .. فغدرت بي وأحالت حياتي إلى جحيم . وقلت لأبي أني مستعد
لإعطائها كل ما تريد إلا شيئا واحدا هو ابني لأنها لم تكن له في يوم من الأيام أما
ولن تكون . وطلقتها وأعطيتها مختلف حقوقها ما عدا حضانة الطفل .
وبدا
أبوها يهددني ويستخدم نفوذه في استدعائی كل يوم إلى قسم الشرطة .. بتهمة خطف ابني
. وبدأ الآخر ، شريك واقعة السيارة وهو من أهل النفوذ أيضا يستعرض عضلاته أمام
شريكته في الجرم المشهود ، وبدأ يتفنن في تلفيق التهم لي لتنغيص حياتي وإجباري على
الرضوخ لها لكني صمدت لكل ذلك .. وأصبحت كالمطارد أتنقل مع ابني بين شقق الأهل
والأصدقاء حتى إذا جاءت الشرطة إلى بيتي لم تجدني ولم تجد الطفل ، وعلى هذا الحال
عشت عامين طويلين بعت خلالها شقة الزوجية المنهارة واشتريت شقة أخرى في حي بعيد ،
وتوفي أبي رحمه الله خلال فترة المطاردة فبكيته بالدمع السخين ، وضممت أمي إلى
مسکنی الجديد مع ابني ، ثم هدأت الزوابع حولي لأن زوجتي السابقة تزوجت ذلك الشخص
الآخر ففقدت حماسها لاسترداد ابنها مؤقتا وخاصة أن مشاعرها كأم كانت أصلا ضعيفة
لكن زواجها لم يطل سوى ستة شهور شهدت كثيرا من الزوابع فقد اصطدمت طبيعتها العنيدة
الأنانية المدللة مع طبيعة أشد منها عنادا وصلفا ، فلم يستريحا يوما واحدا وتضاربا
عدة مرات وتشاكا للشرطة .. وشکته إلى رئاسته بعد أن أثخنها ذات مرة بالضرب
وبالحزام ، فنقلته رئاسته إلى منطقة نائية ثم طلقها بعد منازعات
مخجلة . فعادت
تنازعني في حضانة الطفل وعدت مرة أخرى لاستدعاءات الشرطة والمحاكم لمدة عام آخر ..
ثم هدأت العاصفة من جديد .. لأنها تصالحت مع زوجها الثاني فاشترط عليها ألا تضم
إليها ابنها . ومازالت الزيجة الثانية مستمرة بينهما منذ عامين لم يتخللها والحمد
الله أية أزمات سوی طلاق آخر والعودة بعده بشهور بحيث لم يبق لها إلا طلاق واحد
أدعو الله ألا يتم لكيلا تتذكر فجأة أن لها ابنا وتبحث عنه . ومع أن ذلك لم يعد
يخيفني لأن فترة حضانتها له أوشكت على الانتهاء بعد أسابيع .
وشقيقي وشقيقتي يلحان علي بأن
أنسى ما حدث وأتزوج من جديد .. لأمنح ابني المحروم أما أخرى بعد أن حرم من أمه
الأولى وإخوة يتساند عليهم في الحياة . وأنا أستجيب أحيانا لهذه الفكرة لكني أعود
فأفزع منها حين أتذكر صورتي وأنا أصرخ داخل السيارة وأندفع بها في عمى جنوني لأصدم
الغادرة والغادر اللذين طعنا قلبي ورجولتي في الصميم .. إنني أنام كل ليلة محتضنا
ابني وأفكر هل اختارت لنا الأقدار أن نمضي حياتنا وحيدين معا للنهاية ؟ إنني أعرف
أن الخير كما تقول دائما في ردودك هو الأصل في الحياة وان الشر هو الاستثناء
المفزع وأن الفاضلات هن الأغلبية العظمى لكني أعرف أيضا أن الخيانة قاسية جدا يا سيدي
ولا أريد أن استرجع مرارتها مرة أخرى .. فماذا تنصحني أن أفعل ؟
ولکاتب هذه الرسالة أقول :
أنت ياصديقي
تعرف كل مايمكن أن يقال في مثل هذه الظروف ، لكنك رغم ذلك مشفق على نفسك من تكرار
المحنة الأليمة وفي البداية لابد أن أقول لك أن مخاوفك هذه منطقية من الناحية
النفسية لأن الخبرة المؤلمة التي نتعرض لها تزيدنا إشفاقا على أنفسنا من احتمال
تکرارها أو احتمال تعرضنا لها مرة أخرى ، لكن هذه المخاوف ليست منطقية من الناحية
العملية ، لأنه ليس من العدل أن نحكم على النوع الإنساني كله بتجربتنا الشخصية مع
أحد أفراده أو
بعضهم كما أنه ليس من المنطق
أيضا أن نتصور أننا سنلقى دائما سوء الجزاء ممن نأمن إليهم ولا نحمل لهم إلا الحب
والوفاء .
ذلك أن لكل
تجربة إنسانية ظروفها الخاصة والعوامل التي أسهمت في إنجاحها أو فشلها ، ولا شك أن
تجربتك مع زوجتك السابقة كانت مرشحة للفشل منذ البداية لاختلاف الطبائع واختلاف
عالم كل منکما وطابع شخصيته عن الآخر .. ولجرأة فتاتك على الاقتحام والانسحاب أو
بدء العلاقات وإنهائها بقسوة کما قيل لك بوضوح قبل الزواج ولكن
هيهات للغريق
أن ينجو من قدر محتوم کما قلت أنت صادقا في رسالتك .
إذن فسوء
الاختيار من البداية هو المسئول عن النهاية المأساوية وليس أي شيء آخر ، ولا شك أن
الإغراق في الحب لا يسمح للإنسان باتخاذ القرار السليم بشأن من يحب أو بتقييمه
التقييم الصحيح لهذا فإن الحب المبصر ، أكثر قدرة على الاختيار السليم من الحب "الأعمى"
الذي تغيب معه كل القدرة الواعية على التقييم الصحيح .
والحياة تصحح
أخطاءها بطريقة تدريجية أحيانا فتفرق بين من لم يكن منطقيا أن يلتقوا من الأصل
وتجمع بين من كان ينبغي أن تجمع بينهم من البداية وكل ما يأمله المرء هو ألا يكون
لهذا التصحيح ضحايا أو آلام تجل عن الاحتمال کآلام تجربتك هذه .. ولاشك أن زوجتك
السابقة لم تكن تصلح لك ولا كنت تصلح لها ، لكن الكارثة الإنسانية تبدأ حين يصر
الإنسان على أن يخالف كل القواعد والأعراف والأصول المتبعة بدعوى أن القاعدة الذهبية هي أنه
ليست هناك قاعدة عامة لأي شيء ، كما قال ساخرا ذات مرة برناردشو .. أو بدعوى أن
الحب وحده قادر على أن يهد الجبال كما قالت لك فتاتك في البداية مع أنه لم يثبت حتى الآن أنه
وحده قادر للنهاية على حل دائم لمشكلة كمشكلة تنافر الطباع .
والمؤكد أن
زوجتك تستحق ذلك الآخر ، كما يستحقها وأن كلا منهما هو جائزة الآخر أو عقابه بمعنى
أصح .. ولكل شيء آفة من جنسه.
ولست أدري بعد
كل ذلك سببا لتخوفك من تكرار تجربة الزواج رغم حاجتك النفسية والعاطفية إليه .
فالحياة لن تكون دائما رحلة متواصلة من العثرات والمحن يا صدیقي ، وسوء الحظ الذي
صادفك في هذه التجربة ليس منطقيا أن يتكرر بنفس التفاصيل لأنك في النهاية لست
مستهدفا من الأقدار بحيث تخصك بأن تضع في طريقك وحدك الغادرات والعابثات وإنما هي
محنة طارئة عبرت بك كما عبرت بغيرك المحن والخطوب .. وقد صبرت أنت لها إلى أن داوى
الزمن جرحك .. وأصبحت الآن
مؤهلا لأن تستجيب من جديد لنداء الحياة .. فلماذا الخوف والتردد يا صديقي ..
ولماذا تحرم إنسانة فاضلة من حقها العادل في الحياة بإحجامك أنت عن تكرار تجربة
الزواج وربما كنت أنت قدرها المقدور ؟
فحذار من أن تسمح للشك وسوء الظن بأن يحكما نظرتك للجنس الآخر أو لأي شيء في الحياة وإلا عجزت عن أن تحيا حياة طبيعية ذات يوم ، فحسن الظن بالحياة وبالبشر من كمال التوافق النفسي الذي يرشح الإنسان للسعادة والتوافق مع الآخرين فلا تفقد حسن ظنك بالحياة لمجرد أن غادرة قد وقعت في طريقك ولا تستشعر الخزي أو العار من جراء ذلك . العار الحقيقي إنما هو عار الغادر وليس عار المغدور به . واعلم أن الخيانة ضد طبيعة الإنسان السوي رجلا كان أم امرأة لأنها خروج على المألوف فاطمئن للغد .. واختر لنفسك ذات الدين والضمير والرحمة تأمن على نفسك وعلى ولدك دائما بإذن الله .
رابط رسالة الخبر العجيب تعقيبا على هذه الرسالة
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر