الحضن الخالي .. رسالة من بريد الجمعة 1993

 

الحضن الخالي .. رسالة من بريد الجمعة 1993

الحضن الخالي .. رسالة من بريد الجمعة 1993

 

أنا إحدى مدمنات بريد الأهرام وبريد الجمعة .. وقد شدتني رسالة "جبال الحزن" التي روي فيها قارئ فاضل عن أحزانه لوفاة ابنه الشاب , أعانه الله وعوضه عنه خيرا , وقد شجعني هذا على أن أكتب رسالتي هذه لا لأقول لهذا الأب الحزين انس ابنك فهذه عبارة من لم يجرب لوعة الحزن وألم الفراق , وإنما لأقول له حاول أن تتناسى حزنك عليه لفترات مؤقتة تطول في كل مرة عن سابقتها .. فيطول الوقت تدريجيا بين كل نوبة حزن وأخرى , وأن تتخيل أن ابنك قد هاجر إلى مكان ما أو سافر للعمل في الخارج ولن يستطيع الحضور لفترة طويلة .

وهكذا فهو مسافر دائما .. والمسافات بعيدة والمدة قابلة للتجديد وبدلا من دعائك له بالتوفيق في العمل فليكن الدعاء له بالرحمة والمغفرة .. وأن تقرأ القرآن وتهبه له .. وتصلي كثيرا , ففي الصلاة راحة للقلب المعذب .. ولست أقول هذا من فراغ .. فما ينبئك مثل حزين .. فلقد فقدت أنا أيضا ابني الصغير ذا السنوات الأربع وخمسة شهور .. الزهرة المتفتحة .. الذكي .. المؤدب .. المطيع .. صاحب الابتسامة الساحرة .. ابني الذي عشت معه الأمومة الفياضة, بمعناها الحقيقي مع أن لي بنتين أكبر منه , لأنه لم يفارق حضني طوال السنوات الأربع والشهور الخمسة .. فهو معظم النهار في حضني .. وطوال الليل في حضني وكانت ابتسامة أو كلمة منه تنسيني الدنيا .. وإذا رأيته لا تشبع من النظر إليه ومن صورته الجميلة , ثم قبل أن يتم عامه الثالث هاجمه المرض اللعين فتغيرت صورته الجميلة إلى صورة لا يمكن لأحد أن يتخيلها حتى لقد كنا نخفيه عن أعين الناس حتى لا نؤذيهم بمرآه , وبدأنا رحلة العلاج المريرة وتعرض للموت بعد بدء العلاج وفقد الطبيب الأمل في نجاته تماما وبتنا ليلتنا نترقب أنفاسه .. وننتظر حلول الأجل .. فشاءت إرادة الله أن ينجو وأن يتماثل الشفاء وأن يعود إلى صورته الجميلة الأولى .. وعادت البهجة إلى قلوبنا , ثم فجأة هاجمه المرض مرة أخرى بعد 4 شهور ورفض أن يغادر بعدها .. وفي كل مرة يتلقى العلاج ثم يبدأ في التحسن ونفرح بتحسنه فلا تكتمل فرحتنا ويعود المرض للظهور مرة أخرى وهكذا متنا وعادت الروح إلينا في كل شهر مائة مرة .. أما طفلي الحبيب فقد تحمل آلامه في صمت وصبر كأنه شاب كبير.. وكان يفرح كلما رأى تحسنا في صحته , ويستيقظ من النوم إلى جواري ويضغط على يدي ويقبلها ويقول لي بحبك يا ماما .. وأجيبه بأني أحبه أنا أيضا وأتحسس جسمه العليل الضئيل وأدرك بقلبي أن عبارته ليست سوى صرخة ألم مكتومة .. وكلما لاحظت عليه عرضا جديدا من أعراض المرض بكيت من حسرتي .. فيمسك يدي ويقول لي معلهش يا ماما .. فأمسك دموعي رأفة به , أما عن علاقته بأبيه وحبه له فلا تكفي له عشرات الصفحات , ثم خلا حضني ممن كان يحتمي به .. والتصق به طوال عمره ومنه 17 شهرا من المرض الذي يهد الجبال , وخلال مرضه كنت قد حملت فأمرني الأطباء بضرورة التخلص من حملي لأنه غير طبيعي , فامتثلت لإرادة الله ومشيئته , أما ابنتي الحبيبة التي تبلغ من العمر ثماني سنوات فهي تعاني منذ 4 سنوات من نشاط كهربائي زائد في المخ .. وقد أعيانا الجري وراء الأطباء طلبا للشفاء , ولكن دون جدوى حتى الآن .. وبالرغم من أن كل الأطباء الكبار لم يقطعوا الأمل في الشفاء , إلا إني لا ألمس أي تحسن ولو طفيفا في حالتها يبعث فينا الأمل لنواصل الجهد والعلاج .. وعموما "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" وما دمنا على قيد الحياة فالأمل في الله لا ينقطع أبدا .. وقد نصحني كثيرون بالانجاب مرة أخرى لكني أرفض ذلك وأتساءل هل حقا سوف يرزقني الله بولد كطفلي الحبيب الذي فقدته في ذكائه وأدبه وحنانه وكل صفاته الجميلة .. وأخشى في نفس الوقت أن أغضب الله برفضي هذا وأجدني في حيرة وقلق لهذا الشأن.

 أسأل الله أن يعفو عنا جميعا ويلطف بنا ويرحمنا ونسأل السلامه والنجاة من آلام الدنيا وأن يخفف عن الأب كاتب رسالة جبال الحزن وعن كل جريح ومكلوم , وأن يثبت إيماننا جميعا ويقويه حتى ندخل الجنة وأرى ابني وأخذه في حضني مرة أخرى .. إنه مولانا ونعم المعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

ولـــكـــاتـــبة هـذه الــرســالـــة أقــــول:

 

وعليك وعلى مثيلاتك وأمثالك من الصابرين المحتسبين الآملين في رحمة ربهم ورضوانه ألف سلام  .. لقد ترددت يا سيدتي في نشر رسالتك المؤلمة هذه طويلا تحرجا من إيلام الآخرين بها , لكني لم أستطع في النهاية أن أخذل رغبتك النبيلة في مواساة كاتب رسالة جبال الحزن بها ولا أن أحرم جرحى الحياة العديدين من إطلاعهم على نصيحتك الثمينة لهم بالمباعدة بين نوبات الحزن تدريجيا ومحاولة تناسي الأحزان بتخيل سفر الأعزاء الراحلين وإيهام النفس مؤقتا بذلك إلى أن تبرد نيران الألم بعض الشئ .. ولقد انهالت علي الرسائل المحزنة منذ نشرت تلك الرسالة وحرت على كيفية مواساة صاحباتها من الأمهات الثكالى بغير إيلام الآخرين , فلعل رسالتك هذه تنوب عن كل هذه الرسائل في مواساة كاتب الرسالة الأولى .. ولعلها أيضا تخفف عن كل كاتبات الرسائل التي لم أنشرها بعض أحزانهن .. ثم عسى الله بعد كل ذلك أن يخفف عنك آلامك .. ويعجل لك بشفاء ابنتك الحبيبة ويحفظها عليك , وعساك أيضا أن تعيدي النظر في قرار الامتناع عن الحمل مرة أخرى , فالحق أن الحمل والانجاب من جديد لمن كانت في ظروفك هما أنجح دواء لأحزان الثكل وخير ما يساعدك على التفتح للحياة مرة أخرى بالاستعداد لتلقي عطية  السماء الجديدة إليك وتلقي تعويضها الذي تدخره لك .

فلا ترفضي عطايا السماء وتعويضها لك يا سيدتي , فلسوف يمتلئ بها حضنك الخالى مرة أخرى .. ولسوف تكون بشيرا بزوال كل الكروب إن شاء الله .. "وسلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار" .. صدق الله العظيم.

رابط رسالة جبال الحزن 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مارس 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات